موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١ يوليو / تموز ٢٠٢٢

واختار اثنين وسبعين آخرين

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
واختار اثنين وسبعين آخرين

واختار اثنين وسبعين آخرين

 

(الأحد الرابع عشر، الإنجيل: لو 10: 1-12، و17-20)

 

كانت علامة أوروبا المميَّزة، أنها حتى الحرب العالمية الثانية، كانت تُدعى القارّة المسيحية. نعم كانت أوروبا تفتخر بمسيحيّتها، إذ كان 90% من سكانها معمّدين. وقد أرسلت في تاريخ الكنيسة أكثر المبشرين والمرسلين الذين ساعدوا بنشر المسيحية في كل القارات. لكن هذه الميِّزة قد صارت في خبر الكانا، وصارت هي اليوم بحاجة إلى مجيء المبشرين إليها، إذ من بعد الحرب العالمية الثانية، واستقطاب اليد العاملة من كلِّ أنحاء العالم لبناية القارة من آثار الحرب، التي دمّرت إلى 80% من أساسها، هو واحدا من الأسباب، الّتي أثّرت على انخفاض الإحصائية العدديّة. هناك سبب ثاني، وهو دخول الديانة المنافسة، إن صح تسميتها ديانة، وهي دخول الشّيوعية إلى الأوساط الدّينية، التي سحرت في بدايتها ملايين المؤمنين، الّذين تركوا الإيمان بالله وأصبحت الأموال والصناعات آلهتهم. هذا ولا ننسى سبباً ثالثا في أواخر القرن الماضي، ألا وهو تغلغل العلمنة في الحياة العامّة وفصل الدّين عن الدّولة، بحجّة الحرّية الدّينية.

 

هذه أسباب واجهت الكنيسة عامة، وأوروبا بشكل خاص، فصارت المسيحية للكثيرين، محطة بنزين، أي يفطنون لدورها لبعض مراحل الحياة فقط: عماد، تثبيت، زواج، دفن وإلى ما شاكَل. بينما للجباة اليومية فلا. أمّا من يتحمّل المسؤوليّة ليبقى الإيمان حيّا في الرّعايا، فصار الاعتقاد أنّهم نخبة تُعد على الأصابع، وعلى رأسهم كاهن الرّعية فالسكرستاني وبعض رؤساء النوادي أو الجمعيات الخيرية في الرّعية. لكن هذا التفكير هو خاطئ، إذ ليس هم الأشخاص، المذكورة أسماؤهم أعلاه، هم الّذين يحفظون الإيمان حيّاُ في الرّعية، لكن مؤسِّسَها يسوع المسيح. نعم هو وحده، حسب شهادة الكتاب المقدّس، هو رأس الكنيسة، الذي يُعطيها الحياة والحيويّة اليوميّة، أمّا باقي العاملين، المذكورين أعلاه وغير المذكورين، فهم كغيرِهم، أعضاءُ تصلهم الحياة والحيويّة من الرأس، لأنه "كما أنَّ الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة، وكلُّ أعضاء الجسد الواحد، إذا كانت كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضا" (1 كور 12:12)

 

فكما أنّ كلَّ أعضاء الجسم الواحد يجري فيها نفس الدّم، هكذا أيضا يريد المسيح أن تجري نعمتُه في كلِّ عضوٍ وبالتّالي في جميع أعضاء الرّعية وتكون فعّالة: "فالان أعضاء كثيرة ولكن جسد واحد" (1 كور.20:12). لذا فإن الفرد المسيحي، مدعوٌّ لخدمة باقي الأعضاء، ومُلزَم بخدمتهم. ففي جسم سليم، لا يجوز أن توجد أعضاء عاطلة عن العمل. فإن لم تتحرّك السيقان والأيادي وتمشي، يُصاب عروق العضل بالارتخاء، فيحلّ في باقي الجسم الاعوجاج والانحناء والضعف. وهكذا أعضاء جسد المسيح، إن لم تبقَ تتحرّك داخليّاً وخارجيّاً، تحت تأثير الإيمان، فلا تُنتِج شيئا مفيدا للحياة المسيحية. إنجيل لوقا الّذي نسمعه هذه السنة، ذكر لنا في فصله العاشر اختيار الاثني عشر رسولا، نيابة عن الاثني عشر أسباط إسرائيل. وأما في الفصل الثاني عشر فيذكر لنا اليوم اختيار ال 72 تلميذا آخرين، وهم ينوبون عن جميع شعوب العالم، المذكورين في الفصل العاشر من سفر التكوين. فكل واحد منّا شخصيّا، هو مدعوٌّ من الله. الله يحتاجنا جميعا للعمل في ملكوته، لان الحصاد كثير لكن العملة فقليلون.

 

في ذلك الزّمان، قال الإنجيل، قام يسوع بهذا الحدث المهم، أي اختيار 72 تلميذا آخرين، وأرسلهم إثنين إثنين، إلى كلِّ مدينةٍ أو مكان، هو كان مُزمِعا أن يذهب إليه. هذا الحدث جرى بعد سنة من اختياره للاثني عشر رسولا. هم كما يقول المثل، جنود خطِّ الِّدفاع الثاني، مهمَّتُهم أن يتمنّوا السلام للبشر، أن يشفوا المرضى، ويُبشِّروا باقتراب ملكوت الله. هذا يؤكِّد لنا، أنَّ الكنيسة هي مؤسّسة إلهيّة، لكنّ إدارتها بين أيدي بشر. فكلُّ البشر مُكلّفون لحمل مسؤوليّةٍ فيها، كهؤلاء التّلاميذ، الّذين رغم الشّروط التي عليهم التّمسك بها: لا دراهم ولا قميص ثاني/ كما لا سندل ثاني ولا أكل، لكنّهم يعرفون أنهم بحمايته ورفقته، ونجاحهم هو سيكون من نجاحه، إذ بعد قليل سيعودون إليه ويخبرونه عن عملهم فرحين. هذا ولكي تُصبح الكنيسة المحليّة حيّة، فهي بحاجة إلى أكثر من شَخْصِ راعيها. على فكرة هو يمكنه أن يكون الرأس المُدبّر، لكن العمل لا يتم بدون اشتراك الآخرين: أرسلهم إثنين إثنين. إذ إن بقي لوحده، فإنَّ كثرة الأشغال والواجبات تخنق حماسه. الكاهن وحده لا يُحيي رعيّة لكن يداً بيد مع الكل. كما في صلاة موروثة من القرن الرّابع عشر، حيث تقول: يسوع ما له أيدي غير أيدينا، وذلك لتتميم عمله اليوم. لا أقدام له سوى أقدامِنا، لنقود النّاس على طرقِه. لا شفاه له سوى شفاهِنا، لنخبر النّاس عنه. ولا مساعدة سوى مُساعدتِنا، لنقود النّاس إلى جانبه. نعم هو مؤسّسُ الدّيانة الوحيدة، الّتي يجب أن تصل إلى جميع أنحاء العالم. كل البشر يجب أن يعرفوا أن الله يحبُّهم ويريد خلاصَهم

 

هذا وإننا لشاكرون لقرارات المجمع الفاتيكاني الثاني والمؤتمرات الأسقفية اللاحقة، التي فسّرت وأوضحت نصوص المجمع وأفهمتنا دور المؤمنين إجمالا، الّذي بوسعهم أن يلعبوه في التبشير، وإحياء الكنيسة المحلّية، إذ المؤمن العلماني ليس مسيحيّاً من درجة ثانية، لا واجب عليه إلا الاستماع والطاعة: لا أدعوكم عبيداً بل أصدقائي، قال يسوع لمُعاونيه في كرمه. هذا وإنَّ الكنيسة لا تعمل أيَّ خطأ، إذا ما أوكلت مُهمات معيّنة في الرّعية لإنجازها أو القيام بها من قبل العلمانيين. إذ بدون إشراكهم في تأدية المهام الدينية والكنسية، يبقى وصول الكنيسة إلى أماكن وأوساط عملٍ ومهام كثيرة في العالم مستحيلا. خاصّة وأنَّ قسما كبيرا من المجتمع والعالم قد انسحب من الكنيسة وتحصّن وراء جدارِ حديدي، فكم من الحقول ما عاد وصول الكاهن إليها ممكنا بل غير مرغوب فيه. لذا فالعلمانيّون هم رسل العالم، وعمّال الكنيسة في وسط العالم، كالخميرة في العجين. كما وأنّ هناك وظائف كنسية في العالم، لا تحتاج إلى وجود الكاهن المُكرَس، كمعلِّم دين، أو كعضو في مجلس الرّعية لإدارة الشّؤون المادَيّة والمالية والاحتفالات الشعبية، التي يمكن وضعها وتنظيمها بين أيدي العلمانيين. فالعلماني يُرسَل في قلب الرّعية، كما يُرسَل السفير إلى بلاد أخرى، حاملا معه عَلَم بلاده، وذلك ليمثّلها عند الآخرين. كل مسيحي يُنتَدَب، بعد قبوله سرّيَ العمّاد والتثبيت، أن يصبح سفيراً في كنيسة الله، ليعطي شهادة في علاقته مع الآخرين، بالنيابة عن الله وتعليمه وتعليم كنيسته. فهو كسفير، عليه أن يُعرِّف عن اتّجاهات كنيسته وسياستها الدّاخليّة. منذ ألفي سنة، والمهمّة هي هي، أي التبشير، وقد ضحى في سبيلها ملايينُ البشر وأخلصوا، إلا في زماننا العصيب هذا، فقد عاد الاهتمام بديانة المسيح ورسالته مُهملا. قالت الإحصائية الجديدة بتاريخ 26. 06. 2022، إنّ 360 ألف كاثوليكي في ألمانيا لوحدها، قد تركوا الكنيسة من سنة 2021 وحتى اليوم. الصلاة، سواء الفرديّة أو الجماعية، تتلاشى أوّلا بأوّل. زيارة قداديس الأحد ما عاد لها أهمِّيّتُها للكثيرين، بينما الاشتراك في الحفلات العالمية، كزيارة ملاعب كرة القدم، أو الأعياد الشعبية، التي تختلف من شعب لآخر، قد حلّت محلّ الذّهاب إلى الكنيسة. قبول الأسرار أصبح اختياريّا بل ومنها مرفوض كالاعتراف أو الزّواج الكنسي. قراءة التّوراة ما عادت ذات أهمّية بل حلّ محلُّها تعبأة الوقت بأجهزة السوشيال ميديا التي أصبحت في متناول الجميع، وماذا نقول عن اختيار الدّعوات الكهنوتيّة، فهي أصبحت نادرة، وقد أصبح التشجيع عليها لا وارداً ولا مرغوباً فيه: الحصاد كثير لكن العملة قليلون. وما نلاحظه أن علامات الدّين المٌميّزة، في الأماكن العامّة قد اختفت. الكنائس عادت تفتح أبوابها فقط وقت الاستعمال، لا كل النهار كما عهدناها في صغرناً، لا لأي زائر أو سائح، ولو أنّنا كما قال بطرس "أمّا أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي، أمّة مقدّسة، لكي تُخبروا بفضائل الّذي دعاكم من الظلمة إلى النور" (1 بطر :9:2).

 

فيجب علينا أن نعتبر أنفسنا، نحن المعمدين والمُثبتين، وهذا يعني أنّنا صرنا الكهنة العامّين، إلى جانب الكهنة الرّسميّين، للعمل في حقل الله، مع هؤلاء ال 72 تلميذاً أخرين، لنقوم بالواجب الذي يصمّمه الله لنا في حياتنا، وهو تثبيتٌ لأسِسِ أعمال الكنيسة الأربعة: أي المحبّة، التّسامح، الخدمة والارتباط بالواجبات الاجتماعية، إذ كل ما فعلتموه لاحد هؤلاء الصّغار، فلي فعلتموه، وذلك بالطرق السّلميّة، بالتبشير، لا بالحرب والسيف: لان كلَّ من يأخذ بالسّيف، بالسيف يؤخذ (متى 26:52). اذهبوا وبشّروا: إنَّ ملكوت الله قريب! الكبير فيها هو الصغير: من أراد أن يكون كبيركم فليكن خادمكم (متى 23:11). أنتم كلُّكم إخوة (متى 27:20). ديانة هذا كيانها، لا خوف منها، ويجب أن تنتشر، لأنها تتناسب مع كل مجتمع، مع كل نظام، مع كلِّ ثقافة، في كلِّ وسطٍ عائلي أو اجتماعي. لكن ما ينقصها هم العمّال ال 72 في كل زمان ومكان. وهم كل مسيحي، كما هو الوضع في الكنيسة البروتستانتية إذ يعترفون بأنّ كلِّ مُعمد  يقدر أن يقوم بمهمّة الكاهن، من هنا تسمية رُعاة الكنائس البروتستانتية كما في الكنيسة الكاثوليكية بلقب خوري الرعية (وهذا غير صحيح). نحن ما اخترنا لا زمان ولادتِنا ولا مكانَها. لكن حيثُ وضعنا الله فيجب أن نصبح عُمّاله. وهذا يبقى فخراً لنا. إذ من يُضحي بنفسه في هذا العالم، ومن أجل أحبّائه وكنيسته، سيكون اسمه مكتوبا في السماء. آمين