موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٣٠ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

معاملة المرأة: سباق بين الترقي والإنحطاط

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

د. ميشال عبس :

 

لقد حدّدت منظمة الأمم المتحدة يوم الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر على أنّه اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة.

 

أمّا في السنة الحالية، فهو "كما كان الحال في السنوات السابقة، يدّشن اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة لهذا العام 16 يومًا من النشاط يجب أن تُختتم في 10 كانون الأول/ ديسمبر، وهو اليوم الذي تٌحيي فيه ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان" وذلك حسب ما أفاد الموقع المخصّص لمكافحة العنف ضد المرأة (*).

 

وكما أورد الموقع نفسه، فإن هذه الحملة "التي يقودها الأمين العام للأمم المتحدة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة منذ عام 2008" تهدف "إلى منع العنف ضد النساء والفتيات والقضاء عليه في جميع أنحاء العالم". كما تحث على "اتخاذ إجراءات عالمية لإذكاء الوعي ولتعزيز الدعوة إلى ذلك الهدف ولإتاحة فرص لمناقشة التحدّيات والحلول."

 

أمّا بالنسبة إلى العام الحالي، وحسب الموقع ذاته، فإن حملة إتحدوا تهدف "إلى حشد كافة أطياف المجتمعات في كلّ أقطار الأرض وتنشيطها في مجال منع العنف ضد المرأة، والتضامن مع ناشطات حقوق المرأة ودعم الحركات النسوية في كافة بقاع الأرض لمقاومة التراجع عن حقوق المرأة والدعوة إلى عالم خالٍ من العنف ضد المرأة والفتاة."

 

ويضيف الموقع أن العنف ضد المرأة والفتاة يعتبر "واحدًا من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارًا واستمرارًا وتدميرًا في عالمنا اليوم، ولم يزل مجهولًا إلى حدٍّ كبير بسبب ما يحيط به من ظواهر الإفلات من العقاب والصمت والوصم بالعار."

 

أمّا العنف ضد المرأة فقد إتخذ أشكالًا إختلفت حسب الزمان والمكان رغم أنّ الحد الأدنى منها يبقى غير مقبول.

 

لقد تعرّضت المرأة تاريخيًّا لأبشع أنواع المعاملة وأقلّها الضرب وأقصاها القتل، وبينهما كلّ أشكال الإذلال والعنف اللفظي والإغتصاب أو الزواج القسري أو تشويه الأعضاء التناسلية وحتى العبودية والإتجار.

 

ويعود سوء معاملة المرأة الى أسباب متعدّدة منها الموروث الثقافي - القيمي الذي يجعل منها مواطن تابع ومن الدرجة الثانية، ومنها السياسي والتشريعي الذي يمنع عنها حقوقها وحتى المطالبة بها، ومنها الإقتصادي الذي يجعلها عرضة للإستغلال من الأقوى، ومنها النفسي الذي يسمح للرجل من ممارسة غيظه وحقده عليها. المهم في كلّ ذلك أنّه يؤدي إلى جعل المرأة الحلقة الأضعف في المجتمع والتي ترتد عليها كلّ مصائبه.

 

أمّا تبعات سوء معاملة المرأة فهي كثيرة وليس من الممكن حصرها لشدّة تعقيدها ولكونها تتداخل مع شؤون الحياة عامة.

 

إرتدادات العنف ضدّ المرأة تكون أولًا على الصعيد الجسدي حيث تعاني من شتّى أشكال الأمراض مثل الآلام الجسديّة على أنواعها، وأمراض العضلات والمفاصل كما أنّه من البديهي أن تصاب بالاكتئاب وأن ينعكس ذلك على تغذيتها ونومها وراحتها وعافيتها. كلّ ذلك دون أن نلغي من الحسبان محاولات الإنتحار التي قد تلجأ إليها عندما ترى طريق حياتها مسدودًا.

 

ويشكّل العنف ضد المرأة عائقًا في سبيل إشتراكها في الأنشطة التربوية والإجتماعية والإقتصادية عامة، أكان على صعيد النشاطات الثقافية والإنسانية أم على صعيد الإنتاج. حتى المرأة التي تعمل، كانت تجد راتبها مُصادرًا من قبل الذكر الأقرب لها، الأب أو الأخ أو الزوج وهذه مشكلة كبرى وأساسية إذ تجد نفسها مجرّدة من الوسيلة الوحيدة التي قد تؤمّن لها بعض الإستقلالية والكرامة. أمّا بالنسبة إلى التعليم، فقد شكّل هذا الباب سببًا رئيسيًّا في النزاعات العائلية حيث تعتبر العائلات التي ترى المرأة كائنًا دونيًّا، إنّ التعليم هو وسيلة إختلاط وتحرّر واستقلال مادي لاحقًا.

 

هذا المشهد القاتم لم يعد إلا جزءًا صغيرًا من وضع المرأة في المجتمع وأصبح بشكل كبير جزءًا غير مرغوب فيه من الماضي.

 

إنّ التقدم الذي حصل في المجتمع الإنساني عامة، وفي مجتمعاتنا في العالم العربي خاصة، لهو تقدم مشرّف ويقتدى به.

 

لقد لعبت الأفكار التنويرية من جهة، ومناصرة المرأة لحقوقها ودفاعها عنها، من جهة أخرى، دورًا بارزًا في الحال التي وصلت إليها أوضاع المرأة في عالمنا الحديث.

 

لقد أصبحت شريكًا ذو حقوق كاملة في شتّى المجالات. نجدها في كلّ مكان، جنبًا إلى جنب مع الرجل، وأحيانًا متقدمة علية. نجد فيها الجدّية والإبداع والقدرة على الإبتكار والإنجاز. لقد تفوقت في جميع مجالات الحياة، الثقافية منها والإنسانية والسياسية والإقتصادية والمهنيّة، وقد ساعدها في ذلك تقدّم مضطرد على صعيد الأفكار والعقائد جعل من المجتمع موئل مساواة لا معتقل تميّيز.

 

إنّ المعاملة التي تتلقاها الفتيات من عائلاتهن قد اختلفت اليوم عمّا كانت عليه خلال عقود خلت، أكان في المساواة في فرص التعلّم أم في حرّية الإختيار أم في الإرث، وذلك رغم وجود بعض من بؤر التمييز في أماكن متفرّقة من العالم ورغم وجود بعض الأصوات التي تريد إعادة عقارب الزمن إلى الوراء.

 

لقد أيقن الإنسان الحديث أنّ معيار رقيّ وتقدّم الأمم هو معاملتها للمرأة، الأم والأخت والزوجة والإبنة والرفيقة وزميلة العمل. كيف يمكن للمجتمع أن يصنّف درجة ثانية من تحتضن أجيال الغد تسعة أشهر في كنفها ومن تسير معه دروب الحياة الأولى ومن تبقى مرجعه كلّ العمر؟

 

الصراع اليوم محتدم، رغم أن الحصيلة معروفة سلفًا، بين من يريد أن يتابع المسار نحو المواطنة التامة للمرأة، ومن يريد العودة بالمجتمع الإنساني إلى عصر الظلمات. لقد أثبت التاريخ الإنساني أنه ليس للظلامية من انتصار.

 

عندما أتت الجماهير الجاهلة إلى السيّد المتجسّد تريد رجم المرأة التي اعتبروها "زانية"، ناسين أن في الزنى شريكين، كان موقفه لا لبس فيه وجوابه واضحًا وقد دخل التاريخ الإنساني منذ ذلك اليوم، حيث رفع السيد المرأة الى مصاف الإنسان، الشريك الكامل في المجتمع.