موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ ابريل / نيسان ٢٠٢١

وقَد صُنِعَت أعمالُه في الله

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأحد الرابع من زمن الصوم: وقَد صُنِعَت أعمالُه في الله

الأحد الرابع من زمن الصوم: وقَد صُنِعَت أعمالُه في الله

 

وَقَد صًنِعت أعمالُه في الله! عِند شراءِ أَيّ مُنتَجٍ من الْمتجرِ أو عَن بُعد، كشراءِ آلةٍ كهربائية، أو سيّارة، أو دواء، أو أَثاث، أو حتّى مجموعة الصّحون والكؤوس في مَطبخِ البيت، فَإنّنا عادةً ما نَلتفِت إلى العلامة الّتي تَدُلّنا على بلدِ الْمَنشأ، لأنّ ذلك يَعني مستوى الجَوْدَة. فإذا كان المنتَجُ ألمانيَّ أو إيطالي الصُّنع، فإنّنا نُبادرُ إلى شرائه فورًا دونَ تَردّد، طبعًا شريطة توافر السّيولة النّقديّة الّلازمة. وإلا أَعدنَاهُ إلى مَكانِه في المتجر، وَاكتَفينا بِمنتجٍ شَبيه، ولكنّه من النّخب الرّابع أو الخامس، صُنِعَ في الصّين.

 

إذا كُنَّا نحن على مُستوى مُنتجٍ أو سِلعة نُريد شراءَها، نهتمّ أوّلًا بِجَوْدَتِها ودَيمومَتِها ومَكانِ صُنعِها، فَكَم بالأحرى عندما يكون الأمرُ مُتَعلّقًا بنا نحن، بمُنتجاتِنا، بثمارِنا، وبأعمالِنا الخاصّة! أينَ صُنِعت أعمالُنا؟ أينَ مَنشَأُها؟ ما هو أو مَن هو مَصدرُها؟ هل صُنعت في الله، أم في الشّرير؟ هل صُنِعت في النّور، أم في الظّلمة؟ أَهي أعمالُ خيرٍ، أم أعمالُ سوء؟! أَيُراد بها حقٌّ، أم سَعيٌ إلى بَاطل؟ أَنَستحِقُّ بِها حياةً أبديةً دائمة، أم دينونةً سرمديّةً باقية؟

 

وعِندَما نُكمِلُ قِراءَتَنا في رواية يوحنّا، ونَصلُ إلى الفصل الثّامن منها، نجد أنفسَنا أمامَ مشهدِ سِجالٍ حامي الوطيس، بين المسيحِ وبين اليهود. ففي الآيةِ الحادية والأربعين من هذا الفصل، نَراهُ يقول لهم: "أنتم تعملونَ أعمالَ أبيكم" (يوحنا 41:8)، وبعدَ قليلٍ يُكمِلُ القولَ مُعنّفًا وموبِّخًا: "أنتم أولادُ إبليس، تريدون إتمامَ شهواتِ أبيكم" (يوحنا 44:8). آياتٌ صارِمَة تعبّر عن كميةِ الفَساد ومقدارِ الشّر، الّذي يمكنُ أن يبلغَ إليهِ الإنسان. أن يكون ابنًا للشّرير، وأن تُصنعَ أعمالُه في إبليسَ نفسِه، الكذّاب وأبو الكذب، الّذي ليسَ فيه شيءٌ من الحق (يوحنا 44:8).

 

إنجيلُ اليوم لا يَكتفي فقط بأن يَطرح علينا سؤال: أين صُنِعت أعمالُنا؟!، بَل أيضًا سؤالًا يمسّنا في صميم حياتِنا كمؤمنين: مَن هو أبونا؟ المسيحُ عَلَّمَنا أن نَدعو الله أبانا، وبولس يُحدّثُنا عن روحِ الله الّذي به نكون أبناءَ الله حقًّا، وبه نُنادي الله أبّا، أيّها الآب (رومة 15:8). ولكن في الحقيقة وعلى أرضِ الواقع: مَن هو أبونا؟! وإذا كان الابنُ يَصنعُ أعمالَ أبيه، فأعمالُ مَن نحنُ نَصنَع؟! كثيرٌ من الأبناءِ (العَاصين)، أعمالُهم هي الكذبِ والغشّ، والحسدِ والحقد، والخُبثِ والفساد، والكبرياءِ والإدانة، وكلِّ رذيلة، فهي ليست من الله، وهم أَعلنوا براءَتهم من الله أَبيهم. ومع ذلك تَجدُهم يَتَخيّرون المقاعد الأولى هنا وهناك، ويَرفعون الأكفَّ ضَارعين، وَيَتصدّرونَ كلّ مناسبة. هل هذا يعني أنّهم مبرّرون تلقائيًّا for granted؟ هذا شيءٌ لله فقط الحكمُ فيه، فهو الدّيان الأوحَد.

 

لذلِك، تَرى المسيح واضحًا لمّا قال أن: "ليسَ من يقولُ لي يا رب، يا رب، يَدخُل ملكوتَ السّموات، بَل مَن يَعملُ بمشيئة أبي الّذي في السّموات" (متّى 21:7). فَبَين القولِ والادّعاء، وبين الفعل والتّنفيذ، أي بينَ الحقّ والباطل، بين النّور والظلمة، بينَ الخيرِ والشّر، بين الزّيفِ والأصل، بَون واسِع وفرق شاسع!

 

دَعونا نعود سريعًا إلى القراءةِ الثّانية من قراءاتِ هذا الأحد، والّتي كانت من رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس، وفيها كتب يقول: "لأنّنا من صُنعِ الله، خُلِقنَا في المسيحِ يسوع، للأعمالِ الصّالحة، الّتي أَعَدّها اللهُ بسابقِ إعدادهِ لِنُمارِسَها" (فيلبي 10:2). يا أحبّة، نحنُ خليقة الله وأبناؤه، هو أبونا وصانعُنا وجابِلُنا، والّذي كَوّننا ونَسَجَنا، وأخرجنا إلى الوجود لنكون. نحن خُلقنَا في المسيحِ كلمةِ الله، الّذي به كانت الخلائق والكائنات كلُّها. نحنُ خلقنا على صورةِ الله أبينا، وأبونا خَيّرٌ، وهو الخيرُ الأعظم والأسمى. ولأنّنا أبناء لله، فَدَعوتُنا أن نصنعَ كلَّ ما هو صالح ومَرضي أمامَ الله ولكلّ النّاس، ودعوتُنا أيضًا ألّا تكون حياتُنا مجرّدَ دعوةٍ دونَ أن نُلبّيها، بل دعوة نُحقِّقُها ونُزاولُها بالحقّ والصّدق، عندما نمارسُ الأعمالَ الصّالحة، الّتي يُريدها الله منّا، فَفيها خيرنا وخلاصنا وحياتُنا الأبدية.

 

ومَع ذلك، لا يغيب عن بالِنا أبدًا أنّنا، وإنْ كنّا أبناء الله، إلّا أن إمكانيّة الضّلالِ تَبقى كبيرة والضّياعِ تظلّ واردة. ألم يَكن الابنُ الضّال ابن أبيه؟! (لوقا 11:15-32) ومع ذلكَ تَاه وظل، إلّا أنه استطاعَ أن يعودَ ويرجع. دَعونا أيها الأحباء، نَستغلّ ما تبقى لنا من هذا الزّمن المبارك، محاولين كلّ جهدنا للعودة من جديد إلى الله أبينا، والرّجوع إليه بالتوبة والنّدم، وبكلّ عمل صالح نَصنَعُه في الله، مَنشئنا ومصدرِنا، لأنّنا من الله خرجنا وإليهِ يومًا سنعود.