موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١
الحقيقةُ والكَذِبُ والوَهمُ القاتِل

الأب أثناسيوس شهوان :

 

"الكَذِبُ عارٌ قَبيحٌ في الإنسانِ، وهُوَ لا يَزالُ في أَفواهِ فاقِدي الأدَب" (سفر يشوع بن سيراخ ٢٦:٢٠).

 

هناك قَولٌ شائعٌ بأنَّ جميعَ النَّاسِ يَكذِبُونَ بِنِسَبٍ مُتفاوِتَة، البَعضُ مِنهم يَكذِبُونَ إذا اضطرّوا لذلكَ، والبَعضُ يقولونَ إنَّ كِذبَتَهم "بَيضاء".

 

قد ينطَبِقُ هذا القَولُ على نِسبَةٍ لا بَأسَ بِها مِنَ النَّاس، ولكن بالتّأكيد ليسَ على الجميعِ، إلّا أنَّ الدِّراساتِ تُفيدُ بِأنَّ الكَذِبَ المَقصُودَ والمُتواتِرَ والمُمَنهَجَ يَصدُرُ في المُجتَمعاتِ عن مَجمُوعاتٍ ([1]) صَغيرَةٍ مِنَ النَّاسِ لا يَتعدّى مُعدّلُهم العَشرة بِالمِئة، ويُوصَفُ هَؤلاءُ بأنَّهُم يُتقِنُونَ فَنَّ الكَذِبِ، لِدَرَجَةٍ أنَّهم يُدعَونَ "كَذّابُونَ غَزيرو الإنتاج Menteurs prolifiques".

 

صَحيحٌ أنَّ هذهِ النِّسبَةَ قد تَبدُو ضَئيلَةً، إلّا أنَّ أضرارَها جَسيمَةٌ ومُؤذِيَةٌ جِدًّا، وخاصَّةً إذا كانَتْ تَصدُرُ عن أشخَاصٍ هُم في سُدَّةِ المَسؤولِيَّة. ويَسألُ باحِثُونَ في بَريطَانيا، أَعدُّوا دِراسَةً في هَذا المَجال: "مَن هُم هؤلاءِ الأشخاصُ الّذين يَكذِبُونَ تَقريبًا، في كُلِّ مرَّةٍ يَفتَحُونَ فيها أَفواهَهم؟ فيُجيبُونَ: "هُمُ الأصغرُ سِنًّا، ومِنَ المُرَجَّحِ أن يَكُونوا رِجالًا، ويتمَتَّعُونَ بِمَكانَةٍ مِهَنِيَّةٍ أعلى".

 

مَسيحيًّا، الرَّبُّ يَمقُتُ الكَذِبَ، لِذا نَقرأُ في سِفرِ الأمثال: "كَرَاهَةُ الرَّبِّ شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا الْعَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ"(أم ٢٢:١٢)، وأَكثَرُ من ذَلِكَ، يَربُطُ اللهُ الكَذِبَ بِالشَّرِّ فيقُولُ: "فَمُ ٱلْأَشْرَارِ أَكَاذِيبُ"(أم ٣٢:١٠).

 

وهنا نَطرَحُ سُؤالًا مُهِمًّا جِدًّا: لِماذا نَكذِبُ؟.

 

قد تَختَلِفُ الأجوِبَةُ وتتعَدَّدُ الحَالات، لِذا هُناكَ مَن يُبَرِّرُ كِذبَةً ما بِهَدَفِ حِمايَةِ نَفسِهِ أو الآخَرِينَ، وهُناكَ مَن يَقولُ إنَّ الكَذِبَ يَنبعُ مِنَ الخَوف، أمَّا المَوضُوعُ المُعالَجُ هُنا فَهو تَحدِيدًا الخِداعُ الّذي يُخفِي أنانيَّةً قاتِلَة، إن على صَعيدِ المُجتَمَعِ كَكُلٍّ، أو على صَعيدِ الفَرد، وهذا الخِداعُ مُدَمِّرٌ للآخَرينَ ولصاحِبِه في نِهايَةِ المَطاف.

 

كُلُّنا يَعرِفُ قِصَّةَ بينوكيو Pinocchio، ذاك الصَّبيِّ الخَشبيِّ الّذي كانَ يَطولُ أَنفُه في كُلِّ مرَّةٍ يَكذِبُ فيها. وقد تَكونُ قِصَّتُهُ مِن أَجمَلِ القِصصِ النَّافِعَةِ تَربويًّا للأولاد. وهُنا نَسألُ، تُرى لو أنّ أنفَ بينوكيو لم يكن يَطولُ ليَفضَحَه، هل كانَ سَيَستَمِرُّ بالكَذِبِ؟ هل تَوقُّفه عنِ الكَذِبِ كان بِسَبَبِ أنَّ أمرَهُ يُكشَف، أم لأنَّهُ اقَتنَعَ بأنَّ الكذِبَ أمرٌ سيّء؟ نَكتَشِفُ مَعَهُ في نِهايَةِ القِصَّةِ بأنّ الكَذِبَ أمرٌ سيءٌ للغَاية.

 

كُلُّنا يَحلُمُ أن يَعيشَ في مُجتَمَعٍ بَريءٍ وخَالٍ مِنَ الشَّوائِب، ولكنَّ هذا الأَمرَ ليسَ بِالأمرِ السَّهلِ إطلاقًا، لأنَّ المُجتمَعَ مُؤلَّفٌ مِن أفرَاد، والأمرُ يَتَطلَّبُ سُلوكًا صَحِيحًا على مُستوى كُلِّ منّا، بِالإضافَةِ إلى مُراجَعَةٍ دائِمَةٍ شَفَّافَةٍ لِذَواتِنا.

 

فَعلى صَعيدِ المُجتَمَعِ، ما يُخيفُ حَقًا هو أن تَذُوبَ الشَّخصانِيَّةُ، ونَتحوَّلَ جَماعَاتٍ نَمَطِيَّةً Stéréotype ، تَقودُها نَزعاتٌ مَريضَة.

 

صَحيحٌ أنَّه بِحَسَبِ إنجيلِنا، اللهُ خَلَقَنا لِنَكونَ عَائِلَةً واحِدَةً مُتَّحِدَةً بِالمَسيحِ يَسوع، ولكن في الوَقتِ نفسِهِ أعطى لِكُلِّ إنسانٍ كَرامَتَهُ الإلهيَّةَ وفَرادتَه، ونحنُ مَدعُوونَ أن نَجتَمِعَ بِالمَحبَّةِ الخَالِيةِ مِن عِبادَةِ الذَّات، لِيَكونَ أساسُ الجَماعَةِ صَلاةَ الأبانا، أي تَكونَ العِبادَةُ للخَالِقِ وَحدَه. فَبِتَقديسِ اسمِ اللهِ في حَياتِنا، وطَلَبِ مَلكُوتِهِ هَدَفًا في مَسيرَتِنا، وتَحقيقِ مَشيئتِهِ في ما بينَنا، نُصبِحُ عِندَها مُجتَمعًا تَنطَبِقُ عليهِ صفاتُ الإنسانِيَّةِ المُتألِّهَة.

 

والنمطيّة ليست بالأَمرِ الجَديد، فَحِقَبُ التَّاريخِ مَليئَةٌ بالأشكالِ النَّمطِيَّةِ للمُجتَمَعات، وقد يكونُ Joseph Goebbels، الذي كان وزيرَ الدِّعايَةِ Propaganda لأدولف هتلر، مِن أشهرِ الأشخاصِ الّذين اعتَمدوا مَنهَجِيَّةَ الخِداعِ والكَذِبِ المُتكرِّرِ لِجَعلِ الشَّعبِ الألمانيّ في صُورَةٍ نَمَطِيّةٍ واحِدَة، مِن أجلِ أن ينصَهِرَ في النَّازِيَّة. وكان يقول:" "إذا أذَعْنا كِذبَةً كَبيرةً، وواصَلْنا تَكرارَها، فسيُصَدِّقُها النَّاسُ في النِّهايَة". وكان يَعتَبِرُ أن بِمِقدارِ ما تَكونُ الكَذِبَةُ كبيرةً، تَكونُ قابِلَةً للتَّصدِيق.

 

وللتَّذكيرِ، "البُروبَغندا Propaganda" هي ([2]) "التَّعبيرُ عنِ الآراءِ أو الأفعالِ الّتي يَقومُ بِها الأفرادُ أوِ الجَماعاتُ عن عَمدٍ بِهَدَفِ التَّأثيرِ في آراءِ أفرادٍ أو مَجموعاتٍ أخرى أو في أفعالِها، لِخِدمةِ أهدافٍ مُحدَّدَةٍ مُسبَقًا، ومِن خِلالِ التَّلاعُبِ النَّفسيّ". وهذا التَّلاعُبُ يَشمَلُ نواحِيَ عَديدَةً، إتنيَّة، عِرقِيَّةً، عَشائِرِيَّةً، قَبَلِيَّةً وقَومِيّة، وأيضًا فِكرِيَّةً، عَقائِدِيَّةً، طَائِفِيَّةً، حِزبِيَّة وسياسِيَّة.

 

ومَن يُتابِعْ عَالَمَ الإعلامِ والإعلانِ عن كَثَبٍ، يُلاحِظُ حَركَةَ "بروبَغندا"، يُعمَلُ علَيها بِشكلٍ جِديٍّ ومَدرُوس، بِخاصَّةٍ في العالَمِ الافتِراضيّ الحاضِرِ Virtual world، وذلك بِهَدَفِ خَلقِ أنماطٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ المُستَخدَمِينَ، ليس فقط مِن أجلِ الكَسبِ الماديّ، بل أيضًا مِن أجلِ إدخالِ أفكارٍ هدَّامَةٍ مُغَلَّفَةٍ بِمُفرَداتٍ مَعرُوفَةٍ وراقِيَةٍ، ولَكِنَّ دَلالاتِها Connotations مُناقِضَةٌ لِمَفهومِها الحَقِيقيِّ والبَنَّاء، مثلَ كَلِمَةِ "حُريَّة" و"كرامة" و"سيادة" الخ... وهذا العَالَمُ الافتراضيّ واسِعٌ جِدًّا، خَطيرٌ جِدًّا، وتَتسرَّبُ انحرافاتُهُ إلى عُقولِنا بكثافة، وتُشَكِّلُ إدمانًا يَطلُبُ المَزيدَ والمَزيدَ، ويُدخِلُنا في هَلوسَةٍ نُسمِّيها "الحقيقة الوَهمِيَّة Illusion of truth/ Vérité illusoire.

 

وهذا الخِداعُ يأتي نَتيجَةَ التَّكرارِ الكَثير. وهذا التَّكرارُ يَجعَلُ عَمليَّةَ الاقتِناعِ بِالخِدعَةِ أكثرَ انسيابيَّةً Fluide، ولا يُصَدِّقُها المَرءُ فَحسب، بل يَبدأُ يُشَكِّكُ في ما يَعرِفُهُ، خاصَّةً إذا كانَ مُخالِفًا لِما يَتلقّاه. هذا طبعًا إذا كانَ المُتَلقّي إنسانًا غيرَ ثابِتٍ وغيرَ عَميقٍ، ويَتفاعَلُ سَريعًا، ولا يتأكَّدُ مِمّا يَسمعُهُ أو يَقرأُه، وما يَزيدُ الأمرَ شرًّا أن تَكونَ الخِدعَةُ مُنسَجِمةً مع ضُعفِ في شخصِيَّتهِ أو ثَقافتِهِ أو طَريقَةِ تفكِيرِه، فيزدادُ مرضُه تفاقُمًا.

 

ومَن يُشكِّكُ في هذا الكَلامِ أنصَحُهُ بِمُشاهَدَةِ فيلم The Social Dilemma، وسَيسمَعُ بِشكلٍ سافِرٍ ما يَقولُهُ مؤسِّسو أهمِّ شرِكاتِ التَّواصُلِ الاجتِماعيّ ومُدراؤها.

 

وهُنا أَتوقَّفُ عِندَ نُقطَةٍ بِغايَةِ الخُطورَةِ، ذَكَرَها Joseph Goebbels وهي: "البُروبَغَندا تَعمَلُ بِشَكلٍ أفضَلَ عِندَما يَكونُ أولئكَ الّذينَ يَتِمُّ التَّلاعُبُ بِهِم واثقينَ بأنَّهم يَتصرَّفُونَ بِمَحضِ إرادَتِهم". وكيفَ إذا أدَّت إلى ما نُسمِّيهِ ثَقافَةَ المَوت، بِحيثُ يُصبِحُ قتلُ الآخَرينَ، وحتّى قتلُ الذَّاتِ عَملًا بِغَايَةِ البُطولَة، ولا تُفرِّقُ هذهِ الثَّقافَةُ بينَ أطفالٍ، وأولادٍ وشبابٍ وكهول!.

 

نهايَةً وفي هذا السياق، أتذَكَّرُ عَددًا خاصًّا صدَرَ عن ([3]) Le Point حَولَ فَنِّ الخِداع، يَعرِضُ قوَّةَ كَلِماتٍ ثلاثٍ وهي: إغواءٌ وتَلاعُبٌ وغَلَبة Séduire, Manipuler et Vaincre. ويَقولُ في إحدَى مَقالاتِهِ إنَّ هذه الثُّلاثيَّةَ الشَّيطانِيَّةَ مَوجُودةٌ مُنذُ لَحظَةِ وُجودِ الإنسانِ، بَدأهَا الشِّريرُ وأكمَلَها أتباعُه، بِهَدَفِ إغواءِ الإنسانِ وتَخديرِه لِيُصارَ إلى ابتِلاعِه.

 

وكانَ الأستاذُ الجامِعيّ الفَرَنسيُّ المُعاصِرُ والمُتَخَصِّصُ في عِلمِ النَّفس Jean-Léon Beauvois، قد كتبَ في العام ١٩٨٧ أُطرُوحَةً بِعُنوان: "التَّلاعُبُ من أجلِ استِخدامِ الشُّرَفاء"، احتلَّتِ الصَّدارَةَ في المَبيعاتِ، معَ أنَّها حُورِبَت بِقُوَّة. ويَقولُ فيها إنَّ الحلَّ الأمثَلَ لِمُحارَبَةِ الخِداعِ هُوَ "الشَّكُّ Le Doute"، وأن نَكونَ يَقِظِينَ إذ يَقولُ حَرفيًّا Douter c’est être vigilant، أن تَشُكَّ يعني أن تَكونَ يَقِظًا.

 

ونَحنُ نُضيفُ إلى هذا القَولِ، ما سبقَه إليه بُولسُ الرَّسولُ مُنذُ أكثرَ من ألفَي سنةٍ "إمْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ"(١ تسالونيكي ٢١:٥). والحَسَنُ هُنا كَلِمَةٌ يُونانيَّةkalos ، وتَعني الشَّيءَ المُفيدَ والجَميل، وهذا ما خَلَقَهُ اللهُ مُنذُ البِدايَةِ (سفر التّكوين). فهل هناكَ أجملُ من ثَقافَةِ الحَياةِ الأبديَّةِ الّتي أعطانا إيّاها الرَّب يسوع المسيح؟ إليهِ نُصَلّي، آمين.

 

(النشرة اللبنانية)