موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

لا خوفَ في المحبّة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
لا خوفَ في المحبّة

لا خوفَ في المحبّة

 

يَبدو أنَّ واقِعةَ الأحدِ الماضي، عِندَما زجرَ المسيحُ بطرسَ بأقسى الكلمات: "اِذهبْ عَنّي يا شيطان"، ظَلّتْ عالِقةً في أذهانِ التّلاميذ. فها نحن نراهم اليوم مرّتين غير قَادرين على الكلام، وكأنّ أَلسِنَتَهم قد رُبِطَت! ففي الْمَرّةِ الأولى، لَم يفهموا ما كانَ يعني بقولِه، ومع ذلك لَم يَسأَلوه بسببِ خوفِهم! وفي المرّة الثّانية أيضًا لَبثوا صامتين، عندما بادَر هو إلى سؤالِهم، فيمَ كانوا يتباحثون أثناء سيرِهم في الطّريق! ولم يجرأ هذهِ المرّة بطرسُ أو غيرُه أن يُجيب بشيء!

 

الخوفُ يا أحبّة، يُكبِّلُ الإنسان ويُقيّدُه، ويحدُّ من حرّيتِه وقدرتِه على الحركةِ وحتّى الكلام! ولأنّ التّلاميذَ كانوا خائفين من المسيح، نَراهم يَتَجَنّبونَ سؤاله! ليس لأنّ المسيحَ شخصٌ مخيف، أو أنّه يُزرعُ الخوفَ في قلوبِ أتباعِه، أو يضرِبُ بيدٍ من حديد كلَّ مَن خالَفَه الرّأيَ. كلّا، ولكن لأنّ التّلاميذَ يَعلمونَ أنهم مُخطِئون، وأنّهم يَتَباحثونَ في أمورٍ ليست على حَسب قلب المسيح. فَخَشيوا أن ينالَهم شيءٌ من التّوبيخَ كما نالَ بطرس!

 

فهم يبحثونَ عن المراكز والمناصب والمنافعِ، والعزِّ والسّلطةِ والجاه... وليسَ هذا الّذي يُريده المسيح من تلاميذِه وأتباعِه. لذلك يُعطيهم درسًا، عندما أخذَ بيدِ طفلٍ وأقامَه بينَهم، لِيُعلّمَهم بأنَّ الكِبرَ الحقيقي عند الله هو عندما تكون كبيرًا في الخدمة، كبيرًا في التّواضع، كبيرًا في البساطة على مثالِ الأطفال. لا كِبرَ عندَ المسيحِ في العَنجهيّة ولا في الكبرياءِ، ولا في التّعسّفية ولا في الاستعلاء، ولا في الزّعامةِ ولا في السّطوةِ، ولا في الشِّيخةِ ولا في الاستقواء!

 

لذلك، مع كلِّ أسف، في الكنيسة، كما في أيّ مكان له صفةٌ عامّة، لا يزال الكثيرون، كهنة ومكرّسون ومؤمنون، يفهمون الأوَّلية والقيادةَ بِشَكلِها الدّنيوي الْمَادّي الخاطئ: صفوف أولى ومقاعد أولى وصدورَ مجالِس وسجادٌ أحمر وكلمات تَبجيل وتعظيم وإجلال، وإطلالات مسرحيّة أمام الكاميرات! لذلك، مساحاتُ النّفاقِ تزداد، حيثما وجب أن تسودَ أجواءُ التّواضعِ والبساطة!

 

أمرٌ آخر لفتَ انتباهي في هذا النّص، وهو أنَّ المسيح لم يكتفِ فقط بإقامةِ هذا الطّفل بينَ تلاميذِه، بل ضَمّه إلى صَدرِه أيضًا. أن تضمَّ إنسانًا إلى صدرِك، حركة تدلُّ كم أنّ هذا الإنسان عزيزٌ عليك، غالٍ على قلبِك، تريدُه قريبًا منك لأنّك تُحبُّه. وقُلنا أنَّ هذا الطّفل جعلَهُ المسيحُ لتلاميذِه درسًا في الخدمةِ والتّواضعِ والبساطة. والكتابُ يقول على لسانِ بطرسَ الرّسول: "إنّ الله يكابِرُ الْمُتَكبّرين، ويُنعِمُ على المتواضعين" (1بطرس 5:5). وأيضًا يقول على لسانِ العذراء: "حطَّ الأقوياءَ عن العروش، وَرفعَ الوضَعاء" (لوقا 52:1).

 

الإنسانُ الْمتواضعُ البسيط الطّيبُ الخدوم، هو كهذا الطّفل، مَحضونٌ من الله، وهو قريبٌ ليسَ فقط مِن قلبِ الله، إنّما أيضًا مِن قلوبِ النّاس. ربّما يهابُ النّاس صاحبَ الْمنصبِ والزّعامة، ويُنافِقون كثيرًا لِمن عندَه السّلطة والثّروة، ولكنَّهُ لن يكون أبدًا موضوعَ حُبِّهم الصّادِق. لأنَّ المحبةَ لا تجتمعُ مع الخوف: "فلا خوفَ في المحبّة، بل المحبّةُ الكاملةُ تَنفي عنها الخوف، ومَن يَخفْ لمْ يَكُنْ كامِلًا في المحبّة" (1يوحنّا 18:4).

 

أمرٌ آخر جَديرٌ بإن نَقِفَ عنده، وهو أنّ المسيح وَجّه القول مباشرة لتلاميذِه بشكلٍ صريح. بينَما هم كانوا يَتباحثون فيما بينَهم، أي بمعزلٍ عنه! إذا أردنا أن نُحلّل ما جَرى، نَستَنتِج بإنّ المسيحَ كان مُتقدِّمًا عن باقي التّلاميذ وهم وراءَه، ولكنّه كان يسمع ما يقولون! أي أنّهم كانوا يتحدّثون مِن (وراءِ ظهرِه). هذا الأمر موجود في حياتِنا الرّعوية: فبعضُ الرّعية تَستاءُ مِن راعيها، والرّاعي يَستاءُ مِن بعضِ الرّعية. أمورٌ تحصُل لا تُعجِبُ بعضَ الرّعية فَينتَقِدون وَيتَذمّرون ويُستنكِرون، وأمورٌ لا تُعجب الرّاعي فينتَقد مَا جرى ويَمتَعِضُ مِمّا حصل. فالأمرُ مُتبادَل، وكِلاهما مُخطِئ! فَتَبقى الْمواجهة المباشرة الصّريحة أقصرُ الطّرق لحلِّ الخلافات، وهو ما لا يحصلُ دائِمًا، إلّا بعدَ فيضٍ من النّقاشاتِ، الّتي تتم ليس فقط في الطّريق، إنّما اليوم أيضًا، على الهاتف وغيرها من وسائل المراسلةِ والاتّصال.

 

يا أحبّة، عادة ما يقول الأطفال كلامًا عابِرًا، ولكنّه حقيقي بناءً على ما يسمعونَ ويُشاهِدون. لِذلك في جَلساتِنا نُبادر إلى تَكميمِ أفواهِ الصّغار، ولا نسمح لهم بالكلام، أو نُغلِق عليهم باب الغُرفة، خوفًا من زلاتِ الّلسان الّتي قد تفضح أمرًا ما، يحصلُ عِندَنا في البيت. المسيح اليوم بإقامته هذا الطّفل يُعطينا درسًا بأنّ لا نستخف بالصّغار أو مَن يبدو أقلّ شأن وقيمة، فالمسيح رَفع شَأنَهم وأَعلَى مَنزِلَتَهم، مُلَقِّنًا بهم الكبارَ دَرسًا في التّواضِع والخدمة!