موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الثلاثاء، ٢٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
إميل أمين يكتب: فرنسيس.. ثقافة العناية كمسيرة سلام

إميل أمين :

 

جرى العرف أن يوجه الحبر الأعظم، بابا روما، في أواخر كل عام ميلادي، وعلى مشارف عام جديد، ما بات يعرف باسم "رسالة اليوم العالمي للسلام"، وقد بدا هذا التقليد في عهد سعيد الذكر، البابا بولس السادس، عام 1966، وفي ذلك الوقت كانت الحرب الباردة على أشدها، بين حلف وارسو وغريمه حلف الناتو أو الأطلسي، وقد عمت المخاوف في أوائل الستينات بنوع خاص، من حدوث مواجهة نووية، لا تبقي ولا تذر.

 

نعم، توارت الحرب النووية، ربما إلى حين، غير أن هذا  لا يعني أن السلام العالمي لم يعد مهددًا، إذ ظهرت على السطح أوجه مخاوف أخرى، تجعل من نهار البشرية قلق، ومن ليلها أرق، ومن هنا تأتي هذه الرسالة، انطلاقًا من الدور الأخلاقي والأدبي الذي يمثله البابا والبابوية.

 

ولعل 2020 هو عام إستثنائي وعن حق، فلم تعرف البشرية منذ مائة عام، أي منذ نهاية وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، جائحة أو وباء خطيرًا مثلما هو حادث الآن، وقد كان فرنسيس سباقًا طوال الأشهر الماضية التي انتشر فيها الوباء، في السعي نحو تشجيع البشرية على الثقة في مراحم الله من جهة، والإيمان الراسخ بأن الأخوة الإنسانية وحدها هي التي تكفل الإنتصار على الأزمة، والعبور من فوقها إلى عالم الرجاء الواسع  والأمل الفسيح.

 

جاءت رسالة اليوم العالمي الرابع والخمسين للسلام هذا العام تحت عنوان، "ثقافة العناية كمسيرة  سلام"، ولا يحتاج المرء إلى تفسير الخطوط العريضة لها، ذلك أن ثقافة الرعاية، كإلتزام مشترك وتضامني وتشاركي من أجل حماية وتعزيز كرمة الجميع وخيرهم، وكإستعداد للإهتمام والتنبه والشفقة والمصالحة والشفاء والاحترام المتبادل والقبول المتبادل، تشكل وسيلة مميزة لبناء السلام.

 

الرسالة المطولة التي أصدرها البابا فرنسيس، الفقير وراء جدران الفاتيكان، يعانق فيها المرء روح وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعت في أبوظبي في فبراير شباط من عام 2019، تلك الروح التي يحتاجها العالم، للخلاص من اشكال التطرف والغلو والتمحور حول الذات، والتي أعتبرها فرنسيس تقف حدًا وسدًا في طريق الأخوة الحقيقية بين بني البشر، والذين هم في الأصل ينتمون إلى خالق واحد.

 

أظهرت أشهر محنة انتشار فيروس كوفيد-19 المستجد، أنه إلى جانب أعمال المحبة والتضامن، هناك ومن أسف زخم جديد الشكل، مؤلم الفعل، تكتسبه تيارات مختلفة سياسية وإجتماعية، من القومية  والتمييز العنصري والتعصب، وحتى الحروب والصراعات التي تزرع الموت والدمار.

 

 

ما الذي تعلمنا إياه تلك الأحداث؟

 

بحسب فرنسيس، أسقف روما، خليفة بطرس كبير الرسل، إنها درس يعلمنا أهمية الإعتناء ببعضنا البعض ورعاية الخلق، من أجل بناء مجتمع يقوم على علاقات أخوية. أما التضامن عنده فيعبر بشكل ملموس عن محبتنا للآخر، والتي ليست شعورًا بتعاطف مبهم، بل عزمًا ثابتًا ومثابرًا على العمل من أجل الخير العام، أي من أجل خير الكل وكل فرد، لأننا جميعنا مسؤولون حقًا عن الجميع.

 

ولعله من المؤكد أن التضامن هو وسيلة للأخوة الإنسانية، يساعدنا على  رؤية الآخر–الشخص، أو بمعنى واسع، الشعب أو الأمة، ليس بمثابة إحصاء، أو وسيلة نستغلها ثم نستبعدها عندما لم نعد بحاجة إليها، إنما بمثابة قريب لنا، ورفيق للدرب، مدعو للمشاركة مثلنا، في وليمة الحياة التي يدعو الله تعالى إليها الجميع  بالتساوي.

 

في رسالته ليوم السلام العالمي للعام 2021 يعلو صوت فرنسيس كصوت صارخ في البرية، في مواجهة عالم تهيمن عليه ثقافة الإقصاء، وإزاء تفاقم عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها، يدعو الرجل ذو الثوب الأبيض البالي، كما رأه العالم أكثر من مرة، في مشهد يعكس الفقر الإختياري الحقيقي الذي يعيشه، وبعيدًا عن الزيف والرياء، أو البهرج الخداع، المسؤولين عن المنظمات الدولية والحكومات، والعالم الإقتصادي والعلمي، وعالم التواصل الاجتماعي والمؤسسات التعليمية، إلى تبني "بوصلة"، مبادئ الأخوة الإنسانية، حتى يطبعوا مسارًا مشتركًا لعملية العولمة، مسارًا إنسانيًا حقًا، وهذا، في الواقع، من شأنه أن يسمح بتقدير قيمة وكرامة كل شخص، وبالعمل معًا والتضامن أجل الخير العام، فنقدم بعض الراحة  للذين يعانون من الفقر والمرض والعبودية والتمييز والصراعات.

 

يشجع البابا فرنسيس الجميع على أن يصبحوا شهودًا لثقافة الرعاية، من أجل التعويض عن الكثير من التفاوتات الاجتماعية، وعنده أنه لن يكون هذًا ممكنًا إلا بمنح المرأة دورًا رئيسيًا قويًا وواسع النطاق، في الأسرة وفي كل المجالات الاجتماعية والسياسية والمؤسسية.

 

 

على أن علامة إستفهام جذرية تطرحها فكرة فرنسيس عن التضامن، إذ كيف لهذا النسق الإيماني والوجداني أن يترسخ في نفوس الأجيال الصاعدة ليضحى قاسمًا أعظم مشترك، محبوبًا ومرغوبًا على  مدى الأزمان؟

 

يؤكد بابا الأخوة الإنسانية على أن تعزيز ثقافة الرعاية يتطلب عملية تربوية، وتشكل بوصلة المبادئ الإجتماعية، أداة موثوقة لمختلف السياقات المترابطة، والتربية على الرعاية تنشا أول الأمر، وأهمه في الأسرة، التي هي النواة الطبيعية والأساسية للمجتمع، حيث يتعلم المرء فن العلاقات والاحترام المتبادل.

 

لم يطرح فرنسيس من حساباته في طريق الرعاية وثقافة السلام، الدور الذي يمكن للديانات عامة، وللقادة الدينيين خاصة أن يلعبوه في نقل قيم التضامن واحترام الإختلاف والترحيب والرعاية بأكثر الإخوة ضعفًا إلى المؤمنين في كل الملل والنحل، الأعراق والطوائف.

 

لن يستقيم السلم العالمي من دون ثقافة الرعاية، تلك التي تشكل سبيلاً مميزًا لبناء السلام، هكذا يختم ويوجز فرنسيس رسالته للعالم في هذه الأيام المباركة، على صعوبتها وألمها، فالرعاية القلبية والعقلية، تولد التزامًا مشتركًا ومتضامنًا وتشاركيًا من أجل حماية وتعزيز كرامة وخير الجميع. العالم في حاجة إلى مسارات سلام تقود إلى إلتئام الجروح، وهناك حاجة أشد إلى صانعي سلام، مستعدين للشروع في عمليات الشفاء والتلاقي ببراعة  وجرأة.