موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٥ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

"مُرسل الرب" شخصية إرميا ويسوع بحسب الإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"مُرسل الرب" شخصية إرميا ويسوع بحسب الإنجيل الثالث

"مُرسل الرب" شخصية إرميا ويسوع بحسب الإنجيل الثالث

 

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (إر 1: 4- 19؛ لو 4: 21- 30)

 

مُقدّمة

 

نحن هنا بمدينة النَّاصِرَةَ - مسقط رأس يسوع (راج لو 4: 16)، إذ يسمح لنا لوقا بسماع صوت يسوع كقارئ للكتب المقدسة وسط أهله مُشيراً إلى هويته كرجل عبريّ وكقارئ بالطقوس اليهودية. كما تعمقنا في نقاشنا بمقالنا السابق عن أهميّة الكتب المقدسة في العهدّين. علينا الأخذ في الإعتبار خلفية ضرورية قدمها لنا لوقا: «كانَ يسوعُ عِندَ بَدءِ رِسالتِه، في نَحوِ الثَّلاثينَ مِن عُمرِه» (3: 23). هنا نبدأ في تتبع خطوات المعلم في رسالته العلنيّة. ثم يكشف الإنجيلي تأكيديّن الأوّل في الآية التي يفتتح بها لوقا نصّ مقالنا قائلاً: «اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم» (4: 21). والتأكيد الثاني في الآية الختاميّة للمقطع إذ يعلن أن يسوع: «مَرَّ مِن بَينِهم [أهل الناصرة] ومَضى» (4: 30). هذين التأكيدين هما صدى لما سنقرأه في المقطع الثاني بالعهد الأوّل في نبؤة إرميا وهو يشير إلى دعوة النبي إذ نسمع الصوت الإلهي مُفتتحًا هذا المقطع: «قَبلَ أَن أُصَوِّرَكَ في البَطنِ عَرَفتُكَ الأَرض» (أر 4: 4) ويختتمه بـ «فيُحارِبونَكَ ولا يَقوَونَ علَيكَ لِأَنِّي مَعَكَ، يَقولُ الرَّبّ، لِأُنقِذَكَ» (أر 4: 19). سنتعرف معًا على الوجه العلمي والتطبيقي في حياة رجال الله سواء الأنبياء (أرميا) أم يسوع إبن الله بحسب وجهة نظر مار لوقا.

 

 

1. سِر الكلمة الإلهية (إر 1: 4- 8؛ لو 4: 21- 22)

 

مع الأنبياء هناك كثيرين مِن الدعوات التقليدية التي نقرأها في العهد القديم، إذ حينما يدعو الله شخص ما (موسى، جدعون، إرميا، أشعيا، ...) بنوع من عدم الإستحقاق يقدمون إعتراضاتهم. وها نحن اليوم، من خلال أرميا، نواجه مسيرة دعوة تتمائل لما ذكرنَّاه. الرّبّ القدير يدعو إرميا الشاب الصغير السن حقيقة، إلا إنّه يقدم إعتراضاته. وبما أن الداعي هو إلهي وكلمته لها قوتها يبدأ الرّبّ في تقديم ضمانات للمدعو، وبذلك يجيب بالقبول ويبدأ مغامرته النبوية أو الرسولية مرافقًا بيد الله. وهكذا الأمر مع بعض شخصيات العهدين، إلا أن الآمر يختلف مع يسوع إذ هو الأقنوم الثاني إذ يقدم ذاته بحسب قول كاتب العظة إلى العبرانيين: «لِذلِكَ قالَ المسيحُ عِندَ دُخولِه العالَم: "لم تَشَأْ ذَبيحَةً ولا قُرْبانًا ولكِنَّكَ أَعدَدتَ لي جَسَدًا [...] وقَد كانَ الكَلامُ عَلَيَّ في طَيِّ الكِتاب: "هاءَنَذا آتٍ، أَللَّهُمَّ لأَعمَلَ بمَشيئَتِكَ"» (عب 1: 5-7). إذن يرافق الـمُرسل قوة الكلمة الإلهية الخفية بسِرها وتهدف إلى لقاء الإنسان بالله سواء في النبي من خلال مقطع أرميا أو في شخص المسيح من خلال نص لوقا.

 

يبدأ يسوع، بحسب المقطع لدى لُوقا، كرازته بإعلان الإتمَّام للمقطع الذي قرأه من نبؤة أشعيا. إلا أن يسوع يفعل ذلك من واقع مختلف تمامًا عن النبي أرميا كمرسل وكنبي؛ فهو الله المتجسد، لكنه قرر أن يصبح إنسانًا ليأتي ويلتقي بنا. هو الذي جعل نفسه قريبًا منا، وفي هذا المقطع هو الّذي يأتي للقائنا ويتواصل معنا، كاشفًا وجه الآب. يفعل يسوع ذلك مُصليًا بالمجمع العبري، سائراً طُرق حياتنا اليومية، تاركًا لنا الحرية اللامحدودة لقبوله أو لرفضه. لا يزعج يسوع حياة من يلتقي بهم (أنا وأنت اليوم)، بل يرافقهم لاكتشاف المعنى العميق لدعوتهم من خلال مشاركته رحلة الحياة اليومية. لذلك مدعويين لفتح قلوبنا لتنفس نسيمه الخفيف في حياتنا!

 

 

2. رفض المعاصرين (إر 1:  17- 19؛ لو 4: 24)

 

كِلا الموسلين بالرغم من إختلاف هويتهما يتقابلا بالرفض من المحيطين بهم. في كِلا المقطعين الـمتوازيين هناك عنصران يثيران توتر المحيطين: الأوّلى، انّ  كلمة الله هي الّتي تَدعو وتُرسل حامليها سواء النبي الشاب أم الأقنوم الثاني - الإبن وسط معارضات الشعب الـمعاصر لهما مما يؤدي إلى نمو روح العنف في هؤلاء المحيطين بهم، فيرفضونهم أو يحاربونهما: «لا تَفزَعْ مِن وجوهِهم [...] فيُحارِبونَكَ» (1: 17- 19). يبدو الأمر كما لو إنهما عنصرين متلازمين الـمُرسلين من الله والـمُستقبلين للرسالة الإلهية، ولا مفر منهما لأي دعوة تأتي من الله. تدعو كلمة الله سواء مُرسلها وتدعمه لتأدية مُهمة إلهيّة لصالح معاصريهما.

 

تواجه هذه الكلمة مُعارضة ورفض وعنف من قِبل مُستقبليها. لا مفر من أن يحدث هذا لأن هناك دائمًا شخص ما يريد إستخدام كلمة الله لـمَصّالِحه الخاصة كأهل الناصرة الذين كانوا يأملون في جني بعض المزايا على الأقل من مواطن بلدتهم الذي صار مشهوراً كيسوع الذي: «كانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً [...] كانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم، ويَعجَبونَ مِن كَلامِ النِّعمَةِ الَّذي يَخرُجُ مِن فَمِه» (لو 4: 15. 22). هكذا كانت مملكة إسرائيل أيضًا تنتظر خروج نبي من ذات المدينة، منتميًّا لأسرة ذات منصب مرموق في البلاط الملكي، لا يُخالف مشاريع السياسية الملكية. لكن كلمة الله لا تُقيد ولا تسمح باستغلالها، ولهذا يأتي إعلان يسوع الواضح: «الحَقَّ أَقولُ لكم: ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه» (لو 4: 24).

 

 

3. قوة الكلمة الإلهيّة  (أر 1: ؛ لو 4: 25- 27)

 

حين يروي لوقا بعض من أحداث الماضي على لسان يسوع بأمثلة واقعية تمت مع إيليا وإليشع يسرد إسم شخصيتين الأرملة الغريبة والأبرص الغريب: «لَم يُرسَلْ إِيليَّا إِلى واحِدَةٍ مِنهُنَّ [الأرامل]، وإِنَّما أُرسِل إِلى أَرمَلَةٍ في صَرْفَتِ صَيدا. وكانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ» (4: 25- 27). هنا يؤكد لوقا بهذه الإشارة أن كلمة الله تصل، من خلال الـمُرسل، إلى إمرأة ورجل غرباء باليهودية. مما يُشدد الإنجيلي على أنّ الوطن هو المكان الذي توجد فيه مزايا خاصة، تذكر يسوع بأحداث العهد الأوّل(راج 1مل 17؛ 2مل 5)  لغرباء أي ليسا بيهود الأصل. وبما إنهما "أجانب"، فليس لهم إمتيازات للمطالبة بشئ، لهذا السبب تمكنوا من قبول كلمة الله من إيليا وإليشع كمرسلين من الرّبّ كما هي. هاتين الشخصيتين ليسا من نسل داود وليسا من أبناء إبراهيم، ومع أصلهم الأجنبي لمست الكلمة الله قلوبهم ببساطة وبشكل يختلف عمَن ينتموا للشريعة اليهودية وللمملكة الداوديّة والنسل الإبراهيمي.

 

وإذ تسألنا عن مدى يقين الـنبي لمواصلة مسيرته التبشيرية مع العلم بأن الكلمة التي تدعوه تتجه حتمًا نحو المعارضة والرفض من السامعين لها؟ يتبيّن لنّا أن هناك تناقضين: من الجانب الأوّل، تأكيد الله وضمانه للنبي في قوله: «فيُحارِبونَكَ ولا يَقوَونَ علَيكَ لِأَنِّي مَعَكَ، يَقولُ الرَّبّ، لِأُنقِذَكَ » (أر 1: 19). من الجانب الثاني، شغف المدعو بالكلمة الإلهية. وهنا يكمن سِر المدعو وبوجه خاص يسوع الذي أرسله الآب لخلاص البشرية، فبالرغم من معارضة أهل وطنه بالناصرة ومُعاصريه، وهو الأشد إيلامًا له، قررّ يسوع أن يبقى خارج المدينة وإستمر حضوره على الطريق وهذا نتبينه من كلمات لوقا القائل: «مَرَّ [يسوع] مِن بَينِهم ومَضى» (لو 4: 30). حب يسوع للبشرية جعله لا يقابل الرفض بالرفض بل نجح في أن يكون حلقة وصل بين الآب والبشرية. صار يسوع الكلمة الحية للآب بحياته وبقراره بالبقاء في حياة معاصريه وبتقديم الخلاص. إنتصرت بالنهاية كلمة الآب وهي يسوع بقيامته.

 

هكذا النبي أرميا، بقوة كلمة الله الذي دعاه، إستكمل مسيرته بالرغم من حداثه سِنِه وخبرته إلا أن قبوله للأقوال الإلهية خطوة بعد خطوة، بالرغم من الآلام والإضطهادات إلا إنّه صار أحد الأنبياء الأربع العظماء الذين حملوا كلمة الله للشعب في زمنهم. 

 

 

الخلاصّة

 

تلعب حياتنا اليوم كمؤمنين على هذين العنصرين الصراع بين الأوّل هو الرفض من المحيطين والثاني هو الشغف بالكلمة الإلهية بدون تزمت أو تعصب. لدى إرميا، إذا تمكنّا من قراءة نبؤته بالكامل، يكون واضحًا جدًا أن رسالة النبي تعتمد فقط على الضمان الإلهي ونار شغفه بالكلمة التي تدعوه. ولكن أيضًا مسيرة يسوع بأكملها نحو أورشليم تتعرج بين يقين العلاقة مع الله والرغبة في أن تحترق النار التي أتى بها على الأرض.   

 

نحن اليوم، أمام دعوة الـمُرسل سواء البشري (أرميا) أم الإلهي- البشري وهو يسوع، مدعوين من كلمة الله، لنراقب تحديين: الأوّل، هو المقاومة التي تحملها قلوبنا بعدم اللقاء لكلمة الله والتهرب من مسئولية أن نحملها لقلوبنا ولمعاصرينا. الثاني، مواجهة تحديات ورفض معاصرينا وقد يكونوا أهل وطننا، ساعيين لإدراك الحقائق الّتي تحافظ على حياتنا كمؤمنين وتساعدنا لنستمر في البقاء على الطريق الحياة متيقنين من قول الله: «لِأَنِّي مَعَكَ» (أر 1: 19). ساعيين أيضًا لتقوية حماس مُعاصرينا بالشغف بالكلمة الإلهية. اليوم من خلال لقائنا بالرّبّ وقبول دعوته لنكون مرسليه في مجتمعنا علينا بالثقة فيه سواء كنّا رجالًا أم نساء. أمانة الرّبّ بأنه معنا حماستنا لقوة كلمته حينما يرسلنا ستكون كلمة المرور كيسوع للقدرة على "العبور" وإستئناف رحلتنا والضامن الوحيد لنا هو الحضور الإلهي وكلمة الرّبّ.