موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

مونديال سياسة وحقوق... وفلسطين

روجيه أصفر – سوريا

روجيه أصفر – سوريا

روجيه أصفر :

 

مئات ملايين البشر في شتى أنحاء المعمورة، يعيشون أبرز تجليات شغفهم بكرة القدم هذه الأسابيع، بطولة كأس العالم، المونديال الحدث الذي يعود مرة واحدة كل أربع سنوات، ليصب تغطية إعلامية عالمية على دولة واحدة، يتنافس فيها 32 منتخبًا وطنيًّا.

 

الحدث تجاوز حدود الرياضة، فنمط حياتنا اليوم ووسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة لنقل ما يجري مباشرة، ولطرح الأفكار والنقاش، وفوقها التركيز الإعلامي، كلها شكلت أو أضافت جوانب أو طبقات أخرى، فصار المونديال "أغورا" تجمع كثيرين من كل أنحاء العالم حول مواضيع مختلفة.

 

قضايا "بسيطة"، أو أخرى شائكة، صارت مرتبطة بالمونديال، بدءًا من السياسة أولًا ودائمًا بكل تشعباتها، إلى قضايا المهاجرين، والعمال، وحقوق الإنسان، والرأسمالية، وفساد الفيفا... إلخ. بعض هذا القضايا يظهر كم من الممكن لإنسان اليوم أن يكون بعيدًا عن المنطق. فمنذ ما قبل انطلاق مباريات كأس العالم، استُبعدت روسيا بسبب حربها على أوكرانيا من منافسات البطولة، في عقوبة ليست سهلة الهضم، وقد تفسَّر على اعتبار أنها خلط للرياضة بالسياسة، وكَيل بمكيالين من جهة، كأن مشاركة منتخب روسيا أو حتى فوزه بالمونديال، سيغير موقف الإدانة تجاه عدوانها على أوكرانيا من جهة أخرى.

 

إيران مثلًا: لم يُستبعد منتخبها من البطولة، على الرغم من المعارضة الغربية لموقفها السياسي السلبي ودورها الإقليمي وطموحها النووي، وتضييق السلطات في إيران على حقوق الإنسان وحرية المرأة، وقمعها العنيف للتحركات الاحتجاجية في أنحاء مختلفة من البلاد. حضر منتخب إيران البطولة، وقام بحركة رمزية تبدو بسيطة، حين امتنع اللاعبون من ترديد النشيد الوطني في أولى مبارياتهم، تعبيرًا منهم عن تضامنهم مع مواطنيهم، ورفضهم القمع؛ ما ساعد على لفت أنظار العالم إلى ما يجري في بلدهم من نضال ومقاومة، وكيفية مواجهة السلطة لذلك.

 

تنظيم البطولة في دولة عربية ذات هوية مسلمة، حدثٌ مميَّز في حد ذاته؛ إذ يشكل مناسبة لِلِّقاء بين الوافدين من شتى أنحاء العالم وأبناء مجتمع عربي خليجي مسلم، لدى كثيرين صور نمطية سلبية بحقه. فإما أن تكون فرصة لتبديد بعض من هذه الصور ودحضها، أو لتأكيدها -عن قصد أو غير قصد- بسبب سياسات تواصل وتسويق وشروط تنظيم، قد لا تكون واضحة أو مفهومة لثقافات أخرى.

 

الحدث أيضًا -بالنسبة إلى قطر وزوارها- فرصة للتفكير في الحقوق والقضايا والممارسات الخلافية، وفي الفرق الذي من الممكن أن يكون جوهريًّا، بين عدم القبول لممارسة معينة أو الاعتراف بحق ما من جهة، ومنع الآخرين من أصحاب القناعات المخالفة من التعبير عن موقف يرونه سليمًا، من جهة أخرى.

 

الحدث القائم حاليًّا بالإضافة إلى ما سبق، والذي لفت أنظار كثيرين، هو محاولة مراسلين لوسائل إعلام إسرائيلية مرارًا وتكرارًا التحدث إلى مشجعين عرب من جنسيات مختلفة. كان المشجعون يردُّون بلطف على أولئك المراسلين، ولكن ما إن يكتشفون هوية المراسلين الإسرائيلية، حتى ينقلب المشهد في كل مرة، فتتغير تعابير وجوههم، وينسحبون فورًا من المقابلة، أو يصرِّحون بعدم اعترافهم بـ "إسرائيل".

 

شكلت محاولات اللقاءات التلفزيونية الإسرائيلية هذه، قضية مناسبة، أو تذكيرًا بجوانب قد تكون مهمة، منها:

 

- حاجة إسرائيلية أولى: إلى كسب قبول الشعوب العربية المحيطة بفلسطين، والتواصل مع مواطنيها. وذلك يُظهر أمرين: أن اتفاقات السلام الرسمية لا تعكس موقفًا شعبيًّا عامًّا، وأن سلوك المقاطعة الشعبية كان له على المدى الطويل نتائجه المفيدة.

 

- حاجة إسرائيلية ثانية: إلى تجديد ظهورها بمظهر الضحية وإنعاشه، وأنها داعية سلام وحسن جوار، وأن الآخرين "الجيران" معادون للساميَّة، عدوانيون، لا يقابلون اليد الممدودة لهم بيد مماثلة. ظهر ذلك في استغلال المحطات التلفزيونية الإسرائيلية انسحاب المشجعين العرب المتكرر من المقابلة الإسرائيلية، لإظهار المنسحبين وكأنهم الفاعل السلبي في هذه الصورة، وأن دعاة السلام والتواصل الإسرائيليين لا يقابَلون بمثل ما يَدعون إليه.

 

- طرْحُ السؤال بخصوص ما يفكر فيه الإسرائيليون ويشعرون به: هل هم فعلًا مُفاجَؤون بموقف المواطنين العرب؟ أليسوا مدركين لما فعلوا واقترفوا -وما يزالون- في فلسطين؟ هل يتوقعون من كل هذا الاحتلال والقتل والقصف والاعتقال والحصار... نتيجة مخالفة؟! وإن كانوا مدركين لهذه الحقيقة التي تجعل موقف المشجعين العرب أكثر من مفهوم، فهل قاموا قصدًا بمحاولة مقابلتهم لاستفزاز العرب، أم لكسب تعاطف الغرب، أم لتحقيق نِسب مشاهدة عالية في مجتمعاتهم؟

 

برأيي، لا يمكن لمونديال -باعتباره حدثًا رياضيًّا من حيث التعريف- أن يكون مساحة حل لكل القضايا الشائكة المطروحة، ولكنه يمكن -بل يجب- أن يكون مساحة للتعبير عن هذه القضايا وغيرها. وإن لم يثمر كل ذلك نتائج إيجابية اليوم، فإنه فتح على أي حال بابًا جديدًا في مكان جديد، ولدى مجتمعات جديدة، للتفكر في قضايا عديدة مهمة، ولإنتاج مواقف علنيّة منها -عسى أن تكون إيجابية-، بدل اعتماد سياسة تجاهل أو إقصاء أو انعزال.

 

(تعددية)