موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٨ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢
الأخت باسمة خوري الأنطونيّة تكتب: مكرّسون على خطى الأنبياء
فيما يلي نص المحاضرة التي ألقتها الأخت باسمة خوري الأنطونيّة، تحت عنوان: "مكرّسون على خطى الأنبياء"، وذلك ضمن برنامج اللقاء الأول للمكرسين والمكرسات في سورية، والذي افتتح يوم الاثنين الموافق 17 كانون الثاني 2022، في بطريركيّة الروم الكاثوليك بدمشق.

الأخت باسمة خوري الأنطونيّة :

 

مكرّسون

 

في بحثنا عمّا هو التكرّس ومن هم المكرّسون، نقرأ في المعجم التالي: تكرَّس للــ: خصّص نفسَه لــ، ووقَفَها على، لكن هذا التحديد المعجمي لا يكفي لفهم كامل لِما هو التكرّس، بحيث لا نجد أنفسنا قد تقدّمنا أكثر بعد قراءتنا عمّا قبله.

 

في الحقيقة يبقى موضوع التكرّس غير مفهوم بالعمق، حتى من قِبَلنا نحن المكرّسوين والمكرّسات. فنحن نعلن عن قناعة بأن المسسحي يجب أن يكون مكرّسًا لله، كما لو كان مجبرًا على خدمته بفعل إرادة شخصية أو بقرار والتزام. ولكن ليس هذا ما تعلّمتا إياه كلمة الله، لأن ذلك يفترض منّا قوّة شخصية تنبع من ذاتنا، في حين أنه ليس للمؤمن هذه القوّة، بما أنه مات مع المسيح. فما تحثّنا عليه الرسالة الى روما  6: 13 "إجعلوا أنفسكم في خدمة الله" يأتي في الفصل الذي فيه يشرح الرسول بولس حقيقة موتنا مع المسيح. فالمسيحي قد حصل على حياة جديدة، والروح القدس هو قدرة هذه الحياة التي نلناها بالمسيح يسوع القائم من الأموات. المسيح إذًا هو مصدر هذه القدرة. وبالتالي فالتكرّس يمكن أن نقول: هو المسيح بدلاً مني: "لست أنا الذي يحيا، بل المسيح يحيا فيّ" كما قال الرسول (غل 2: 20). فالتكرّس إذًا لا يقوم بقرار تسليم الذات، بل بقبول المسيح بدلاً من ذواتناـ وبأن نعطيه المكان الأول وهو المكان الحقيقي في ذواتنا.

 

بتعبير آخر، إن ما يميّز المكرّس هو أنه لا يعرف في حياته سوى إرادة واحدة، هي إرادة المسيح، وأنه لا يبحث عن مجد سوى مجد المسيح، فهو محرّك حياته وهدفها، هذا ما أُعطي للرسول أن يحقّقه في النهاية: " لي  الثقة التامة بأن المسيح سيُمجَّد في جسدي الآن وفي كل حين، سواء عشت أو متّ. فالحياة عندي هي المسيح" (فيل 1: 20-21). اختفت الذات من أمام عينيه وملأ مجد الرب نفسه.

 

لكن التحديد الأفضل للتكرّس ما نقرأه في روما الفصل 12: 1 – 2: "أُناشِدُكُم، أيُّها الإخوةُ، بِرأْفَةِ اللهِ أنْ تَجعَلوا مِنْ أنفُسِكُم ذَبيحةً حَـيَّةً مُقَدَّسَةً مَرضِيَّةً عِندَ اللهِ. فهَذِهِ هِيَ عِبادَتُكُمُ الرُّوحِيَّةُ. 2 ولا تتَشَبَّهوا بِما في هذِهِ الدُّنيا، بل تَغَيَّروا بِتَجديدِ عُقولِكُم لِتَعرِفوا مَشيئَةَ اللهِ: ما هوَ صالِحٌ، وما هوَ مَرضِيٌّ ، وما هوَ كامِلٌ." وهو تكرّس مطلوب أن يتجسّد في حياتنا من خلال  نقاط أربعة: نداء الرب، الدخول في رؤيا الرب وكأنه يرى ما يراه الله، وعود الرب، والدعوة الى القداسة.

 

فالحياة المكرّسة ليست جمودًا، يمكننا فيها أن نستقرّ مرتاحين مع كل وسائل الرفاهية وبشكل دائم. فالكتاب المقدس في عهده القديم كما في عهده الجديد يدعونا الى التقدم، الى الحركة الدائمة، على المشاركة في مشروع الله للبشرية، بأن نكون في الكنيسة الحجارة الحيّة التي سبق فاختارها، ويؤكّد لنا وعوده بأن يكون معنا لنجاح رسالتنا.

 

في العهد القديم نقرأ عن:

 

- إبراهيم أنه سمع نداء الرب له بأن "يترك أرضه وبلاده وبيت أبيه... (تك 12: 1)؛ وكانت له رؤيا: "أجعل منك أمة كبيرة..." (تك 12: 2) و "تتبارك بك كل الأمم..." (تك 12: 3)؛ والوعود: "أباركك... (تك 12: 3)، "أنكر الى السما وعدّ النجوم [ ...] هكذا تكون ذرّيتك" (تك 15: 5، 6)، "إنه عهد أبديّ، به أكون لك إلهًا ولأبنائك من بعدك..." (تك 17: 7)؛ ثم دعوة الى القداسة: سر أمامي وكن كاملاً..." (تك 17: 1)

 

- وموسى الذي كان عليه أن يُخرج العبرانيين من مصر ويسير بهم مدة 40 سنة في الصحراء، سمع نداء الرب له يقول: "إذهب أُرسلك الى فرون وتُخرج شعبي أبناء إسرائيل من مصر!" (خر 3: 10) ؛ وكانت له رؤيا: "نزلت لأخلّص شعبي من يد المصريين، ولأخرجه الى أرض طيّبة وشاسعة، في بلاد يسيل منه اللبن والعسل..." (خر 3: 8) ؛ والوعود: "أنا أكون معك..." (خر 3: 12)، "أكون في فمك وأعلّمك ما تقول" (خر 4: 12)، "خذ بيدك هذه العصا بها تصنع الآيات" (خر 4: 17)؛ ثم دعوة الى القداسة: "أنت على أرض مقدّسة" (خر 3: 5).

 

- ويشوع الذي أدخل الشعب الى الأرض الموعودة، سمع نداء الرب له يقول:" قم واعبر الأردن أنت وكل هذا الشعب، الى الأرض التي أعطيكم إياها" (يش 1: 2)؛ وكانت له رؤيا: "تكون لكم هذه الأرض..." (يش 1: 4)؛ والوعود: "... أنا أعطيكم..." (يش 1: 3)، "الرّبَ في غَدٍ يأتي لكُم بِالعجائِبِ" (يش 3: 5). ثم دعوة الى القداسة: "احفَظَ جميعَ أحكامِ الشَّريعةِ التي أمرَكَ بِها موسى عبدي واعمَلَ بِها. لا تَحِدْ عَنها يَمينًا ولا شَمالاً" (يش 1: 7)

 

وفي العهد الجديد هذا هو النداء الذي تركه الرب يسوع المسيح لتلاميذه وبالتالي لكلٍّ منا: "فاَذهبوا وتَلْمِذوا جميعَ الأُمَمِ، وعَمِّدوهُم باَسمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُسِ، وعلِّموهُم أن يَعمَلوا بِكُلِّ ما أوصَيْتُكُم بِه" (مت 28: 19-20)، "... تكونونَ لي شُهودًا في أُورُشليمَ واليَهودِيَّةِ كُلِّها والسّامِرَةِ، حتّى أقاصي الأرضِ" (أع 1: 8). وأعطانا رؤيا ما يراه "أراني المدينة المقدس، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، وعليها هالة مجد الله" (رؤ 21: 10)؛ والوعد: "أنا أكون معكم الى انقضاس الدهر" (مت 28: 20)، "ها أنا أرسل لكم ما وعد به الآب..." (لو 24: 49)، "الروح القدس ينزل عليكم، فتنالون قوة، وتكونون لي شهودًا..." (أع 1: 8)؛ مع الدعوة الى القداسة طبعًا: "مشيئةُ اللهِ أنْ تكونوا قِدِّيسينَ" 1 تسا 3: 4)، "عيشوا حياةَ القَداسَةِ الّتي بِغَيرِها لَنْ يَرى أحدٌ الرَّبَّ " (عب 12: 14).

 

نداء، سمعناه جميعنا ونسمعه يوميًّا، ولكن هل ندخل في الرؤيا؟ وماذا نرى؟ هل لا زلنا نصدّق وعود الرب؟ وأين نحن من القداسة؟

 

 

على خطى الأنبياء

 

ونحن اليوم؟ هل بإمكاننا أن نكون أنبياء ورسلاً على خطى الأنبياء والرسل، وكيف؟ وعن أي نبوءة وأي أنبياء ورسل نتكلّم؟ نتحدّث في حياتنا اليوميّة عن النبوءة والأنبياء. فنقول لمَن يكلّمنا: أنا لست نبيًّا حتّى أعرف هذا الأمر. فمَن هو النبيّ وما معنى النّبوءة في الكتاب المقدّس؟

 

في اللّغة الفصيحة، فعل أنبأ يعني: أخبر، أعلم. أمّا في اللّغة العامّية، فيعني: رجم بالغيب وعرف مسبقـًا خبرًا لم يكن له علم به. أمّا بالمعنى الدينيّ العالق في أذهاننا، فالنبيّ هو، من جهّة، المُخبر عن الغيب أو المستقبل بإلهام من الله. ومن جهّة ثانية، هو المُخبر عن الله وما يتعلّق به. نتوقّف عند بعض الملاحظات عن النبوَّة والأنبياء في العهد القديم.

 

1- إنّ النبيّ، بمعناه الدينيّ، ليس هو فقط مَن يُخبر عن الغيب، بل هو، قبل كلّ شيء، إنسانٌ يتكلّم باسم الله. هو صوت صارخ أمام الله يهيّئ له الطريق. إنّه ترجمان الله ورسوله لدى البشر. يرى ما لا يراه الناس، لأنّه ينظر إلى الأمور بعين الله. هو إنسان حلّ عليه روح الربّ فاتّحد بالربّ اتّحادًا حميمًا.

 

2- النبوءة دعوة. فالله هو الذي يختار نبيّه ويدعوه ويرسله، ويطلب منه أن يعطي ذاته الكاملة قلبًا وفهمًا وروحًا، رغم الصعوبات والآلام التي يمكنه أن يتكبّدها في سبيل رسالته. يقول الربّ لإرميا: "قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرّحم قدّستك وجعلتك نبيًّا للأمم... لا تخف من وجوههم... هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك" (إرميا 1: 5 - 9).

 

3- رسالة النبيّ لها وجهان: وجه يتعلّق بالحاضر، ووجه يتعلّق بالمستقبل. فالنبيّ هو صوت صارخ أمام شعب الله، يُصلح الأخطاء ويشدّد على الأمانة لعهد الربّ ويدافع عن المظلومين والمساكين ويدعو الشّعب إلى التوبة الحقيقيّة وينظر إلى المستقبل نظرة كلّها رجاء، رغم الشّرور التي تلمّ بالشّعب ورغم القصاص الذي يحلّ به. يتطلّع النبيّ إلى الخلاص الآتي من عند الربّ، فيشجّع الشّعب ويطلب منه أن يتطلّع إلى المسيح المنتظر الذي يحقّق مواعد الربّ في شعبه. لنسمع أشعيا النبيّ يبكي على أورشليم فيقول فيها: "قد كانت مملوءة إنصافًا وفيها كان مبيت العدل. أمّا الآن فإنّما فيها قتلة... رؤساؤك عصاة أو شركاء للسرّاق، كلّ يحبّ الرشوة... لا ينصفون اليتيم. ودعوى الأرملة لا تبلغ إليهم" (أش 1: 21 - 23).

 

ولكن، رغم كلّ هذه التهديدات، يفتح النبيّ أفقـًا على المستقبل لينعش الرَّجاء في قلوب المؤمنين: "ويكون في آخر الأيّام أنّ جبل بيت الرّبّ يُوطّد في رأس الجبال ويرتفع فوق التّلال وتجري إليه جميع الأمم وينطلق شعوب كثيرون ويقولون: هلمّوا نصعد إلى جبل الربّ... وهو يعلّمنا طرقه فنسلك في سبله... يحكم بين الأمم ويقضي للشعوب الكثيرين... علمّوا يا بيت يعقوب لنسلك في نور الربّ" (2: 1- 5).

 

4- كيف كانت ردّة فعل الناس تجاه الأنبياء؟

 

لقد قاومهم معاصروهم ولم يفهموهم. اضطهدوهم فمات بعضهم ليشهد للكلمة. أمّا في ما بعد، لمّا تبيّن صدق نبوءتهم وظهر عمق كلامهم، تعلّق الشّعب بتعليمهم وأعاد قراءة ما كتبوا، ففهم مخطّط الله وإرادته في ما قالوا. هذه هي حالة إرميا، إذ رأى الجميع يتخلّون عنه ويضطهدونه ويعذّبونه. فصرخ أمام الربّ: "صِرتُ ضحكة كلّ النهار، فكلّ واحد يستهزئ بي... قد سمعت مذمّة من الكثيرين والهول أحاط بي. يقولون: "لعلّه يُخدع فنتقوّى عليه وننتقم منه... ملعون اليوم الذي وُلدْتُ فيه... لماذا أُخرِجتُ من الرّحم؟ لأرى التعب والألم وتفنَى أيّامي في الخزي" (إرميا 20: 7 - 18). ولكن إرميا هذا سيكون تأثيره عظيمًا في الأنبياء الذين أتوا بعده، في جماعة الأتقياء، جماعة مساكين الربّ.

 

5- لعلّ أكبر مناقض للأنبياء هم الأنبياء الكذبة. فهؤلاء لا يقولون كلام الربّ، لأنّه يبدو قاسيًا، بل يحرّفون كلام الله ويقولون ما يُرضي الملك والشّعب. فيسمع لهم الشّعب لأنّهم يقدّمون له الطمأنينة والسّلام ويجارون نزواته ورغباته. ولكنّ الشّعب سيكتشف خبثهم وشرّ كلامهم. وبعد فوات الأوان، يعود إلى أنبيائه الحقيقيّين الصادقين.

 

ولنا في أسفار الملوك حادثة بين الأنبياء الكذبة والنبيّ الحقيقيّ ميخا بن يملة. ذهب مَن يدعوه إلى الملك قائلاً له: إنّ الأنبياء قد تكلّموا بفمٍ واحدٍ بخير للملك. فليكن كلامك ككلام واحد منهم وتكلّم بخير. فكان جواب ميخا قاطعًا: "حيُّ الربّ. إنّما الذي يقوله لي الربّ إيّاه أقول". وسيكلّفه غاليًا قول الحقيقة: لطمة من أحد الأنبياء الكذبة والسّجن مع "قوت خبز الضيق وماء الضيق" إلى أن يرجع الملك بسلام. ولكنّ الملك سيموت في المعركة كما سبق لميخا وتنبّأ له بذلك.

 

هذا هو وجه الأنبياء في العهد القديم. كلّموا الشّعب باسم الله ووعظوه وشدّدوا همّته في طريق الرّجاء المشيحيّ. ولقد كان تأثيرهم عظيمًا، فهيّأوا شعب الله لاستقبال المسيح. والمسيح لم يتكلّم فقط باسم الربّ، بل كان هو كلمة الربّ، كان الكلمة التي أعلن الله فيها ذاته للبشر. وبتجسّده يشرك المؤمنين في وظيفته النبويّة فيكونون شهادة حيّة بعيش إيمانهم وحمل كلمة الله إلى محيطهم.

 

 

روح الله في الأنبياء (عاموس، هوشع، أشعيا 1-35، ميخا، أرميا).

 

شكّلت فترة إنقسام المملكة العهد الذهبي للأنبياء. لقد تحوّلت المملكتان الشقيقتان (الشمالية والجنوبية) الى عدوتين، أوصلهما خلافهما الى الزوال. لكن الكارثة الوطنية تحوّلت بفضل الأنبياء، الى مناسبة تعميق للإيمان، وفهم جوهري لمعنى حياة شعب الله الكامن في تحقيق دعوته. لقد عرف إسرائيل عبر التاريخ تجليات عديدة  لروح الله ؛ لقد اختبره من خلال "الإخوة الأنبياء"، واختبر قوته في جدعون وشاول. أما في عهد الإنقسام فسيتحوّل الأنبياء الكبار الى ناطقين بلسان الروح.

 

فهم الأنبياء أن الله أقامهم لتوعية الشعب اليهودي. لم يكن دورهم يقوم بإعلان ما سيكون في المستقبل، بل بتربية شعبهم من خلال تفسيرهم لمعنى الأحداث الإلهي، فنحن بالتالي قادرون أن نكون دومًا في مدرستهم، فنقرأ كلامهم ونتّعظ، لأن في كتاباتهم دعوة لنا لنميّز الأشياء كلها تحت أنوار الحكمة الإلهية. يظهر الأنبياء أيام الأزمات، بالفترات التي يهتز فيها الإيمان، وتصبح إرادة الله صعبة الفهم، فتتحوّل المحن الى مناسبة للتقدم الروحي.

 

يوم كانت السامرة أمام خطر السقوط (722)، ظهر عاموس في مملكة الشمال ليطرح كل المواضيع النبوية الكبيرة. أعلن لشعبه اقتراب القصاص الإلهي أمام جرائم المملكة المنقسمة،، وذكَّره بتعالي الله وبقدرته الكلية، كما طالبه بتحقيق إرادة العليّ المطالِب بالعدالة، وبالعدالة الإجتماعية بنوع خاص. ثم ظهر هوشع ممثِّلاً قوة رحمة الله العليّة، عاملاً للتأثير على المدينة الخاطئة بإعلانه لها سر محبة الله لنا.

 

في الحقبة عينها، وفي مملكة الجنوب، نجح ميخا وأشعيا أيام حزقيّا الملك بإعادة الشعب، ولو مؤقتًا، الى الإيمان الصحيح، على الرغم من الخطر الأشوري الداهم. بشّرا بالمسيح، واستطاعا من خلال رؤيا بعيدة الأمد أعلان سر أمه، فتكلم ميخا عن "تلك التي ستلد" (ميخا 5: 2)، وأشعيا عن "العذراء التي تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل... الذي يحلّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم والمشورة، روح القوة والمعرفة وتقوى الله" (أش 7: 14 ؛ 11: 2).

 

نلاحظ من خلال هذه النصوص تطوّر الرجاء المسيحاني، وكيفية توجّهه نحو تجلّي الله الأخير "عمانوئيل" الذي يحل عليه روح الرب وعطاياه بشكل دائم. بإمكاننا كمسيحيين أن نستشف من خلال هذه النصوص سرَّ التجسّدِ الإلهي، وصورةً بعيدة لحدث المعمودية. لكن الشعب اليهودي لم يكن على هذا المستوى، لأنه في ذلك الوقت كان لا يزال بحاجة الى قرون من النضوج للوصول الى حيث وصلنا.

 

ويوم أتى دور سكان أورشليم ليأخذوا طريق السبي (586)، لم يترك شعبه أبدًا بل أقام لهم العديد من الأنبياء: صفنيا، ناحوم، حبقوق، وإرميا بشكل خاص الذي عاش كل ألم خبرة السبي، واستطاع بين أبناء شعبه المسبيين أن يفتتح عصرًا جديدًا.

 

أثّر هؤلاء الأنبياء تأثيرًا كبيرًا جدًا على عصرهم، فانطبعت بروحانيتهم كل مؤلفات ذلك العصر كما هو الحال في سفر المزامير؛ وتحت تأثيرهم أُعيدت صياغة الشريعة بخطّ جديد، فولد سفر تثنية الإشتراع، من هذا المنطلق عرفت التقاليد القديمة التي تخبر قصة احتلال الأرض، والنصوص المتعلقة بالقضاة وأخبار الملوك، معانٍ جديدة تتناسب مع تعاليم الأنبياء، فنفهم مثلاً كيف تأخذ مغامرات شمشون، التي لا تحتوي إلا تعاليم دينية فقيرة جدًا، بُعدًا يُظهر عظمة العناية الإلهية، خاصة إن تذكّرنا أن " بنو إسرائيل فعلوا الشر في عيني الرب وعبدوا البعل...فغضب الرب على بني إسرائيل ...فتضايقوا جدًا ... فصرخ بنو إسرائيل الى الرب فأقام لهم مخلِّصًا  ..." (قض 2-3).

 

من خلال الطريقة التي قُدِّمت فيها، تحوّلت لهذه الأحداث الشعبية أن تشكِّل تاريخًا مقدسًا. هذا هو حال كل الأحداث الماضية التي ما إن تأخذ معنى، حتى نفهم أنها من قِبَل الله، وأنه هو من رتّبها ليقود شعبه، أو ليقاصصه. تحت تأثير الأنبياء، قرأ شعب الله تاريخه من منطلق الثواب والعقاب الجماعي، فتحول الفشل والكوارث الى قصاص ينزله الله بشعبه جرّاء خطاياه؛ وإذا بالنجاحات، وخبرات التحرير، علامات تدل على رحمة الله، وأعمال خلاص تغذّي إيمان الشعب ومحبته لله الآب، الذي يجب إسرائيل ابنه.

 

في هذا الخط النبوي كتبت الأسفار التاريخية (يشوع، وقضاة، وصموئيل، وملوك)، والتي يسمّيها اليهود الكتب النبوية الأولى.

 

 

في السبي إختبار لإيجابيات المحنة (حزقيال، أشعيا 40-55)

 

يشكل السبي الى بابل حدثًا أساسيًا في تاريخ الشعب اليهودي، ومناسبة للقطع مع الماضي ولتجديد روحي وديني عميق. حزقيال هو نبي تلك الفترة الكبير. من خلاله اجتمع التياران النبويان اللذان كانا حتى ذلك الوقت مختلفين إن لم نقل متناقضين: التيار النبوي الذي يشدد على متطلّبات الله وعلى الأمانة الداخلية، والذي يعتبر ان خدمة الله أخلاقية بدرجة أولى؛ والتيار الكهنوتي الذي يشدد على تعالي الله، ويجعل من الشريعة محورًا أساسيًا له، معتبرًا أن خدمة الله هي العبادة بالدرجة الأولى.

 

كان الشعب يعتقد أن لا أحد بإمكانه أن يطرده من أرضه لأن الله معه رغم كل شيء. تبنّى الكهنة هذه الفكرة، وأعلنوا أنه لا يمكن لله أن يسمح بأن يترك شعبه الأرض والهيكل، فلا يعود هناك من يقدّم له الذبائح والعبادة. حاول الأنبياء بكل قوتهم أن ينزعوا هذه الأفكار المغلوطة معتبرين أنها تغذّي في الشعب آمالاً باستقرار أكيد وغير مشروط، فأعلنوا بقسوة كبيرة عِظَم الويلات الكثيرة الآتية، حتى أنهم تنبّأوا بدمار أورشليم.  وأظهرت الأيام صدق النبؤات، فإذا بالشعب منفيًا ومقهورًا (نجد في الرسومات الأشورية، آثارًا واضحة عن قوافل الأسرى المقيّدين والمهددين بالعصي في طريقهم الى منفاهم). بدأ الشعب منذ ذلك الوقت يعي أن الرجاء البشري غير ممكن، وبدأ الأنبياء ينادون ببشرى الفرح، ويشجّعون على الثقة، وعلى الثبات بالرجاء كما نجد في كتاب التعزية (أشعيا 40-55) "عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الرب إلهكم. طيّبوا قلب أورشليم ..." (أش 40: 1).

 

أعطت المحنة ثمارًا كثيرة. فقام الكهنة في هذه الحقبة بعمل ضخم، هو عبارة عن خلاصة لاهوتية، أعادت النظر بمعنى التاريخ بأكمله على ضؤ تصميم  الله. تمحور هدفهم حول العبادة التي يجب تقديمها، وحول مباديْ الشريعة الأساسية التي يجب حفظها لمجد الله. فكان أن أخذت هذه الوصايا (كشريعة السبت وشريعة الختان)،  كل الأهمية التي عرفتها منذ ذلك الوقت. أعطى عمل الكهنة معنى جديدًا لكل الأحداث التي بُنيت عليها تقاليد الشعب اليهودي، فتجدد معنى الخلق، ومعنى العهد الشامل، ومعنى اختيار الشعب، ومعنى دعوة إبراهيم، ومعنى التجلي السينائي الخ. كان من المنطقي أن يذوب هذا الشعب في الشعوب الغريبة ويختفي، لكننا نجده يتجدد روحيًا ودينيًا، فينطلق مطهّرًا من خلال فعل توبة حقيقية، في مسيرة تعميق لعلاقته بالله. إن لنا في هذا التطوّر المدهش كشفًا عن عمل الله العجائبي في حياة شعبه.

 

 

تحقيق الرجاء والعودة من السبي (حجاي، زكريا، عزرا، نحميا)

 

لقد تحقق ما لم يكن في الحسبان وعاد المسبيون الى أرضهم الموعودة " هجرتك لحظة، وبرحمة فائقة أضمك. في هيجان غضب حجبت وجهي عنك قليلاً، وبرأفة أبدية أرحمك، هكذا قال فاديك الرب. إصرخي فرحًا يا أورشليم، ايتها العاقر التي ما عرفت أوجاع الولادة ..." (أش 54: 7،8،1). لكن العودة المنتظرة والمرجوة كانت صعبة جدًا. لم يعد من المنفى إلا المؤمنين الذين تخلّوا عن أعمالهم  المزدهرة في بابل، وعن الرخاء والراحة التي كانت تقدمها لهم المملكة البابلية العظيمة، ليعودوا الى الأرض المقدسة، فما وجدوا فيها إلاّ الخيبة والحسرة. فأورشليم مدمّرة تمامًا، والبيوت التي كانت ما تزال موجودة، محتلة من قبل فقراء لم يتركوا المدينة المهجورة "شعب الأرض"، وتوالت على العائدين المعدمين الكوارث الزراعية إلخ. في كتب حجاي وزكريا شهادة عن بؤس الناس في تلك الحقبة الصعبة.

 

نعم، إن في التاريخ المقدس درسًا يعلّمنا أهمية الخيبة في حياتنا، انها تجبرنا على التطلّع نحو أبعد من الرجاء البشري، لأن الخيرات الأرضية تبقى غير قادرة على ملء فراغنا. لقد وعد الأنبياء الشعب بكل ما يمكن لإنسان أن يحلم به " الذين فداهم الرب عند رجوعهم الى صهيون مرنّمين وعلى وجوههم فرح أبدي. يتبعهم السرور والفرح، ويهرب الحزن والنحيب" (أش 35: 10)، فلم يجدوا شيئًا من ذلك، فلا القفر أزهر، ولا تفجّرت المياه في البرية... لقد فهم الشعب الفرق بين السعادة البشرية الآنية التي كان يرجوها، وبين السعادة التي يخلق الله فينا العطش اليها، فجعل من رجائه رجاءً مستقبليًا للأيام المسيحانية.

 

 

الانتظار الطويل

(دانيال، المكابيين الأول والثاني، يشوع بن سيراخ، نشيد الإنشاد، الحكمة، راعوت، طوبيا، يهوديت، أستير)

 

تبعت فلسطين للمملكة الفارسية طيلة قرنين (538-333)، ثم تتابعت عليها سلطة الممالك الكبرى التي توالت على حكم العالم بعد  موت الاسكندر، ومع تنازع السلوقيون السوريون والبطالسة المصريون، تغيّر الحكم عشر مرات في هذه الأرض. لم يعد في الشعب اليهودي سلطة سياسية، ولم يعد هناك ما يجمع الشعب سوى إيمانه، المستند الى ذكريات عظيمة تؤكّد دعوته الإلهية، وتشدّه الى انتظار تحقيق الوعود. ، تعاظم دور الكهنة بما أن وحدة الشعب أصبحت مرتكزة أولاً وأخيرًا على الدين والعبادة، كما يشهد على ذلك الآثار الكهنوتية في كل الأساليب الأدبية. وبغياب كل قانون مدني، لأن االدولة لم تعد موجودة، تحوّلت الشريعة الى طقوس عبادة نجدها في سفر اللاويين. فخضع التاريخ من جديد الى إعادة نظر وكانت كتب العدد، ثم عزرا، ونحميا الذين يشكلون قراءة كهنوتية جديدة لكل الأحداث، التي كانت قد كتبت من وجهة نظر نبوية في الأسفار الاشتراعية. شكّل عمل الكهنة إطارًا لكل التقاليد القديمة المتوارثة منذ أيام الآباء، فأسّس للنسخة النهائية لأسفار التكوين والخروج والعدد. حُرم الشعب من الهيكل أثناء السبي، فحُرم بالتالي من العبادة والذبائح، ولم يبقَ لهم سوى الإجتماع لقراءة الشريعة والأنبياء. وطيلة القرون التي تبعت العودة، أخذت "الكتب" مكانًا متعاظمًا في حياة الشعب اليهودي الدينية، فعرف الكتبة دورًا متعاظمًا الى جانب دور الكهنة.

 

كان للأنبياء قديمًا دور عملي إن على الصعيد الإجتماعي، أو على الصعيد السياسي. فكانوا يعلّمون، ويتكلّمون، ويبشّرون، ولا تأتي مرحلة الكتابة إلا لاحقًا. لكنّ الأمر اختلف بعد السبي فظهر الحكماء "أهل الكتاب"، الذين اعتبروا أن أغلى ما يملك الشعب هو "الكتب" التي تحتوي خبراته، ورسائل الله له من خلال الوحي. فراحوا يتأملون بها، ويحفظونها، ويعلّموها، وينسخوها ويستعملوها باستمرار في تعليمهم (كما هو الحال في سفر يشوع بن سيراخ. وأكثر من ذلك وضع هؤلاء الحكماء الكتابات الجديدة تحت أسماء عريقة من الماضي، فنسبوا كتاب الأقوال الى أشعيا (أشعيا 55-66)، وكتاب المزامير الى داود، والكتب الحكمية (الجامعة، نشيد الإنشاد، الأمثال) الى سليمان. وفي الوقت الذي لم يعد فيه للشعب اليهودي تاريخ، راحوا يستعيدون أخبار الماضي ليرتبطوا مباشرة بالتاريخ العظيم (راعوت، طوبيا، يهوديت، أستير، سفر المكابيين الثاني) مشددين على التراث الأخلاقي.

 

لم يعد في إسرائيل أنبياء، فاستُعيض عنهم بقصة نبي (يونان)، كما استُعيض عن النبؤات بالرؤى التي تتلاءم وحاجات الناس المشدودة نحو الانتظار، والتي خاب املها بالحاضر، فهربت نحو العجيب الخارق (دانيال، يوئيل، القسم الثاني من زكريا). تعكس هذه الرؤى زمنًا حُرم فيه الشعب من التعبير بحرية عن رأيه، أيام الاضطهاد الديني (167)، يوم أُجبر اليهود من قبل اليونانيين على التأقلم مع الوثنية العالمية كان ذلك أصعب ما عاشه شعب الله، وتنقل لنا أسفار المكابيين انتفاضة المؤمنين، وجهاد بعضهم وثباتهم حتى الاستشهاد. لكن هذه المحنة شكّلت مناسبة جديدة للتفكير حول معنى الألم تحت ضؤ جديد. صحيح أن  الشعب اليهودي كان قد بدأ هذا التكير منذ أيام السبي، فوصل الى فكرة عبد يهوه المتألم الذي يقدم ذاته ذبيحة تكفير "فيرى نسلًا وتطول أيامه، وتنجح مشيئة الرب على يده. يرى ثمرة أتعابه ويكون راضيًا" (أش53: 10)، لكنه لم يكن قادرًا على استيعاب معنى هذا التفكير، وطال زمن التفتيش عن هذا المعنى. ولنا في كتب حزقيال، وأيوب والجامعة آثارًا عن تطوّر هذا البحث الطويل.

 

أما في أيام الإضطهاد اليوناني، فقد انفتح أمام الشعب اليهودي سر الحياة الأبدية والثواب النهائي، وهو ما نجده في كتاب دانيال، وسفر المكابيين الثاني وفي كتاب الحكمة، آخر كتب العهد القديم.

 

 

كلمة الله عبر الأنبياء

 

كان الشعب اليهودي مؤمنًا بأنه شعب مختار مختلف عن الشعوب الأخرى لأن الله اختاره من بين كل الشعوب وأعطاه الوعود. ومن وسط هذا الشعب أوكل الله نعمة إلى بعض الشخصيات العظيمة مثل ابراهيم ويعقوب والقضاة ثم إلى داود (هذا ما حفظه التقليد اليهودي الذي يعود إلى أيام سليمان). يقوم هذا التقليد على أن:

 

الإنسان ليس سيّد قدره، المرسوم والمحدّد بكامله بين يديّ الله سيّد الكون.

 

لا يجدر بالإنسان أن يتساءل لماذا اختار الله هذا الشعب، أو هذا الشخص.

 

وعد الله مطلق وغير مشروط، لا يمكن للإنسان أن يتجاوزه ولا أن يحكم عليه. لا يمكن للإنسان إلاّ تلقّيه. أما سلوك الإنسان فيبقى دون أهميّة كبيرة بيحث يُذكر كذب ابراهيم (تك 12: 10-12)، واحتيال يعقوب (تك 27: 1-45) دون إدانة، وكأنها مفروضة على إنسان مسيَّر لا مخيَّر.

 

لا يذكر النص لماذا اختار الله ابراهيم من بين كل البشر! ما يظهره النص هو أن الوعد لابراهيم هو وعد مزدوج:

- ينال ابراهيم ونسله أرض كنعان (12: 7؛ 13: 14-17؛ 15: 18)

- يحصل ابراهيم على ولد يرثه (15: 3-4؛ 18: 10). هي صعوبات مستحيلة في نظر الإنسان، لكن لا شيء يعجز الله!

 

1- الاختيار والوعد عند الأنبياء

 

يبدو الإنسان في اللاهوت التقليدي مسيّرًا لا دور له في مسيرة حياته، فقام الأنبياء (بخاصّة ما بعد المنفى) ليعلنوا بأن الإنسان كائن حرّ له ملء السيادة على حياته، وأن مصيره يتعلّق بخياراته وبسلوكه اليومي. في مقابل الإنسان يبقى الله هو الأعظم والمتعالي، لكن تعاليه غير مغلق على ذاته بل يدعو الإنسان إلى الحوار. فإنسان غالٍ عند الرب ويريد له أن يحصل على كل النِعم، لكنه يريد أن ينسج معه علاقات شخصيّة. سمح الله للإنسان بأن يكون حرًّا، ففرض على ذاته بذلك أن يدخل مفهوم الأخلاقيات بالعدالة والصدق والأمانة. فكلمة الله ليست فاعلة أوتوماتيكيًّا، لكنها تحثّ الإنسان على التجاوب الحرّ. ليس هناك من خطيئة من دون مسؤوليّة، ومن دون خيار حرّ. فالمأساة إذًا هي أن شعب الله قد ابتعد بإرادته الحرّة عن إلهه وكسر مسيرة الحوار معه.

 

من خلال توعية المسؤولين على خطيئتهم، وإظهار الكارثة التي تسبّبت بها، أراد الأنبياء تحضير مسيرة التوبة الحقيقيّة القائمة على تغيير العقليّة ومنهج الحياة الذي يطال كل الخيارات السياسيّة والاجتماعيّة.

 

آمن الأنبياء كما في التقاليد السابقة أن الله أقام مع الشعب العبراني علاقات خاصة فجعل منه شعبه المختار. لكن هذا الاختيار ليس امتيازًا لراحته، بل على العكس يشكّل مسؤوليّة كبرى لأنها تفرض عليه التصرّف على أساس أنه شعب الله. بهذا، لم تعد العلاقات على خط واحد، بل أن الوعد يدخل في إطار العهد الذي يفترض التزامًا شريكين. حافظ الله من ناحيته على أمانته لوعوده، لكن ماذا من ناحية الشعب؟ أراد الأنبياء لفت الانتباه إلى أن لا أمان أوتوماتيكي بل يتعلّق ذلك بأمانة الشعب لعهده مع الرب. في الفصل السابع من سفر أشعيا يعلن النبي أن مشروع ملوك السامرة ودمشق اللذين أرادا الاستيلاء على أورشليم محكوم بالفشل "لا يحدث ذلك ولن يكون" (7: 7). لكن لا يجدر بآحاز ملك أورشليم أن يظن بأن ذلك يعني أن خلاصه مؤكّد لذلك يضيف اشعيا "إن كنتم لا تؤمنون فلن تأمنوا" (7: 9ب). وتأتي هذه الآية وكأنها خلاصة كتاب النبي.

 

فإن كان الاختيار كما الوعود المتعلّقة به مشروطًا، فإن الأمّة أمام خطر الموت لكثرة الخطايا العظيمة التي اقترفها الشعب. وبالتالي كان على الأنبياء أن يشجبوا دون هداوة سلوك الشعب الفاسد وفساد مسؤوليه، وأن يظهروا لهم المصير الكارثي الذي يؤدّي بهم إليه سلوكهم.

 

كما نقرأ مثلاً في عاموس 4: 6-5: 2. "فكم جعَلتُ نصيـبَكُم خَوا البُطونِ في جميعِ مُدُنِكُم وعوَزَ الخُبزِ في جميعِ مساكِنِكُم، وما تُبتُم إليَّ، يقولُ الرّبُّ. سقطتْ مَملكةُ إِسرائيلَ فلا تعودُ تقومُ. طُرحَتْ على أرضِها ولا مَنْ يُقيمُها".

وقد تكلّم كل أنبياء ما بعد المنفى بكلمات مشابهة: يبدو أن الله قد حكم على شعبه، لكن ربما لا يكون الأوان قد فات للتوبة والحصول من جديد على حظوة الرب.

 

2- الحرب الإلهيّة المقدّسة

 

كان أنبياء ما قبل المنفى يدركون جيدًا القوة الإلهيّة، ولم يتوانوا أبدًا عن تذكير مسؤولي السامرة وأورشليم بذلك، وحثّهم على الاتّكال على هذه القوّة بدلاً من الاتّكال على القدرة العسكريّة البشريّة. "ويل لِلنَّازِلينَ إلى مِصْرَ مِنْ بَني يَهوذا طَلَبا لِلمَعونَةِ، المُعتَمِدينَ على الخَيلِ، المُتَوكِّلينَ على كثرةِ المَركباتِ وجَبروتِ الفُرسانِ. الويلُ لهُم! لا يَلتَفِتونَ إلى قُدُّوسِ إِسرائيلَ ولا يلتَمِسون الرّبَّ.  هوَ أيضا عادِلٌ، فيُنزِلُ النَّكباتِ ولا يَحيدُ عَنْ كلامِهِ، بل يقومُ على سُلالَةِ الأشرارِ وعلى الّذينَ يُناصِرونَهُم. فما المِصْريُّونَ سوى بشَرٍ لا آلِهةٌ، وخَيلُهُم جسَدٌ لا روحٌ، فإذا رفَعَ الرّبُّ يدَهُ عثَرَ النَّصيرُ وسقَطَ المَنصورُ وهَلَكوا كلُّهُم معا". (أش 31: 1-3)

 

يُظهر النص ان القدرة الإلهيّة ليست في خدمة الشعب بطريقة لا مشروطة، بل تشترط أمانة الشعب لإلهه. وبما أن الشعب يرفض التوبة بعناد تام، فلا يجدر به الاطمئنان إلى حماية إلهيّة مطلقة، بل وأمام تهديد كبير: سيحث الله ضدّ شعبه، القوى المعادية التي حاربها قديمًا، كما فعل مع مركبات فرعون وملوك كنعان. "وقالَ ليَ الرّبُّ: كما يَنقَضُّ الأسدُ أوِ الشِّبلُ على فريسَتِهِ، وإذا هاجَمَهُ جماعةٌ مِنَ الرُّعاةِ لا يفزَعُ مِنْ صوتِهِم ولا يرتاعُ مِنْ ضَجيجِهِم، كذلِكَ أنزِلُ أنا الرّبُّ القديرُ لِلقِتالِ على جبَلِ صِهيَونَ ورَوابـيهِ (أش 31: 4).

 

3- الهيكل

 

لا تَتَّكِلوا على قولِكُم: هيكَلُ الرّبِّ! هيكَلُ الرّبِّ! هيكَلُ الرّبِّ! فتَخدَعونَ أنفسَكُم. بل بِالأولى أَصلِحوا طُرُقَكُم وأعمالَكُم واقضوا بِالعَدلِ بَينَ الواحدِ والآخَرِ، ولا تَجوروا على الغريـبِ واليَتيمِ والأرملَةِ، ولا تَسفِكُوا الدَّمَ البَريءَ في هذا المَوضعِ ولا تَتبَعوا آلِهَةً أُخرى لِضَرَرِكُم. فإنْ فعَلْتُم هذا أسكُنُ معَكُم في هذا المَوضعِ، في الأرضِ الّتي أعطَيتُها قديما لآبائِكُم إلى الأبدِ. ولكِنَّكُم تـتَّكِلونَ على كلامٍ لا فائِدَةَ فيهِ فتَخدَعونَ أنفُسَكُم. أتَسرِقونَ وتَقتُلونَ وتَزنونَ وتَحلِفونَ بالزُّورِ وتُبَخِّرونَ لِلبَعلِ وتَتبَعونَ آلِهَةً أُخرى تَجهَلونَها، ثُمَّ تَجيئونَ وتَقِفونَ بَينَ يَدَيَّ في هذا البَيتِ الذي دُعِيَ با‏سمي وتَقولونَ «أنقِذْنا» لِتَعودوا وتَعمَلوا جميعَ تِلكَ الرَّجاساتِ؟ فهذا البَيتُ الّذي دُعيَ باسمي هل صارَ مَغارةً لِلُّصوصِ أمامَ عُيونِكُم؟ بل أنا رأيتُ ذلِكَ يقولُ الرّبُّ". (إر 7: 3-11).

 

وكما الهيكل كبناء كذلك الأمر مع الطقوس والعبادات التي لم تعد ضمانة للحماية. فما يطلبه الله هو التوبة في كامل الجماعة وليس تعويضًا طقسيًا أو احتفاليًا، على ما نقرأ في هوشع. "فأنا أُريدُ طاعةً لا ذبـيحةً، مَعرِفةَ اللهِ أكثَرُ مِنَ المُحرَقاتِ"(هو 6: 6).

 

4- الملكيّة

 

بشخصه الخاص، لا يشكّل الملك جزءًا من الحلقة المقدّسة. فإن كان مقرّبًا من الله فذلك يكون بسبب إيمانه المتجسّد في سياسته الفعليّة في السلطة. لم يكن ملوك حقبة ما قبل المنفى ديمقراطيّين، وبالتالي ما كانول يعتبرون أن للثواب والعقاب الفرديّين أهميّة ما؛ بل كانوا يؤمنون بأن الملك ومعاونيه الأقربين يتحمّلون مسؤوليّة سلوك شعبهم خيرًا كان أم شرًّا. فالملك هو المسؤول الأول عن تعاسة شعبه لأنه قاده في طريق الخيانة. فكان الأنبياء أول المعارضين السياسيّين، ولم يتوانوا أبدًا عن توجيه الانتقاد للملك بشكل خاص.

 

هذا ما فعله عاموس عندما توجّه إلى ملك السامرة: "يموت يا ربعام بالسيف ويُسبى اسرائيل عن أرضه" (عا 7: 11)، ما تسبّب له بالإبعاد إلى مملكة اليهوديّة (7: 12). كذلك الأمر مع أشعيا الذي دان بشراسة سياسة آحاز ثمّ سياسة حزقيا (أش 30: 10-15؛ 31: 1-3). وتصدّى إرميا لسياسات يوياقيم بكلمات قاسية: "ويلٌ لِمَن يَبني بَيتَهُ بِالظُّلمِ ويُعَلِّي غُرَفَهُ بِــغَيرِ حَقٍّ! يَستَخدِمُ الآخَرينَ بِلا أُجرَةٍ ولا يُوفي أحدا عَنْ عمَلِه. ويقولُ: «أبني لي بَيتا واسِعا وغُرَفا فَسيحَةً». فيَفتَحُ لَه نَوافِذَ ويُغَلِّفُهُ بِالأرزِ ويَدهَنُهُ بِلونِ القِرمِزِ. أتكونُ عَظَمَةُ مُلكِكَ أنْ يُفاخِرَ بِالأرزِ؟ أما ا‏كتَفى أبوكَ بِأنْ أكَلَ وشَرِبَ وأجرى الحَقَّ والعَدلَ وقضى لِلبائِسِ والمسكينِ، فكانَ في خَيرٍ؟ ألاَ يَدُلُّ ذلِكَ على أنَّهُ كانَ يَعرِفُني؟ أمَّا أنتَ فعَيناكَ وقلبُكَ على المَكْسَبِ الخَسيسِ وسَفْكِ الدَّمِ البَريءِ والظُّلْمِ والعُنْفِ. لذلِكَ قالَ الرّبُّ على يوياقيمَ بنِ يوشيَّا مَلِكِ يَهوذا: لا يُناحُ علَيهِ فيُقالُ: آها يا أخي! أو آها، يا أُختي! ولا يُقالُ: آها يا سيِّدُ! أو آها يا مَلِكي! بل يُسحَبُ ويُطرَحُ بَعيدا عَن أبوابِ أُورُشليمَ ويُطمَرُ هُناكَ طَمْرَ الحمارِ". (إر 22: 13-19).

 

هكذا نرى أن الأنبياء أدانوا كل سياسات الملوك الداخليّة والخارجيّة حتى أن هوشع يعيد طرح مسألة الملكيّة برمّتها: "أينَ مُلوكُكُم فيُخَلِّصونَكُم؟ أينَ قُضاتُكُم في كُلِّ مُدُنِكُم؟ قلتُم لي: «أعطِنا مُلوكا كرُؤساءَ علَينا»، فأعطَيتُكُم مُلوكا في غضَبـي وأخَذْتُهُم في غَيظي". (هو 13: 10-11).

 

أراد الأنبياء أن يملأوا  الفجوة التي كانت تفصل بين المقدّس والحياة اليوميّة، فوضعوا الله في قلب الحياة الإنسانيّة. بذلك لم يخلقوا لاهوتًا جديدًا وحسب بل لاهوتًا هدَّد بالهدم كل أسس النُظُم الاجتماعيّة والدينيّة القائمة. فبنزعهم عن السلطة الملكيّة والكهنوتيّة القناع الذي كان يوفّر لهم السلطة المطلقة، وبزعزعتهم لطمأنينة الشعب المتّكل على اختيار الله له، ووعوده المطلقة له، وعلى حضوره في الهيكل، وضعوا كل إنسان أمام مسؤوليّته، وبالأخص أمام خطيئته، وكانوا بالتالي خطرًا داهمًا على الجميع.

 

خلق الأنبياء تيارًا معارضًا يخالف الأفكار التقليديّة ويطال أسس اللاهوت القديم بحيث ل يتركوا مجالاً للمساومة. قبيل الحقبة المسيحيّة، كانت الديانة الرسميّة قد عادت لتحيا في نظام متكامل على أسس الفكر التقليدي وقد تطوّر ليماشي الظروف الجديدة. فكانت كل الحياة الدينيّة والاجتماعيّة تدور حول الهيكل ورجال الدين، في وقت كان فيه عظيم الكهنة قد تسلّم رمزيًا دور الملك؛ وهكذا أيضًا استعاد الشعب الفكر العقائدي عن "الشعب المختار" حامل الوعود، لكن مع التركيز على "طهارة" هذا الشعب وبخاصة دور الفريسيين فيه. في هذا الإطار استعاد يسوع موقف أنبياء التوبة بإعلانه افتتاح ملكوت إلهي مفتوح أمام الجميع.

 

 

ونحن اليوم؟

 

من الناحية الروحيّة: مطمئنّون اوتوماتيكيًّا

متّكلون على الاختيار

متكلون على أديارنا وكنائسنا ومؤسّساتنا

من الناحية البشرية: الأهم هو القوانين

الرسالة؟ الحياة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية...؟

أين النبوءة؟ أين كلمة النبوءة؟ أين الأنبياء؟ وكيف؟

مكرّسون؟ على خطى الأنبياء؟