موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

"نعيم الفقر وهاويّة الغنى" بين كاتبي نبؤة عاموس والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (عا 6: 1- 7؛ لو 16: 19- 31)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (عا 6: 1- 7؛ لو 16: 19- 31)

 

مقدّمة

 

القراء الأفاضل مُتابعي سلسلتنا الكتابية فيما بين العهدين سنتعمق في مسيرتنا عن موضوع "نعيم الفقر وهاويّة الغني". نعم هناك تناقض شديد بين النعيم الّذي يحيط الفقراء من معاصريّ النبي عاموس (6: 1-7) ومعاصري يسوع (لو 16: 19-31). فقد يصعب أحيانًا علينا كقراء كوعاظ في كثير من الأوقات تقديم تفسير عن جوانب الإيمان التي تبدو غير مفهومة أو بعيدة عن الواقع الـمُعاش. فمن الغريب أن نقرأ نفس هذا الرجل المعاصر يكافح للتفكير في ماهية الجحيم، على سبيل المثال، عندما يشتكي كل يوم من أنه يعيشه. أثناء تحضيري لهذا النص الإنجيلي، تبادر إلى ذهني خداع القلب الشديد والتَّغيب الّذي يعيش فيه الأغنياء دون التفكير في مصدر تطورهم وغناهم. لذا يكشفا لنا نصي مقالنا هذا عن اليقظة والإنتباه لما يُعاش خاصة على مستوى العلاقات بالآخرين بقدر التنبه لمصدر الغنى وارتفاع المستوى الماديّ. هل نعيش اليوم في صراع بين نعيم الفقر وهاوية الغنى؟ نعم قضية الطبقية نالت من كل العصور البشرية. من خلال مقالنا هذا ندعوكم للتحلي بروح مسيحية لعيش الحياة الأرضية دون الإنغماس بالكامل في إزدياد الأرصدة المالية بالبنوك أو الممتلكات بقدر التمتع بنظرة مخلوق يتمتع بخيرات خالقه مُشاركًا غيره فيها.

 

 

1. التحذير الإلهي (عا 6: 1-7)

 

يبدأ النبي عاموس، وهو أحد الأنبياء الصغار، من الإصحاح الخامس من نبوءته بإعلان مجموعة من الويلات بُناء على رسائل الرّبّ له ليبشر معاصريه بالتوبة عن ارتكابهم عما هو ضد الإرادة الإلهيّة. ولدينا في آيات هذا النص النبوي 6: 1- 7 التحذير الإلهي من خلال الويل الثالث الموجهه للأغنياء المنغمسين في الترف والرفاهية المبالغ فيهم والمعتمدين فقط على غناهم الّذي نالوه بطُرق ظَّالمة من فقراء بلادهم صارخاً: «وَيل لِلمُطمَئِنِّينَ في صِهْيون والآمِنين في جَبَلِ السَّامِرَة لِوُجَهاءِ أُولى الأُمَم الَّذينَ يَذهَبُ إلَيهم بَيتُ إِسْرائيل! أُعبُروا إِلى كَلنَةَ وانظُروا وسيروا مِن هُناكَ إلى حَماةَ العَظيمة ثُمَّ انزلوا إِلى جَتِّ فَلِسْطين« (عا 6: 1- 2أ). يدعو النبي هؤلاء الأغنياء إلى العبور أيّ الترحال من خلال رفع النظر عن حالهم الضيق لأوضاع الفقراء والسير إلى منطقة أخرى، داعيًا إياهم للخروج من منطقتهم الآمنة لليقظة من حالة اللاشعور نحو فقراء عصرهم. في مرحلة تالية يعرض هذا النص عنصرين أساسيين: الأول من خلال سؤال عاموس البلاغي القائل: «أَأَنتُم أًفضَلُ مِن تِلكَ المَمالِك أَم أَرضُكم أَوسَعُ مِن أَرضِهم؟» (6: 2ب). كاشفًا عن هويتهم كذويّ الطبقة الغنية. والعنصر الثاني يكشف عن حكم الرّبّ الّذي سيَنصُر بالنهاية هذه الطبقة المظلومة. وينبههم بأنّه بُناء على أحكامهم يتم الحكم عليهم بقضاء إلهي أقوى وغير منتظر. وهنا العقاب لابد وأن يتناسب مع أفعالهم الظالمة وهو السبي، أو التسليم للعدو وبنهاية الأمرين ستخلو بيوتهم من ساكنيها أيّ التشتت وعدم التمتع بالخيرات الدينيّة.

 

 

2. حفر الهاويّة (لو 16: 19- 20)

 

على ضوء ما قرأناه لدى عاموس في رسالته للطبقة الـمُرفهة، هكذا يقدم يسوع تعليمة بحسب لوقا معلنًا من خلال مثله التعليمي عن الفقير والغني، تعبيريّ نعيم الفقر وهاويّة الغنى. ليس من الغريب أن نص إنجيل لوقا يقدم لنا الجحيم بعيداً، كهاوية فهناك مسافة كبيرة بين مكان الفقير ومكان الغني بعد موتهما. ويبدو أن الإنجيلي، على لسان يسوع، يشير إلى أنّ كل إنسان يقوم بحفر تلك المسافة أثناء الحياة، بيد الإنسان يتمّ بناء جحيم العزلة أو يمهد الطريق للعودة إلى الرّحم الإلهي حتى وإنّ عانى من فقر بحياته الأرضيّة. أما بالنسبة لشخصية الرجل الغني بالنص فهو شخصية أخرى يقدمها الإنجيلي، بعد قدّم أبناء الأب الرحيم (راج لو 15: 11- 32) والوكيل الغير الأمين (راج لو 16: 1- 13).

 

فهو الغني، توجد صفته ولا يوجد له اسم بالنص، ومن هنا ندرك إنّه بدأ بالبحث الخاطئ عن معنى الحياة. مرة أخرى، يعود الكاتب على لسان يسوع ليحذرنا من تلك التجربة الخفية لإطعام أنفسنا فقط. فالرجل الغني طوال حياته إلتهَّم الحياة وإحتفظ بها لنفسه. كثيراً ما نتعرض جميعًا لسماع هذا الصوت الذي يحثنا باستمرار على التفكير في الذات أولاً "أنقذ نفسك!" حتى المسيح على الصليب شعر بذات التجربة (راج لو 23: 37). لقد اختار الغني من خلال غناه أن يعيش بالفعل في عزلة أثناء حياته الأرضية إذ يلتقي بذاته في الجحيم. في لغة الكتب المقدّسة، مفهوم الغنى يُناقض فضيلة العطاء، بمعنى أن الغني يعني أنّه لمّ يُشارك أحد في الخيرات الّتي منحها الرّبّ له. الرجل الغني، بهذا المثل، حددّ أسلوب حياته فقد كان يرتدي ملابسه ويهتم بذاته بما هو فخم. يعكس الرجل الغني صورة متناقضة للمسيح، إذا كان الرجل الغني يلبس، فإن المسيح جرَّد نفسه من مساواته مع الله (راج في 2: 6- 8)، وإذا أعطى الرجل الغني للمآدب الـمُبالغ فيها، فإن المسيح أعطي جسده طعامًا. لذلك فإن مَن يبالغ في الاهتمام بذاته هو مَن يحفر ببطء هاويته الّتي تفصله عن الآخرين وعن الله. الغني، حفر قبر الجحيم لذاته خلال حياته عندما أغلق نفسه داخل برجه العاجي، عندما تشبث بالأمان، فهوى بثقله فيه. حاوّل أن يضمن حياته الّتي اعتقد إنها خالدة وبلا نهاية، عندما دافع عن ذاته خلف تلك الصورة التي أصبحت قفصًا له

 

 

3. نعيم النقص (لو 16: 21- 22)

 

نموذج لعازر الفقير بعكس الرجل الغني، فإن لعازر والّذي يعني اسمه من العبري "الله يعين"، هو الذي يعيش نعيم النقص. أراد لعازر أن يطعم نفسه بالقليل حتى يهدأ من جوعه مما دفعه إلى البقاء أمام منزل الغني. سعي لعازر بانفتاحه على الحياة، بألّا يصير منعزلًا لأنه ليس مُنتفخًا بذاته، فقد أعلن إحتاجه إلى شخص آخر، ولمّ يكتفي بنفسه. حينما تعلق الإنسان بشدة بالأرض، صارت قبراً له كما صارت للرجل الغني فوقعت عليه. نظرًا لأن هذا الرجل الفقير تم استدعاؤه فجأة من قِبل رّبّ الحياة للمُساءلة، كذلك بالنسبة للرجل الغني، حينما حان وقته رأى فيها الحياة تقدم لنا دائمًا بسخاء فرصة لمعرفة أين كان يعيش! الرؤية هي فعل المسؤولية لأنها تسمح لنا بإعادة تقرير حياتنا.

 

في الواقع، عند موت كلا الشخصين، يُذكر أن الرجل الفقير، الّذي كان مُحاطًا بالكلاب في خلال حياته الأرضيّة رمز البلايا والإهمال البشري، تتم مرافقته بعد موته من ملائكة الله ومكانه هو حضن إبراهيم، بينما يذكر النص أنّ الرجل الغني ببساطة مات ودفن.

 

 

4. الكلمة الأخيرة للرّبّ (لو 16: 23- 31)

 

من خلال الحوار النهائي بين إبراهيم والغني حينما رأى حقيقة مكانه الّذي بناه بيديه أثناء حياته الأرضية ومكان لعازر. نكتشف أنّ الردّ فعل الإلهيّ مرتبد تمامًا بحريتنا البشرية. فقد إستقبل إبراهيم، صديق الله، فقيره لعازر في حضنه. لكن لا يوجد ردّ فعل إلهي تجاه للرجل الغني فيبدو وكأنه يتلاشى في الهواء. يبدو مركز المثل في هذا السرد أن يسوع يريد أن يذكرنا بما تبقى في الحياة من أعمال أيدينا وإختياراتنا، وما هو مهم حقًا لنا. مِن خلال تعامل الرجل الغني، كذلك سيُعامل أيضًا الـمُنغمسين في النوم أثناء حياتهم. يستعين بنهاية النص يسوع بدور موسى والأنبياء كرمز لشمولية الكتب المقدسة. مما يدعونا هذا المثل للانتباه، بأنّه من الغد وصاعدًا، سيثيرنا هذا المثل ولن نستمر في تشتت انتباهنا عن القلق اليومي باحثين عن الملابس المناسبة أو حبس أنفسنا وحدنا في ودائع أوراقنا المالية. علينا أن نجتهد لفهم وعيش الحياة بشكلها الحقيقي فنحن من نبني نهايتنا سواء بنعيم الفقر أو بهاوية الغنى. تعبير «هُوَّةٌ عَميقة» (يو 16: 26) تتم بحسب الحرية البشرية وقوة الكلمة الإلهية.

 

 

الخلَّاصة

 

لا شيء أصعب من خداع القلب، من خلال هذين النصيين كشف لنا يسوع أن عن ضرورة العدالة الجزائية، في تعليمه بمثل مشيراً للفرق بين الأغنياء والفقراء، مُعلنًا عدالته بحكمه الصالح للرجلين الـمُمثلين طبقتين مختلفتين. اليوم يدعونا هذا المثل لئلا نعيش بطريقة مشتتة وخالية من الهمّ دون أن نلاحظ الآخرين الموجودين على باب حياتنا، وهم الذين يتحدثون عن أنفسنا. مدعوين لفحص قلوبنا تجاه الفقراء المحيطين بنا. ثم تأتينا أيضًا من خلال رسالة عاموس النبي، دعوة أخرى نحو اليقظة مما نحن منغمسين فيه وطلب نعمة السمع لإحتياجات مُعاصرينا لئلا تزداد الفجوة بين هوة غِنانا ونعيم الفقراء الّذين حولنا. هناك أيدينا التي تحفر وقلوبنا الّتي تتعلق بالرّبّ فهل نبني ما يزرعه الرّبّ بقلوبنا كمسيحيين أم أن حياتنا منفصلة عن إيماننا؟ دُمتم أيها القراء الأفاضل في توازن بين الإيمان والحياة بالتنعم بالفقر وفي حضور الرّبّ وهو أفضل من بناء الهاوية الخالية من الحضور الإلهي.