موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

وَجدنا المشيح وَمعناهُ المسيح

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يوحنّا المعمدان شَخصيّة عَظِيمَة، ليس فقط في تاريخنا الإيماني، بل في تاريخنا البَشَري

يوحنّا المعمدان شَخصيّة عَظِيمَة، ليس فقط في تاريخنا الإيماني، بل في تاريخنا البَشَري

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. عُدنَا لمسيرةِ زمنِ السّنة العادي. والكنيسةُ وَضَعت نهجًا ليتورجيًّا دَوريًّا، يتمُّ من خلالِه قراءةُ أكبرِ قَدرٍ ممكنٍ من نصوصِ العهدين القديم والجديد. فوَضعت نظام السّنوات (أ) و(ب) و(ج). ونحن في هذا العام 2021، نتابع قراءاتِ السّنواتِ (ب)، وهكذا دَوَالَيْك.

 

لَم يكن يوحنّا النّور، بل كان الدّالَّ عليه والشّاهِدَ لَه. لَم يكن هو حمل الله، بل كانَ المشيرَ إليه. وها نحنُ نراهُ اليوم يُومِئُ إلى تِلميذيِه، أن هذا الّذي أمامَكم هو حملُ الله. مُشيرًا بذلِك إلى أنَّ مَهمّته قد شَارَفَت على الانتهاء، وأنّه على وَشكِ إتمامِ شوطِه. فهو الّذي لا بدّ له مِن أن يَصغُر، ولا بدّ للمسيحِ مِن أن يكبُر (يوحنّا 30:3).

 

جميلٌ أن يعرفَ الإنسانُ حُدودَه، أن يعرف موقعَه وحجمَه، وكما نُسِبَ إلى الفيلسوف الإغريقي سُقراط مقولة: (اِعرف نفسك). يوحنّا كان يَعرِف مَن هو، ويعلَم جيّدًا مَن ليسَ هو. لم يدّعي ما ليسَ فيه، ولم يَزعَم ما ليسَ له. كان يُدرِك ما هو دورُه، وما هي طبيعةُ المهمّة المنوطة به، والّتي عُهِد بها إليه. لِذلِك استطاعَ أن ينسحِبَ ويتنحّى عندما أنهى شوطَه، دون تَصلّب أو تشنّج أو تذمّر أو ادّعاءات، كما يحصل في البلاد الّتي تدّعي أنّها مهدُ الحريات، أو في تلكَ البلدان الّتي تتغنّى بالحرية، ولا تجدُ فيها سوى القَمع.

 

تنازلَ يوحنّا بكلّ بساطة وهدوء، دونَ ضجّة وضَوضاء أو شَغب وصَخب. هو الّذي اِعترفَ أَمامَ أَعيانِ اليهود، بتواضُعٍ فريد ليس له مثيل، غيرَ مُنكرٍ بأن "لستُ المسيح" (يوحنّا 19:1-21). لم يكن يوحنّا مُقيّدًا بعُقدةِ الجّاهِ والسّلطان والمنصِب، ولم يُصِبهُ جنونُ الكبرياء والعَظمة. كانَ يُدرِك بأنّه "الصّوت المُنادي، يُقوّم طريقَ الرّب، ويجعلُ سبُلَه قويمة" (يوحنّا 23:1). فاستطاعَ أن يُوجِّهَ تلاميذَه نحو الطّريق، وأن يحوّل بُوصلتَهم صوبَ القطبِ الصّحيح.

 

يوحنّا المعمدان شَخصيّة عَظِيمَة، ليس فقط في تاريخنا الإيماني، بل في تاريخنا البَشَري، من البَدءِ وحتّى المنتهى. عظيمٌ، ليسَ بما حقّقَ من إنجازات وبطولات، ولا بِما أَحرز من انتصاراتٍ عسكرية وغزوات للأمصار والأقطار، ولكنّه عظيمٌ بشهادتِه للمسيح وبشهادةِ المسيحِ له، فهو: أعظمُ مواليد النّساء (لوقا 28:7).

 

تَبِعَ التّلميذان يسوعَ بناءً على قولِ يوحنّا. واحدٌ منهما هو أندراوس، والآخر يُعتقد بأنّه يوحنّا نفسه كاتب هذا الإنجيل. تَبِعا يسوع لأنّ يوحنا أَشارَ إِليهِما بذلِك، كانا يَثِقان بكلامِ معلّمِهما. لَم يُرد أن يتركَهم هائمين حائرين، بل وضعَ لهم الطّريق الجديد أو بالأحرى أرشدَهم إلى الطّريق نفسه. لَم يكن يوحنّا شخصًا احتِكاريًّا ونَرجِسيًّا، تتملّكه رغبة الاستحواذ. بل كان المعمدانُ قناةً أَوصَلَت تلاميذَه إلى المحيطِ الواسعِ الفَسيح، إلى يسوعَ المسيح، إلى مَن هو فيضُ النّور وينبوعُ ماءِ الحياة.

 

أَتُرانا نحنُ أيضًا كيوحنّا قنواتِ نعمة للآخرين، نرشِدهم ونوصِلُهم، أو على الأقل نُساعِدهم على الوصول إلى المسيح، أم تُرانا نُبعِدُهم ونُقصيهم عَنه؟! فيكون حالُنا كحالِ أولئِكَ الكَتبةِ والفرّيسيين، الّذين: "يُقفِلونَ ملكوتَ السّموات في وجوهِ النّاس، فلا هُم يدخلون، ولا الّذينَ يُريدون الدّخول يدعونَهم يدخلون" (متّى 13:23-14)

 

هذا النّص الإنجيليّ غنيٌّ جدًّا، ولا يَسعُنا الأمر أن نُعرّج على كلِّ تفصيلٍ منه دفعة واحدة. ولكن، لفتَ نَظري موقِفُ يسوع في التّعامل مع التّابِعَين الفُضولِييّن. فالنّص يقول: "التفتَ يسوع، فَرآهُما يتبعانِه"! هَذهِ الجملَة تدلّ على رشاقة المسيح، على خِفّة الحركة الّتي كانَ يتمتّع بِها، لمّاح صاحبُ إحساس مُرهَف، دقيقُ الملاحظة، سريعُ البديهة، حادُّ السّمع، ينتبِهُ إلى أَصغرِ الأمور وأرفعِها. أستطاعَ أن يُدرِكَ في الحال أنّ أحدًا يتبعُه، شَعَر بِوَقعِ أَقدامِهما تَسير خلفَه، فالتفتَ إليهما وأَسَرهما بِلَحظِه! كم هو جميل أن نلتفِت لحاجات بعضِنا البعض. لا حاجةَ للكلام، فأحيانًا الإشارة أبلغُ من كلّ قَول، والَّلبيبُ من الإشارةِ يفهم!

 

هذا التّفصيلُ الصّغير ذو المدلولِ الكَبير، الّذي قَد يَبدو بسيطًا أو غَيرَ مهمّ بالنّسبة للبعض، قد أَرجعني إلى سفرِ النّشأةِ والتّكوين، إلى بداية العلاقة بينَ الله الخالقِ والإنسان خليقتِه! فَفي الفصل الثّالث من سفر التّكوين، حيث السّقوطُ في التّجربةُ وارتكابُ الزّلة، سَمِع آدمُ وحوّاء وَقعَ خُطى الرّبّ، فَخَافَا فَاختَبَئَا! أمرٌ غريب قد حَصل! (تكوين 8:3-10). فعلاقة المحبّة الّتي كَنَّها الله للإنسان، قابَلها الإنسان بعلاقةِ خوفٍ فَاختِبَاء!

 

أمّا اليوم، فالحال قد تبدّل، فها هو الإنسانُ يَسير وراءَ الرّب الّذي فَقَدَه بزلّتِه، ويتبعُه إذ شعرَ بمقدار الجاذبية الّتي تصدرُ عن الرّب، والرّبُّ يَسمَعُ وَقعَ الخُطى فيَلتفِت، إذ شعرَ بِحَاجَتِهِما لَه. السّيرُ مع المسيح يا أحبّة، ينبِذُ الخوف ويُبدّد كلّ فَزع، إذ لا خوفَ مع المحبة (1يوحنّا 18:4). فالمسيحُ أعادَ عهدَ المحبّة، وأرجعَ أواصِرَ الُّلحمةَ، بل دَمَغَها بختمِ دمِه المُراق على الصّليب، فهو حملُ الله، الّذي إليه أومئ وأشارَ يوحنّا.

 

"هلُمّا فانْظُرا"! كان لَدى التّلميذّين حاجةٌ، وقد وَجدَت حَاجتُهُما تَلبيَتَها لَدى المسيح. كانَ فيهما سؤالٌ يَستعر، وَوجدَ السّؤالُ الإجابةَ عندَ المسيح. كان عندهما ضَورٌ وعطش، ووجد الضّورُ إشباعه والعطشُ إِروَاءَه ساعةَ أَقامَا مع المسيح. لِقاؤهما مع المسيح قادَهُما إلى اكتشافِ المشيحِ ومعناهُ المسيح. فالّذي فَقَدَه الإنسانُ يوم الزّلة والاختباء، وجدَه اليوم من جديد، ساعة الاتّباعِ والنّظرِ والإقامة.

 

وأنا وأنت ونحن، وكلّ واحد منا، يتبعُ المسيح، ماذا وجدَ فيه، عندَه، لديه، مَعه؟ ربّما وَجدتَ كلّ شيء، ربمّا وجدت بعض الشّيء، ربّما لم تجِد أي شيء!