موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٤ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠
الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني يكتب حول "القتل الرحيم"
الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني - سورية

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني - سورية

الأب ريمون جرجس :

 

القتل الرحيم مصطلح يعني لفظيَّا الموت "الحلو"، موت دون العذاب. وهذا المعنى كان مستخدماً في العصور القديمة. اليوم لم يعد المصطلح "قتل الرحيم" مفهومًا بالمعنى الأصلي، ولكن يشير أساسًا إلى "التدخّل العلاجيّ بهدف تخفيف آلام المرض والعذاب عنه، وأحيانًا أيضًا مع خطر إيقاف الحياة قبل الأوان". وبالمعنى الدقيق للكلمة، يفهم المصطلح على أنّه "منح الموت بحجّة الرحمة" من أجل إنهاء المعاناة الأخيرة جذريَّاً ولتجنّبه عن الأطفال غير الطبيعيّين، والمصابين بأمراض عقليّة والذين يعانون أمراضاً مستعصية، تفرض عليهم إطالة حياة غير سعيدة، أعباء ثقيلة جدّاً على الأسر والمجتمع.

 

طوّرت الكنيسة الكاثوليكيّة تعاليمها من أجل التوضيح والتفريق بين مختلف مفاهيم للقتل الرحيم، وفي الوقت نفسه توسيع النقاش يضمّ مختلف الأشكال، من القتل الرحيم لحديثي الولادة والقتل الرحيم الإجتماعيّ، مؤكّدة، على وجه الخصوص، واجب المجتمع المسيحيّ في توفير الرعاية الكافية لمن هو في خطر الموت. في تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة، يعرَّف القتل الرحيم بالمعنى الدقيق على أنه "فعل أو إمتناع، في حدّ ذاته وفي النيّة، يسبّب الموت، من أجل قمع أيّ ألم". القتل الرحيم، يقوّم على مستوى النوايا والوسائل المستخدمة.

 

يؤكّد المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور الراعويّ "فرح ورجاء" في حديثه عن القتل الرحيم مع غيره من الجرائم ضدّ الحياة: "إنّ كلّ ما يضادّ الحياة نفسها، كأنواع القتل والوأد والإجهاض والإجهاز على المرضى والإنتحار عمدا؛ كما أن كلّ ما يشكل مخالفةا للإنسان بكامله كقطع الأعضاء والتعذيب الجسدي والمعنوي والضغط النفسي؛ كما أنّ كلّ ما يسيء إلى كرامة الإنسان كأوضاع الحياة المنحطّة والسجن دون مبررٍ والسبي والإستعباد والبغاء والمتاجرة بالنساء والأولاد؛ وأيضاً أوضاع العمل المحقّرة، التي تحوّل العامل إلى مجرّد آلةٍ، دون أي إعتبارٍ لشخصيّته وحريته ومسؤوليته: إنّ كلّ هذه التصرَّفات والعادات التي ذكرناها وما يشبهها هي في الواقع مشينة؛ فبينما تفسد الحضارة، تلحق العار بالذين يتعاطونها أكثر مما تلحقه بضحإيَّاها؛ وتتعارض تعارضا قويا وشرف الخالق" (رقم 27).

 

حكم الكنيسة الأخلاقيّ حول القتل الرحيم واضح وقاطع. "الوثيقة الأساسيّة الرسمية، للكنيسة الكاثوليكيّة حول القتل الرحيم، هي لبيان "الحقوق والخيور" الذي نشره مجمع عقيدة الإيمان سنة 1980، وهو خلاصة للخلقيّة الكاثوليكيّة أمام المرض والموت. وكان بيّوس الثاني عشر قد أجاب عن بعض المسائل الخاصّة التي أثارها الأطباء، وادان التطبيق النازي للقتل الرحيم. ويظهر التصريح المنشور سنة 1980، إلى جانب إستناده إلى التعليم السابق، أنّ تعليم الكنيسة الرسميّ كان متنبّهاً للتطوّر الحاصل، إن من ناحية ما يتعلّق بالقتل الرحيم أو ما يخصّ العلاجات الجديدة لتخلّيص الحياة".

 

يضع البيان بعض المبادئ الأساسيّة التي تعتبرها الكنيسة نهائيّة وصالحة للعالم أجمع: الإعتراف بأنّ حياة الإنسان هي من صنع الله ومقدّسة، أولويّة الفرد مقارنة بالمجتمع؛ واجب السلطات احترام الحياة البشريّة.

 

تناولت مقدّمة البيان الأهميّة التي يعطيها العالم اليوم لحقوق ولقيم الإنسان، وخاصّة فيما يتعلّق بالإجهاض: "1-قيمة الحياة البشريّة. بدءًا من حقيقة "أنّ الحياة البشريّة هي أساس كل الخيرات، منبع وشرط ضروريّ لكل النشاطات البشريّة والتعايش الإجتماعيّ. إذا اعتقد معظم الناس أنّ الحياة ذات طابع مقدّس ويستطيع أحدهم أن يخضعها لملاذاته، والمؤمنون يرونها هبة من محبَّة الله، وهم مدعوون للحفاظ عليها ولجعلها تثمر. من هذا الإعتبار الأخير نستخلص بعض النتائج:

 

1. لا أحد يمكنه أن يؤذي حياة شخص بريء دون معارضة محبَّة الله له، دون انتهاك حقّ أساسيّ، غير مقبول وغير قابل للبيع، دون إرتكاب جريمة خطيرة جدًا.

 

2. لدى كلّ إنسان واجب بأن تتوافق حياته مع مخطط الله، التي عهدت له كخير وأن تؤتي بثمار  على الأرض، ولكن تجد كمالها التامّ فقط في الأبدية.

 

3. الموت الطوعي أي الانتحار غير مقبول وشأنه شأن القتل: يشكّل مثل هذا الفعل في الواقع، رفض الإنسان لسيادة الله ومحبَّته. الانتحار، علاوة على ذلك، هو أيضاً غالباً ما يكون رفض حب لذات، نكران لطموح لحياة طبيعي، رفض واجبات المتعلّقة بالعدالة ومحبَّة القريب، ونحو مختلف الجماعات الكنسي والمجتمع ككل ّ، على الرَّغم من تدخل في بعض الأحيان -كما تعلمون- العوامل النفسيّة التي تستطيع تخفيف أو حتَّى إزالة المسؤوليَّة".

 

بطريقة أكثر تفصيلا، المجمع المقدس لعقيدة الإيمان (5/5 1998) اصدر البيان التالي: "المقصود من القتل الرحيم هو فعل أو إمتناع الذي بطبيعته، أو في نواياه، يسبب الموت من أجل إلغاء أي ألم. ومن الضروريّ التأكيد من جديد بكل حزم أن لا شيء ولا يمكن لأحد أن يأذن بقتل كائن بشريّ، جنين أو طفل أو بالغ، مسنّين، مرضى معذّبين أو غير قابلين للشفاء. وعلاوة على ذلك، لا يمكن لأحد أن يطلب هذا الفعل من القتل لنفسه أو لآخر، الموكل به المسؤوليَّة، ولا يمكنه أن يوافق صراحة أو ضمنا. ولا يمكن لأي سلطة فرضه شرعيا أو أن تسمح لهذا: هذا مخالفة للشَّرع الإلهيّ، إهانة ضدّ كرامة الشَّخص البشريّ، جريمة ضدّ الحياة، وإعتداء على الإنسانيّة".

 

في المشهد الثقافي اليوم، يبرز "تناقضا يثير الدهشة"، وهذا هو البيان الرسمي من البابا القدّيس يوحنَّا بولس الثاني في الرسالة العامَّة "إنجيل الحياة" لعام 1995: "من جهة نلاحظ أن ما يعلن في شأن حقوق الإنسان والمبادرات الكثيرة المستوحاة من هذه الحقوق تبيّن، في العالم كله، تطوّر حسٍ أدبيّ أكثر أهبة للاعتراف بقيمة الحياة وكرامة كل إنسان في حدّ ذاته، بصرف النَّظر عن كل تفرقة في العرق أو في البلد أو في الدين أو في الرأي السياسيّ أو في الطبقة الإجتماعيّة. ولكن، من جهة أخرى، نرى أن هذه الإعلانات النبيلة ينافيها الواقع المأسوي منافاة مؤسفة، ومما يدعو إلى مزيد من الحيرة بل من التشكيك، أن هذه الأمور تحدث، بالضبط، في مجتمع يجعل هدفه الأوّل وفخاره في المجاهرة بالحقوق الإنسانيّة والذود عنها. فكيف يمكن التوفيق بين هذه التأكيدات المبدئية المتكرّرة مع ما هنالك من تفاقم متواصل وتشريع متواتر للتعدّيات على الحياة البشريّة؟ وأين الانسجام بين هذه التصريحات ونبذ المستضعف والأعزل والمسنّ والجنين؟ هذه الإعتداءات تتوجّه في اتجاه مناقضٍ تماما لإحترام الحياة وتمثل تهديدا مباشرا لكل ما تنوّه به حضارة حقوق الإنسان".

 

أكّدت الرسالة العامَّة "إنجيل الحياة" أنّ: "في غروب الحياة يجد الإنسان نفسه في مواجهة سرّ الموت. ولكن بسبب تقدّم الطب وفي محيط ثقافي مغلق غالبا دون الله، تتميّز خبرة الموت، في أيامنا، ببعض الملامح الجديدة. فعندما ترجّح نزعة الإنسان إلى الانصراف عن تذّوق الحياة إلاّ بمقدار ما يستلذّ بها ويرغد، يظهر العذاب بمظهر الفشل الذي لا يطاق، والذي لا بدّ من الانعتاق منه بأي ثمن. فالموت الذي يعتبر "لغزا" منكرا إذا أوقف فجأة مجرى حياة لا تزال مطلّة على مستقبلٍ حافل باختبارات شيّقة، يمسي بالعكس "انعتاقا يطالب به عندما يعتبر الوجود مجرّدا من كل معنى إذا استغرق في الألم وحكم عليه حكما مبرما بعذاباتٍ تزداد كل يوم حدّة وتبريحا. ثم إن الإنسان عندما يرفض أو ينسى علاقته الأساسيّة بالله يتوهّم أنه أصبح هو ذاته معيارا ومقياسا لذاته، ويرى أنه يحقّ له أن يطالب المجتمع بأن يضمن له الإمكان والوسائل ليقرّر مصير حياته، في ملء الإستقلاليَّة. إنسان البلاد المتطوّرة هو الذي يتميّز بهذا التصرَّف خصوصاً، وذلك بسبب ما يراه من تقدّم مستمر في مجالات الطب وتقنياته المتطوّرة. فالعلم والممارسة الطبيّة، بما يستخدمانه من أساليب وآلات متطوّرة، قد أصبح بإمكانهما الآن أن يعالجا أمراضا كانت تعتبر من قبل مستعصية، ويفلحا في تخفيف الألم أو إزالته، وأصبح بإمكانهما أيضاً إبقاء المرضى على قيد الحياة وتطويل أعمارهم حتَّى في حالات الضعف الشديد، وإحيائهم اصطناعيا بعد أن أصيبت وظائفهم البيولوجية الأساسيّة بعللٍ فجائية، والعمل على تأهيب أعضاء عليلة لعمليَّة الزرع. في هذا السياق تمسي تجربة القتل الرحيم على مزيد من الإغراء، وهي تجربة التحكّم بالموت وإحداثه قبل الأوان، فيضع الإنسان هكذا، بطريقة وئيدة، حدّاً لحياته أو لحياة الغير. هذا الموقف قد يبدو منطقيّاً وإنسانيّاً، ولكنّه يتّضح، في الحقيقة، لا معقولاً ولا إنسانيًا، إذا توغّلنا في تمحيصه. فنحن ههنا إزاء مظهر من أرهب مظاهر "حضارة الموت" التي تتوغّل خصوصاً في المجتمعات المترفة المطبوعة بطابع الذهنيّة المنفعيّة والتي باتت تستثقل وتستفدح زيادة عدد المسنّين والمعاقين. هؤلاء يعيشون، في معظم الأحيان، بمعزلٍ عن عيالهم وعن المجتمع الذي بدأ ينتظم بحيث لا يعبأ تقريباً إلاّ بمقاييس الفعّاليّة الإنتاجيّة، فتمسي الحياة بلا معنى إذا أصابها عجز لا شفاء منه" (رقم 64).

 

"لا بدّ أوّلا من أن نحدد بوضوح معنى القتل الرحيم قبل أن نحكم عليه حكما أدبيّاً صحيحاً. فالقتل الرحيم، بمعناه الحصريّ، هو كل عمل أو كل إهمال يؤدّي إلى الموت، بذاته أو بالنيّة، بهدف إلغاء كل ألم". فالقتل الرحيم يوزن إذن بميزان النوايا وميزان الوسائل المستعملة. يجب أن نميّز بين القتل الرحيم وقرار العدول عمّا يسمّى "بالمعالجة العنيدة"، أي عن بعض الإجراءات الطبّيّة التي لم تعد تناسب وضع المريض الحقيقيّ، لأنها أمست على غير نسبة مع النتائج المرجوّة، أو لأنّها أمست عبئاً باهظاً على المريض وعلى أسرته. في هذه الأحوال، عندما يصبح الموت وشيكاً لا مفرّ منه، بالإمكان ضميريّاً الإقلاع عن علاجات لا تؤدي إلاّ إلى مهلة حياة هشّة وشاقّة، ولكن من غير أن توقف العلاجات العاديّة التي تحقّ للمريض في مثل هذه الحال". من الثابت أنّ الإنسان ملزم أدبيا بأن يتعالج ويلقى العلاج من غيره، ولكنّ هذا الإلزام يجب أن يقارن بالواقع في أوضاعه الراهنة، فينظر إلى الوسائل العلاجيّة المتوفرة هل تتناسب وما هنالك من أمل في التحسن. التخلّي عن العلاجات الخارقة واللامتناسبة، بل يعبّر عن الخضوع للوضع البشريّ تجاه الموت. إنّ ما يسمّى "بالعلاجات المخفّفة" يكتسب في حالة الطبّ المعاصر أهمّيّة خاصّة.  هذه العلاجات هدفها التخفيف من الوجع في الطور الأخير من المرض وتوفير ما يحتاج إليه المريض من مرافقة ومساندة. في هذا الإطار تطرح، في جملة المسائل المطروحة، شرعيَّة اللجوء إلى المخدّرات والمسكّنات الهادفة إلى التخفيف من أوجاع المريض. بالإمكان، ولا شكّ، أن نخصّ بالثناء من يرضى طوعاً بالألم، ويتخلّى عن إستعمال المسكّنات ليظلّ في تمام وعيه أو، إذا كان مؤمناً، ليشارك بطريقة واعية في آلام الربّ. ولكن مثل هذا التصرَّف "البطوليّ" لا يمكن اعتباره ملزماً للجميع. لقد أعلن البابا بيّوس الثاني عشر شرعيَّة لجم الألم بواسطة المنوّمات، حتَّى وإن أدّى ذلك إلى تخفيف الوعي وتقصير الحياة، "إذا لم تكن هناك وسائل أخرى أو إذا لم يحل ذلك، في الظروف الراهنة، دون القيام بواجبات أخرى دينيّة أو أدبيّة". في هذه الحال، لا يكون الموت هدفاً مطلوباً أو مقصوداً، وإن كان هناك خطر التعرّض للموت لأسباب معقولة: فليس سوى الرغبة في التخفيف من الألم بالركون إلى المسكّنات التي بإمكان الطب أن يتصرَّف بها. ...بعد هذه الملاحظات التي أدليت بها بالتوافق مع تعليم أسلافي، وبالشَّركة مع أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة، أؤكد أن القتل الرحيم هو مخالفة خطير لشريعة الله، بصفته قتلاً متعمّداً لشخص بشريّ، مرفوضاً أدبيّاً. هذه العقيدة ترتكز على الشَّريعة الطبيعيّة وعلى كلام الله المكتوب، وهي متوارثة في التقليد الكنسيّ وتعلّمها السُّلطة الكنسيّة العاديّة والشاملة مثل هذا العمل يتضمّن، حسب الظروف، نفس ما يتميّز به الانتحار والقتل من قبحٍ وشرّ".