موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٣٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

وجَاؤوا مُسْرِعِينَ إِلَى الْمِذْوَدِ

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
وجَاؤوا مُسْرِعِينَ إِلَى الْمِذْوَدِ

وجَاؤوا مُسْرِعِينَ إِلَى الْمِذْوَدِ

 

الأغنام تثغو، والجِمال تهدر، والأحصنة تصهل، وجميع أصناف الحيوانات تُصدر أصواتًا تناسب أنواعها... فماذا حدث يا ترى؟!

 

مِن بعيد بدأت تظهر ثُلة مِن الرجال يبدو على ملامحهم أنهم جاؤوا يبحثون عن شيء ما أو شخص ما. إنَّ منظرهم وملابسهم تدل على أنهم مِن طبقة فقيرة. فها الملابس الممزقة، والأحذية المتسخة المتقطِّعة، وهاك الشعر الطويل المهلهل، وكلُّ هذا يكشف عن هويّتهم. فهؤلاء ليسوا إلَّا رعاة غنم، جَاؤوا حاملين الأغنام، وبسببهم ارتفعت أصوات الحيوانات في المذود. وكان هنالك طفل نائم، ليس على سرير مِن عاج ولا على أريكة مكسوة بالقماش الفاخر، بل في مذود مكسي ومُبطِّن بقليل مِن التبن (راجع لو 2/8-20).

 

 

لنتأمّل ملامح الطفل!

 

عيناه تشعُّ نورًا يخترق ظلمات النفس، شعره الأصفر يضيء كأنه ذهب لامع، فمه الصغير يبدو وكأنه يتحرَّك ويتكلَّم، يداه ورجلاه ساكنتان دون ما حراكٍ. فأمام هذا الطفل المُضجَع في مذود، حبيب الكون برمته، يمكننا أن نردد كلمات نشيد الأنشاد، حيث تصف الحبيبة حبيبها على هذا النحو:

 

«حَبيبي أَبيَضُ أصهَب عَلَمٌ بَينَ أُلوف. رَأسُه ذَهَبٌ خالِصٌ وإِبْريز وخَصائِلُه كَسَعَفِ النَّخْل حالِكَةٌ كالغُراب. عَيناه كحمامَتينِ على أَنْهارِ المِياه تَغتَسِلانِ بِاللَّبَنِ الحليب وهُما جاثِمتانِ على الحَوض. خَدَّاه كَرَوضَةِ أَطْياب وزَهْراءِ رَياحين وشَفَتاه سوسَنٌ تَقطُرانِ مرًّا سائلاً. يَداهُ حَلْقَتانِ مِن ذَهَب مُرَصَّعَتَانَ بالزَّبَرجَد وبَطنُه كُتلَةَ عاج يغَشِّيه السَّفير. ساقاهُ عَموداُ رخام مَوضوعانَ على قاعِدَتَينَ أن إِبْريز وطَلعَتُه كلُبْنان هو مُخْتارٌ كالأَرْز. حَلْقُه كلُه عُذوبَة بل هو شَهِيّ بجُملَتِه. هذا حَبيبي وهَذا خَليلي يا بَناتِ أورَشَليم» (نش 5/10-16).

 

 

واقترب منه الرعاة!

 

ويا لدهشتهم حينما نظروا فوجدوا مريم العذراء ساكنة هادئة هناك، تبدو وكأنها غارقة في تأمّل عميق (راجع لو 2/16-19)! ووجهها كان يلمع كلمعان المعدن الساطع عندما تُشرق عليه الشمسُ بنورها، وصافيًّا كالماء الجاري في الأنهار، ومبتسمًا خاليًّا مِن أيِّ علامات حزن كأنه سماء صافية لا يعكِّر صفاءها غيم ولا سحاب. وبجانب العذراء جلس العفيف يوسف النجار (راجع لو 2/16)، حارس الفادي، وقد ظهرت عليه علامات الغبطة والفرح... ولِمَ لا؟! وهو جالس أمام الطفل يسوع الإله المتجسِّد وبجوار أطهر نساء العالمين!

 

 

لنعود للرعاة ثانية!

 

لنتأمّل دهشتهم! لقد رأوا الطفل كما وصفه لهم ملاك الربِّ، فهو قال لهم: «سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد» (لو 2/12)؛ وها هوذا كلامه يتحقَّق (راجع لو 2/16)!

 

وثَمَّة تساؤل لا بدّ منه: لماذا جاء الرعاة مُسْرِعِينَ إلى مذود بيت لحم؟!

 

ترى هل ليبتاعوا لهم غنمًا؟! أو ظنوا أنَّ طفل المذود سيعطيهم مالًا يغتنوا به؟! أو اعتقدوا أنهم سيتفرَّجون على مشهدٍ رائعٍ لطفلٍ نائمٍ؟! أم لأنهم أرادوا أن يختبروا صدق وعود الله؟!

 

كلا، كلا، لم يأتوا الرعاة للمذود مِن أجل هذا كلّه، فلم يأتوا ليبتاعوا أو يغتنوا أو يتفرَّجوا أو يختبروا!

 

وإنما ربما جَاؤوا لسببين:

 

أولًا: تلبيةً لدعوة الملاك! وهي لم تكن دعوته هو فحسب، بل هي دعوة السماء برمتها (راجع لو 2/13-15)؛

 

ثانيًّا: لشعورهم العميق باحتياجهم إلى مخلِّصٍ! فكلام الملاك كان هكذا: «وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ» (لو 2/11).

 

وفي هذا السياق عينه يقول البابا فرنسيس: «"هلُمَّ بِنا إِلى بَيتَ لَحم، فَنَرَى ما حَدَثَ، ذاكَ الَّذي أَخبَرَنا بِه الرَّبّ" (لو 2، 15): هذا ما قاله الرعاة بعد بشارة الملائكة. إنه تعليم جميل للغاية، يأتينا في وصف بسيط. على عكس الكثير من الناس الذين يريدون القيام بألف شيء وشيء، يصبح الرعاة أول شهود لِمَا هو أساسي، أي للخلاص الذي أعطي لهم. إنهم الأكثر تواضعًا والأكثر فقرًا والذين عرفوا كيف يستقبلون حدث التجسد. إلى الله الذي أتى للقائنا في الطفل يسوع، يستجيب الرعاة بالانطلاق نحوه، من أجل لقاء مفعم بالحب والامتنان. إن هذا اللقاء بالتحديد بين الله وأبنائه، بواسطة يسوع، هو الذي يعطي الحياة لديانتنا، ويصنع جمالها الفريد، الذي يتألق بطريقة خاصة في مغارة الميلاد».

 

 

وماذا يمثِّل المذودُ لنا اليوم؟

 

1) ربّما يكون المذود بمثابة دعوة ما...

 

فالله يدعونا للخلاص وللحياة معه؛ ويدعونا أيضًا دعوة خاصة، كل على حدى، دعوة مِن خلالها يستطيع الشخص أنْ يحيا معه ومع الآخرين، وأنْ يخدمه ويمجِّده في الآخرين ومعهم.

 

فهنالك دعوة لتكوين أسرة مقدّسة صالحة على مثال "العائلة المقدّسة"، وهي الدعوة للحياة "العلمانيَّة" أو "الزوجيَّة".

 

وثَمَّة أيضًا الدعوة للحياة "التكريسيَّة" أو "الكهنوتيَّة"، وهي دعوة للحياة على مثال يسوع الخادم المتضع والكاهن الأعظم، وليس على مثاله فحسب، بل أنَّ وجود الشخص المكرَّس عينه تتصوَّر فيه "صورة المسيح" الكاهن والراعي!

 

ثَمَّة أيضًا الدعوة للحياة"التعبديَّة" أو "الرهبانيَّة"، وهي الحياة التي مِن خلالها يتمُّ التسبيح للثالوث، وهي صورة للآخرويات، وحياة الاتحاد الكامل بالله.

 

[لمعرفة المزيد عن الدعوة إلى الحياة العلمانيّة والحياة الكهنوتيّة والحياة الرهبانيّة، يمكن الرجوع إلى فاضل سيداروس (الأب)، خواطر في التبتل المكرَّس، (موسوعة المعرفة المسيحية - الحياة الروحية، 23)، دار المشرق، بيروت].

 

2) ربّما يكون المذود ذاته هو الدعوة...

 

فهوذا القديس فرنسيس الأسيزي يحيا فقيرًا على غرار طفل المغارة، وهاك أيضًا الأخ شارل دي فوكو يتبع حياة الناصريّ الفقيرة، وهناك خوري آرس وأنطوان شفريه والأم تريزا، وهنالك آخرون عديدون مِن القديسين والقديسات، والشباب والشبات، الذين لا يزالوا يحيون حياة المذود‍. فكم نحن بحاجة إلى مَن يعرف حياة المذود ليس بالأفواه والعظات والكلمات فحسب، بل بكلِّ الكيان أيضًا!

 

فما هو موقفنا نحن اليوم؟‍‍‍‍!

 

إنَّ الواقع صعبٌ، لا بل ويُصعِّب الأمر أكثر، فهو يُضيف للصعاب صعوبة، وللأتعاب تعبًا، وللضعفات ضعفًا. فهوذا الأغلبية يسعون إلى المال والغنى والسلطة والمراكز‍‍. ولكن مهلًا يا أحبائي، فإنَّ طفل مذود مغارة بيت لحم قد عاش فقيرًا قبلنا في مولده وحياته، وحتى في مماته.

 

 

فهيا لنقتدي بشخصه الكريم...

 

هيا نعلن للعالم أجمع أننا لسنا مسيحيِّين فحسب، بل نحن المسيح. فمازال القديس أغسطينوس يصرخ فينا بعبارته المشهورة: «افرحوا لا لأنكم مسيحيُّون، بل لأنكم المسيح»‍‍‍. فيسوغ لنا إذًا أن ننصاع لدعوة معلِّمنا، ولحياة فادينا، ولمذود مخلِّصنا، لكي نستطيع أن نسبر أغوار المذود الصغير العظيم، ونجعله واقعًا ملموسًا يدعو الناس ليمجدوا الآب في ابنه يسوع بواسطة روحه القدوس. ولا غرابة في ذلك، فالمذود يشرح لنا سرَّ تجسُّد ابن الله، سرّ اشتراك الثالوث. ففيه قد كشف الله الأحد-الواحد-الثَّالوث عن ذاته...

 

الآب هو الذي أرسل ابنه إلى العالم!

والابن هو الذي أطاع أباه وتجسَّد بيننا ولأجلنا!

والروح القدس هو الذي حلَّ على أمنّا مريم العذراء، ورافق أحداث الميلاد برمتها!