موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٢٥ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢
الفنّ الخَلوق

اشخين ديمرجيان :

 

الفنّ "الخَلوق" من أهمّ مظاهر الرّقيّ والتقدّم والحضارة في الشعوب والأمم. وهو أقرب ما يكون إلى الطبيعة السمحة الخيّرة، وأبعد ما يكون عن التزييف والتصنّع، والتظاهر بغير الواقع. وهذا الفنّ يقودنا إلى أقصر الطرق التي تروي لنا كلّ ما خبّأته الشعوب في جوف الأزمان من ثقافة وتراث ووجدانيّة، كي نغوص بدورنا في لباب تلك الأمم دون قشورها، وفي قلوبها دون أقنعتها، وفي خفاياها دون مظاهرها السطحيّة.

 

يرتبط الفنّ الراقي ارتباطاً وثيقاً بالجمال ويُعدّ ضرورة مطلقة في حياتنا على الصعيدين الثقافي والفردي لأنّه يعكس معتقداتنا ويكشف تاريخنا وينقل أسلوب معيشتنا في الحياة. وبإمكاننا أن نختبر الفنّ على عدّة مستويات إمّا بمتابعة إنجازات الفنانين واهتمامنا بها، أو بإنتاجنا أعمالاً فنية سامية ننقلها إلى الآخرين ليكتشفوا هويّتنا الذاتيّة التي ننفرد بها عن سائر الفنّانين ونتميّز بها عنهم.

 

تصلنا ملامح الفنّان الأصيل وأسرار كيانه وذاته من خلال لوحاته الفنيّة أو تماثيله أو شعره أو كتاباته أو موسيقاه وأيضاً من خلال الفنون التطبيقية أي الأعمال الحرفيّة.  وجميع هذه الفنون تُنتج أعمالاً لها علاقة وثيقة  بالجمال وبالحسّ الفنّي الرفيع...

 

يُعتبَر الفنّ متعة للعين ، وراحة للنفس وبهجة للروح. وتتسرّب إلينا روح الفنان وأصداء روحه من خلال أعماله الفنيّة: لدى مشاهدتنا منظراً طبيعيّاً في لوحة رسمها، أو من خلال تحفة تنقلنا إلى معالم أخرى بعيدة...  والقطع الفنّيّة تُبيّن لنا رغبة الفنّان في تدوين تاريخ معيّن، أو الإشارة إلى إنسان عزيز على قلبه أو ذكر حدث معيّن في حياته، أو إلى رسالة يودّ إيصالها إلينا. ربّما أراد الفنّان أن يشير إلى عظمة الحياة وما وراء الطبيعة من غموض وأسرار. وآخر يلمّح إلى أفكار أو مشاعر يتكتّم عنها لا يريد البوح بها أو لا يستطيع . وآخر يتكلّم بموسيقاه أو بلوحاته الصامتة أو بالمواضيع التي يُغفلها، يتكلّم عمّا يجيش في قلبه من حب أو نقد. وهناك مَن يتّخذ موقفاً سياسياً مُعيّناً ويعمد مثلاً إلى استفزاز حكّام بلاده الطغاة  بفنّه المُعبّر الجميل، أو بقلمه أو ريشته الساخرَين!

 

الفنّ يساعدنا على فهم خلفيّاتنا وخلفيّات غيرنا من الشعوب. والفنّ الحضاري يرفع من المعنويّات ويصقل الأرواح ويرقى بالأخلاق ويحمل الأحلام إلى العلى، ويفسح لنا المجال لكي نتخيّل، ونتواصل، ونكتشف غوامض أنفسنا وذواتنا ونُعبّر عن مُعتقداتنا من خلال إبداعاتنا الفرديّة. أعظم قرار يتّخذه الإنسان هو أن يُدمج الفن في حياته الخاصة. وبإمكانه حينئذ وبعد دراسة وتأمّل عميقين أن يختار حقبة معينة من حِقَب الفن وأسلوب مُعيّن يستميله. ثمّ يستهلّ في التعبير عن مكنونات قلبه بإنتاجاته الفنيّة. هنيئاً لكلّ من يتّخذ قراراً في حياته للخوض في ميدان الفن الراقي، والبحث في أهمّيّة الإبداع الفنّي وفوائده.

 

وأخيراً نعلم جيّداً ما للفنّ الخَلوق من تأثير على تهذيب النفوس. كما أنّ نبضات الفنان المعبّرة ومكنونات أحاسيسه تقودنا إلى جوهر الحياة، ويسبق الفنّان سائر بني البشر في السعي نحو الجمال المُطلَق والكمال الأسمى أي الله جلّ جلاله.

 

ينبغي أن يكون هدف الفنان في الحياة :الاهتمام برسالة الحق والخير والجمال، أوّلاً وقبل كلّ شيء. وعلى الفنّان المؤمن أن يُضيف على تلك القيم نشر رسالة الأخوّة الإنسانيّة والعدالة، وأبوّة الله الساهر على خلائقه، والسعي إلى ارتقاء النّفس والجسد نحو العرش الإلهي. حينئذٍ يتحوّل الإبداع إلى صلاة وتواصل مع الله يفيضان غِنىً في نفس الفنان وقلبه، وينعكس ذلك على غيره من الأقرباء والأصدقاء والمُعجَبين به، وهكذا يكون قد أدّى جزءاً من رسالته الجوهريّة الفنيّة والسامية نحو الله والقريب، والتي تنبع من ضمائر شفّافة ما ابتلتها المدنيّة الحاضرة بصفاقة أو تعقيد.

 

خاتمة

 

يقول "لينك" أشهر علماء النفس في أمريكا: "لم يوجد بعد، ذلك البديل الكامل الذي يحلّ محلّ تلك القوة الهائلة التي يخلقها الإيمان بالخالق، وبناموسه الخلقي الإلهي في قلوب الناس".