موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

مثل الملك الغني وأليعازر الفقير

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
مثل الملك الغني وأليعازر الفقير

مثل الملك الغني وأليعازر الفقير

 

الأحد السادس والعشرون (لو 19:16-31)

 

أليعازر، (الكلمة تعني الله يعاون/ يؤازر) في هذه القصّة، يُجسِّد إنسانًا بل فئة من الناس مدحها يسوع في التطويبات، وهي طبقة الفقراء، إذ قال: "طوبى للفقراء فإنَّ لهم ملكوت السّموات" (لو 21:6). لكن فئة الأغنياء فنصيبها الويلات: "الويل لكم أيها الأغنياء، إذ لا عزاء لكم تنتظروه" (لو 24:6). ممّا لا شكّ فيه، لوقا لا يريد أنْ يعتبر الغنى شرّاً من الشيطان، إذ يُنسينا بالتّالي أنّ اتّكالَنا هو على صلاح الله.

 

المال هو موضوع لا ينضب، إذ له وجوهًا عديدة حتى في الكنيسة. فطريقة استعماله، هي التي تقود إمّا إلى الخير أو إلى الشر. هذا ولا يمكن استحقاق السّماء بالمال. فها نحن منذ الأحد التاسع عشر، واليوم هو الأحد السادس والعشرون، والمال والمُلْك يلعبان دورًا كبيرًا في عظات يسوع وتعليمه، ولوقا، كأنه تخصّص بهذا الموضوع، هو الّذي يوردها لنا. وهو الّذي يهتم بموضوعي الغنى والفقر أكثر من باقي الأناجيل.

 

الأحد التاسع عشر سمعنا عن الشاب الّذي يطلب من يسوع أن يتدخّل له مع أخيه، لتقسيم الورثة بينهما. الأحد العشرون قال يسوع: لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، بل كنوزاً لا تفنى في السّماء. الأحد الحادي والعشرون قال: من أحبّ أبًا أو أمًّا أو إخوةً أكثر مني فلن يستحقني. الأحد الثاني والعشرون أورد قصّة الفلاح الّذي غلّت له أرضه، فأصابه الجشع وما افتكر إلاّ في نفسه، فقيل له: "الليلة تُؤخذ نفسك منك". الأحد الثالث والعشرون شرح لنا: من يُعطي حسنة فلا يجوز أن تعرف يده اليسرى ما فعلته اليمنى. موضوع الأحد الرّابع والعشرون كان قصة الابن الّذي أخذ كامل ورثته وترك البيت فبعثرها على الملاذ الدّنيوية، فرجع بالتالي فارغ اليدين والقلب، فندم وتاب وعاد إلى البيت الأبوي ليبدأ حياةً جديدة. الأحد الخامس والعشرون حكى لنا قصّة الوكيل الخائن. واليوم الأحد السادس والعشرون فموضوعه الكامل هو لنا، ويصف لنا الفرق بين الملك الغني في هذه الدّنيا وأليعازر الفقير، لكن بعد موتهما تتغيّر الأدوار. ألا تلعب هذه الأمثال دورا مهمّا لحياتنا؟ أليست كلُّها دروسا مُفيدة لنا؟

 

في كل تعاليمه وتطرّقه إلى المال، حذّر يسوع سامعيه من الأخطار الكامنة فيه. وقال لهم مرّاتٍ عديدة: إصنعوا خيرا! إذ هو كان يعرف ما يقول، فهو ما أدان المال، بل قال  المال هو أكبر عائق للدخول في السماء، إنْ تَملّك على قلب صاحبه وأساء استعماله. فبهذا المعنى جاءت قصة اليوم: ومن لا يعرفها، قصّة هذا الملك اللامبالي، صاحب الغنى الفاحش، مُقارنةَ بالمسكين الفقير المدعو أليعازر؟ الّذي فقط بعد موته ينال العدالة.

 

يقوم لوقا بوصف دقيق لهذه القصة، التي تنتهي، كما يقول المثل، ببيت عتابًا للغني على الأرض، حيث تنعكس الأدوار عند الله. هذا الغني على الأرض هو من قمة ونخبة البشر، كان لا ينقصه شيء، يستطيع شراء وامتلاك كل شيء من ملبس أو مأكل أو مشرب. لكن هل تقوم الحياة فقط على المأكل والمشرب والملبس؟ حتى كلبُه مُعزّزٌ مرفّهٌ، بينما أليعازر فمريض وفقير وجوعان، حتى ما له القوّة لطرد الكلاب من لحس تقيُّئه، ولا يُسمح له بإسكات جوعه، حتى من فُتات طعام الكلاب تحت المائدة. فالفرق شاسع، والمُقارنة بينهما صعبة. فهل هذا شيء طبيعي؟ لا أظن، إذ لوقا يُتابع وصف القصّة ختى حتى بعد موت الإثنين، وهو، أي لوقا، يريد أن يتوصّل إلى شيء منطقي، إلى نتيجة تدفع إلى التفكير. بعد موت الإثنين، تتغيّر الأدوار عند الله، الذي لا يحابي الوجوه، إذ ليس من أمرٍ مستحيل عند الله. عند موته، تأتي الملائكة وتحمل أليعازر إلى حضن إبراهيم (لو 22:16)، بينما الملك الغني فيُرمى في نار جهنَّم الحارقة، ويبدأ يشعر بالألم، الذي ما كان معروفاّ لديه، خاصة عندما يرى ما حصل عليه أليعازر الفقير من تقدير. يا أبت إبراهيم! أرسل أليعازر كي يغطَّ أُنمله في الماء ويمسح به لساني. هو ينتظر الآن المساعدة مّمن رفض هو مساعدته. يا للتعاسةّ هو يتمنّى الآن نقطة ماء من أُنمل أليعازر، مع أن هذا ما حصل على فتاتِ طعامٍ من طعام الكلاب تحت الطاولة.

 

النبي عاموس الذّي منه كانت القراءة الأولى وفيها وصف نصيب الأغنياء والكسالى وتنبّأ بقروب نهاية غناهم، هي واقعيّة. فنقول إنَّ كلَّ واحدٌ يحصل على نصيبه الّذي استحقّه. فعالَمٌ ما زال فيه إنسان يتالّم من الجوع فهو عالم غير طبيعي. ومن افتكر أن العدالة ستنقلب موازينها فقط في الآخرة، فهو مغلوط، ولا من عزاء في ذلك. والخطأ أنّنا ثقّفنا النّاس على هذا المبدأ المغلوط، أي أن يصبر المظلوم والفقير على نصيبه في هذه الدنيا، بمضض وألم حتى يدخل العالم الثاني فينال مكافأته في الآخرة ويحصل على العدالة المنشودة. فهذا تعليم خاطئ لا عزاء فيه إلا للعقول والقلوب الساذجة. كما وأنَّ هذا لا يعتمد على تعليم الإنجيل، إذ إله الكتاب المقدس وأبو سيدنا يسوع المسيح هو إله لا يقبل بإرجاء العدالة إلى العالم الثاني، ولا يسمح بشرعيّة تعذيب عبيده وآلامهم في هذه الدّنيا. أذكر أنك نلت نصيبك في هذه الدنيا والآن....

 

لوقا حاصل على لقب إنجيلي الفقراء والمحتاجين إلى الرحمة، إذ ليس من إنجيليٍّ آخر يسمح للفقراء بالتّكلم ورفع صوتِهم وبسط أحوالِهم مثله. منه وحده نعرف قصّة الابن الضائع والخروف الضائع والدراخما المفقود. والأحد الماضي قصة الوكيل سيئِ الإدارة. هذا ونقدر أن نقول، إنّ لوقا ما كان يقصد فقط هؤلاء الحالات في رعاياه التي كان يعتني بها، لحثّهم على التوبة، بل كل الحالات المشابهة في العالم ولكل الأزمان والأوقتة. وبهذا المعنى يجب أن نفهم قصة اليوم، التي تريد أن تُحرِّك ضمائر أغنياء زماننا، ويغيّروا سلوكهم، قبل تعزية الفقراء والمتألمين، ليحتملوا  وضعهم وينتظروا العدالة في العالم الثاني.

 

لوقا لا يريد تهديد الأغنياء، إذ بالتهديد لا يصل التعليم غايته المنشودة، بل يريد بوصفه الأوضاع بين نصيب أليعازر والملك الغني، أن يقول: إن الله واقف إلى جانب الفقراء، بل هو الفقير هو محامي الفقراء، وعلى الأغنياء أن يفتحوا يفتحوا عيونهم على وضع واحتياجات الفقراء حتى في هذا العالم، فهم بموقفهم، لا يؤلمون فقط الآخرين بل ويؤلمون أنفسهم، إذ الأفراح التي يتذوّقونها، هي قصيرة المدى وفانية، إذا ما قيست بأفراح أليعازر المُؤبّدة وفي أحضان إبراهيم. فهذا ما أراد لوقا أن يوصله، للسامعين والقارئين، حينما كتب هذه القصة، وهو أن إلهنا، لا يرغب من أيٍّ كان أن يتألّم، ولذا فهو يتوجّه إلى الأغنياء، ليفتحوا عيونهم ويروا طريق معاملتهم وتفكيرهم الخطأ، قبل أن يفوتَهم الأوان، وبالتّالي نقدر أيضا أن نقول، إن لوقا هو أيضًا انجيليُّ الأغنياء، يدعوهم ليمدّوا يد المعونة للفقراء: كلّ ما فعلتموه لأحد هؤلاء الصغار فلي فعلتموه. فهذه القصّة تقدر أن تبعثنا على التفكير لنساعد، وبالتّالي كي نستحق أن ننتهي بحضن إبراهيم.

 

للتفكير: يُحكى أنّه في أغنى مدن مملكته، كان أكثر المائتين  جوعًا، فأصدر الوالي Peros قرارًا للأغنياء، مفاده: عن كلِّ جائعٍ يموت في مدنكم، سوف أرمي غنيًّا منكم في السجن حتى هو يموت جوعًا، فمنذ تلك اللحظة ما سمع الملك أنَّ أحدًا مات جوعًا في مملكته، هذا وما احتاج الأغنياء أيضًا أن يجوعوا، بل راحوا يُوزِّعون ما فاض من أموالهم على الفقراء. أليس هذا درسًا للدول الغنية، خاصة اليوم حيث 42 دولة التي تنتج أسلحة وترسلها إلى أوكرانيا، لمقاومة حرب روسيا عليها. فهل نقدر أن نقول أن أوروبا وأمريكا ما لديها مالا للفقراء بل فقط لإنتاج الأسلحة الفتاكة وقتل الفقراء؟ من له أذنان سامعتان فليسمع!