موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٧ يوليو / تموز ٢٠١٩
أحلم بعالم مستعد أن يموت فيه المرء من أجل فاصلة

نايلا طبارة :

مَقُولةٌ للفيلسوف الفرنسي سيُورانCioran ، أبهرَتْني منذ أن كان عمري 13 عامًا، فعلّقتُها فوق سريري، وتابعَتني في طفولتي وصباي. كنتُ أعشق اللغات، وأثُور عندما لا تُعطَى حقّها. فأشعُر بجرح كلَّما أخطأ أحدهم/إحداهنّ، بقواعد اللغات التي كنتُ أُتْقنها. وإنْ صدَر الخطأ عني، اعتبرْتُه خطيئة.

كَبُرْتُ وعمِلتُ -إلى جانب عملي الأكاديمي-، في تدقيق النصوص الأجنبية. ودَهِشتُ آنذاك، من اكتشاف أن اللغات وقواعدها، تتغير مع تَغيُّر أوْلَويّات الثقافة العامّة وقيَمها. فمثلًا: النصوص الجديدة باللغتَينِ الإنكليزية والفرنسية، قد بُدِئَ فيها إدراج المؤنَّث إلى جانب المذّكر. فإنْ كان الضمير غير عائد إلى شخص محدّد، يوضع بصيغة “هو/هي”. وتساءلتُ حينها: “ما الأهمّ: قدسيّة قواعد اللغة، أم القيم والمبادئ الأساسية التي نَعِيها كبَشَر، ونحاول أن نَحملها ونطبِّقها في كافّة أبعاد حياتنا؟”. وبعْد رفضي الأوَّلي لهذا “التلاعب” بقواعد اللغة، فهمْتُ أن قيمة الإدماج أو المساواة بين الجنسَين، هي الموضوع الأهمُّ، وهي التي يجب أن نُدْرجها في لُغاتنا.

منظوماتٌ مختلفة تسُود القواعد الأساسية لِلُغات العالم. فهناك لُغات ليس فيها صيغتان مختلفتان لضمائر المذكَّر والمؤنَّث، إذْ لا يوجد “هو” و”هي”، ولا “أنتَ” و”أنتِ”، بل ضميرَا المخاطَب والمخاطَبة واحد، وضميرَا الغائب والغائبة واحد، بغضِّ النظر عن الجنس. وهذا هو حال اللُّغتَين الأرمنية والكورديّة مثلًا؛ ما يصعِّب على أبناء هاتَين اللُّغتَين من الجنسَين، التفرقة بين الضمائر عندما يتحدثون باللغة العربية. وهناك لغات كالفرنسية أو الإنكليزية، حيث ضميرَا المخاطَب والمخاطَبة واحد للجنسين؛ أمّا ضميرَا الغائب والغائبة فمختلفَان. وفي الإنكليزية، لا يتغيَّر الفعل بتَغيُّر جنس الضمير؛ أمّا في العربية والفرنسية، فيَلحق الفعل جنس الضمير. لذا، تتغير سياسات الإدماج اللغوي من لغة إلى أخرى.

أيضًا اكتشفتُ مَنحًى آخَر في اللغة الإنكليزية المعاصرة. فإضافةً إلى الانتباه لِلمساواة بين الجنسَين في الجمل، باستخدام هو/هي، يقوم بعضهم بتأنيث كامل الجملة، إنْ كان الضمير غير عائد إلى شخص محدّد. فمثلًا: تصبح جملة “سيُوران” كالآتي: “أحلم بعالم مستعدة أن تموت فيه الإنسانة من أجل فاصلة”. فتؤنَّث الجملة كاملة، مِثلما كانت تُذكَّر كاملة بشكل تلقائيّ.

بعد أن استهجنتُ أوَّل وهلة هذه الصيغة، انتبهتُ لِأساس المسألة. فعَددٌ من لغات العالم، مَبنيٌّ على مَوقف ذكوريّ أساسًا. وهو الذي نستشفُّه في ثقافاتنا، وكأنَّ الذَّكر أهمُّ مقامًا من الأنثى. فلُغويًّا، عندما يكُون عندنا ذكور وإناث، يُذكَّر الفعل تلقائيًّا، و”عندما يكون الفاعل أو المفعول به” غير محدّد، تُذكَّر الجملة تلقائيًّا. وهذا ما فعلته الآن بجملتي فلم أققُل: “وعندما تكون الفاعلة أو المفعول بها…”.

بِناءً على ذلك، ذهب بعضهم/هنَّ في البلدان الغربيّة، إلى المطالبة بإعادة النظر في أساس اللغات، واستبدال ضميرَيِ المؤنَّث والمذكَّر بضمير واحد يمثِّلهما. إلَّا أنَّ هذا مَطلبٌ لأقليّة عدديّة على ما يبدو. وقد يكُون هناك أقلِّيّة أخرى، لا توَدُّ أن تُدْرج أيَّ تعديل للصيغة الذكورية في النصوص. أمَّا مَوقف الأكثرية –برأيي-، فهو محاولة المساواة بين التأنيث والتذكير في النصوص، بقدر المستطاع.

في اللغة العربية اليوم، هناك محاولات لِلَفْت الانتباه إلى هذه المسألة. فهناك مَن يُدْرج المؤنَّث إلى جانب المذكَّر، في كافة كلمات الجملة. فمثلًا: جملة “طلَبَ المدرّسُ مِن الطلاب، كتابة أسمائهم في دفاترهم، وإعادتها إليه”، تصبح كالآتي: “طلبَ/ت المدرّس(ة) مِن الطلاب/الطالبات كتابة أسمائهم/أسمائهنّ في دفاترهم/دفاترهنّ، وإعادتها إليه(ها)”. إلَّا أن ذلك يُثْقل الجمل كثيرًا، ويجعل القراءة صعبة ومُتعبة للنظر. فيفضِّل بعضهم تأنيث الفاعل فقط، أو الفاعل والمفعول به، دون تأنيث الأفعال والضمائر المتصلة.

نَجِد إذًا عدّة اجتهادات في هذا المجال، ولا صيغة موحَّدة بعْد. فلا يَذهبَنَّ أحد إلى السخريَّة من هذه الاجتهادات، لأنَّ بعضها فعليًّا تتبع المثال القرآني، الذي أخذ بعين الاعتبار المؤنَّثَ والمذكَّر معًا في إحدى آياته، وخاطَب الإناث كما الذكور، تَجاوُبًا مع مطالبة النساء بالمساواة. فسبَبُ نزول الآية 35 من سور الأحزاب، التي ورد فيها: {إنّ المُسلمينَ والمُسلِمَاتِ والمُؤمِنِينَ والمُؤمناتِ والقَانِتينَ والقانتَاتِ والصَّادقِينَ والصَّادقَاتِ والصَّابرينَ والصَّابراتِ والخَاشعِينَ وَالخَاشِعَاتِ والمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ والصّائمينَ والصّائماتِ} – هو قول أمِّ سَلَمة للنبي (ص): “يا رسول الله، ما لنا لا نُذْكر في القرآن كما يُذْكر الرجال؟”. فنزلَت الآية (راجع تفسير الطبري).

اليوم، لا أَحلُم بعالَمٍ يموت فيه المرء من أجل فاصلة، بل أَحلُم بعالَمٍ يناضل فيه الرجال والنساء، من أجل التضمين والإدماج والمساواة بين جميع البشر؛ بعالَمٍ تكُون فيه هذه القيم أعلى من أيِّ قواعد.

taadudiya.com