موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٦ مايو / أيار ٢٠٢٢

يا رب... لماذا كل هذا!؟

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور د. بيوس قاشا

المونسنيور د. بيوس قاشا

 

ماذا يحصل في بلادي؟ وماذا يجري في وطني في هذا الزمن القاسي، زمن الوباء؟. عرفتُه وطن الحضارات والأديان، كما عرفتُ بلادي بلاد الدنيا والإيمان. وكثُر فيه الحديث، حديث التاريخ والآثار، حديث الحضارة والآداب، حديث الكنائس والمسيحية، حديث المساجد والجوامع. هكذا قيل عنه في الماضي البعيد والقريب، واليوم تغيرت الملامح وأصبحنا نسأل: ماذا يحصل؟ وإلى اين نحن سائرون؟ وماذا سنقول لأجيالنا ولصغارنا؟

 

لماذا كل هذا؟... هل أبعدَ البشرُ اللهَ عن قلوبهم؟ وهل أفرغنا قلوبنا من علامات السماء، وأصبحنا نؤلّه أشخاصاً مِن مَن نشاء ومتى نشاء وساعة نشاء. وبدّلنا عبادتنا من إله السماوات إلى عبادة الأنا وآلهة الأرض الزائلة. وأصبحنا عبيداً لبشر مثلنا، والمسيح الرب دعانا أحباءه إذا ما عملنا بوصيته (يو12:15)؟

 

لماذا كل هذا؟... نعم، لماذا هذا العذاب وهذه المسيرة المؤلمة؟ من حرب طاحنة إلى أخرى مبيدة، ومن حصار ظالم إلى تدمير لأجيال الطفولة، ومن مسيرة التقشف المؤلم إلى حياة الإستعطاء والضياع، ومن تفجير إلى إحراق، ومن طائفية قاتلة إلى مصلحة ومحسوبية فاشلة، ومن مشاهد التفجيرات وقتل العشرات والمئات وجرح العديد من الأبرياء، وبسبب تسييس الفساد والظلم وعدم الرحمة والكراهية، وجعل الشرائع في خدمة المصالح الدنيوية والمكاسب المادية، أسأل: ما نوع الخطيئة التي إرتكبناها؟ وما هي الجريمة التي إقترفناها حتى يشهدوا زوراً، فيكتبوا ويشوّهوا صورة الإنسان البريء؟ وكتبوا علامة لا يليق أن تكونوا فأنتم لستم أهلاً لها، فالجنة لغيركم وليست لأبناء بلدكم ولا لأجيالكم وأمثالكم ليجعلوه خبز الزمان وحدث الأيام.

 

نعم، لماذا كل هذا؟... إن شعبنا طيب ومضياف وكريم. نعم، هكذا عُرف وعُرفنا، ولا زال رغم المآسي وطريق الجلجلة الذي فيه نحن سائرون يفرح مع الفرحين ويتألم مع المتألمين (رو5:12). فلا ذقنا من تفاحة آدم حتى نخسر أجيالنا وحياتنا ومستقبلنا وكفاءاتنا، ويُحكَم علينا بالموت والدمار والإنفجار والإرهاب والأزمات والإستبعاد، وأصبحت أيامنا وساعات نهارنا سوداء وحمراء وصفراء، إضافة إلى ما خسرناه وتركناه خلف ظهرانينا وفتشنا عن طريق يوصلنا إلى حقيقة العيش فلم نجد. وبدأنا نسأل: لماذا خسرنا مَن كنّا نعتبره صديقاً مظلوماً مثلنا وقد كان أملنا، وهم يعلنون اليوم إنهم حُماة مستقبلنا عبر مواقف تغاضوا عنها بسبب الأيام –ومن المؤسف– إننا أضعنا أحلامنا إذ هكذا أرادها المتمكّنون والأقوياء والمحسوبون والذين يصيدون في مياه المحسوبية والطائفية والكراهية والقبلية والمصلحة، ويعتبرون أنفسهم من المنزَّهين، فلا مجال بعدُ لدموعنا ولا صفاء لعيوننا. وقمنا لا نبصر مَن يُخفي علينا حقيقة الزمن، حقيقة المغشوش، فامتلأنا بكاءً وطفح الحزن في داخلنا ولا من مفرّ، وأصبحنا في صمت مخيف، وأخذ الفزع يعشعش في صدورنا لا بل أصبحنا نخاف أن نلفظ كلمةً فتُفَسَّر على غير حقيقتها. وأمست الكراهية مترئسة في مجالسنا، والكبرياء من على كراسينا، والطائفية والمصلحة سبيلا بقائنا، والكذب سلاح نقتل به مَن نشاء، وروّادنا هم من الخاضعين كعبيد خانعين، إذ هكذا أردناهم وحسبناهم وإلا فهم أعداؤنا. إنه الظلم بعينه، فلقد إنهزمنا من دون أن ندخل حرباً أو نخوض معركةً أمام هذا الوباء القاتل.

 

لماذا كل هذا؟... هل بعنا وطناً حضن أجدادنا وآباءنا واليوم نحن وأجيالنا وبدأنا نفتش عن الخبزات والسمكتين (يو1:6-14) لذلك هجرناه واشترينا بدلاً عنه بطاقة لنكون في مأمن منه بعد أن غادَرَنا أحبَّتُنا فنغادر نحن أيضاً لكي ندرك كيف كنا نعيش في مسار الألم وطريق الصليب في جلجلته المعذّبة ونداء المحسوبية اللعينة والمصلحة المقيتة، بعد أن اعتبرنا أنفسنا قادة لدنيانا، وعلينا كُتب خلاصها، ونسينا أن الإله تواضع وغفر ورحم "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متى28:11) "إنه رحمن رحيم" و"إني وديع ومتواضع القلب" (متى29:11). ومن المؤسف أن كبار عالمنا لا يعمل فيهم إلا ما يحبون وما يكتبون وإنْ باعونا وباعوا الأرض وتاريخها، فحقيقة أفكارهم وعقولهم لا تدركها إلا مصالحهم بالذات.

 

نعم، لماذا كل هذا؟... مَن يفكّر بالإنسان؟ فالإنسان باع المرعى واشتراه الغرباء، كما "هاجر" "فهو ليس في الوجود" (متى18:2). وآخر إنتحر ويبس المرعى، ولا زالت "راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى" (متى18:2). فلا من مخلّص إذا ما نادينا خلاصاً إلا إذا سار الجميع في طاعتهم، فهم أبرار في حساباتهم وأولاد لإبراهيم في إيمانهم وكمال لوجودهم ولحقيقة أفكارهم.

 

يا رب، أتوسل إليك، إذا شئتَ يا كنز الرحمة، إرفع عنا هذا غضب الظلام وكراهية الوباء ومحسوبية النيّات ومصالح الأموال، وأبعد عنا الكبرياء وظلم الزمان، واجعلنا في صمتٍ أمين، وامنحنا النعمة لكي نحاول أن ننسى أحزاننا وظلمنا ومحطات مسيرتنا المؤلمة. وأبعد عنا ظلم الزمان، وأعلن لنا ولأجيالنا حقيقة أيامنا بأمل ورجاء. وامنح الحكّام والرؤساء والمسلَّطين حكمة القيامة، وأوصلهم إلى نهاية أمينة. فلا زالت زيارة البابا فرنسيس تعمل فينا، والنشوة في صدورنا إذ قال "فلتصمت الأسلحة والكراهية والتطرف. إنها وباء الدنيا الدائم". فالرحمة منك يا رب قبل أن تكون من البشر رغم مآسي الحياة وبلاوي الزمن وصعوبة السير، وكما قال البابا فرنسيس أيضاً "الكبير ليس مَن تهتف له الشعوب بل الكبير مَن يحمل الرحمة للآخرين". فمنكَ السلام والخلاص وأنتَ الأمان، وهذه حقيقة مسيرة حياتنا في وطن الأجداد. واسمح لي يا رب أن أطلب عفوك قائلاً: نعم، لماذا كل هذا؟... وختاماً أقول: يا رب، لتكن مشيئتك... نعم، وآمين.