موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ فبراير / شباط ٢٠٢١

قَدِّس خَمرَتَنا الجديدة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
كنيسة سيدة الوردية - الكرك

كنيسة سيدة الوردية - الكرك

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ في المسيحِ يسوع. بَعدَ أَن تَأمّلنا على مَدارِ آحادٍ ثلاثة، في مجموعةِ معجزاتِ الشّفاء الّتي أَجرَاها السّيدُ المسيح، ننتقلُ مع هذا الأحد إلى مجموعةٍ أخرى، نَدعوها (مجموعة المجادَلات). أي تلكَ المساجلات والمُنَاظراتِ الكلاميّة، الّتي كانت تَجري بين المسيح من جهة، وبين وجهاء اليهود وأعيانهم من جهة أخرى. غالِبًا لَم يكن بلوغُ الإيمانِ الغرضَ من وراءِ تلكَ المُماحكات، بل كانَ الإيقاعَ بيسوع، أو اصطيادَه بكلمةٍ أو تصريحٍ، للنّيل منه والقضاء عليه. وهذا ليس بغريبٍ عَليهم، وهم "أبناءُ قتلة الأنبياء" (متّى 31:23)، فَقد كانت عادتهم مُحاربة رجالِ الله وأصفيائِه، النّاطقينَ بالحقّ العاملينَ به.

 

وَلَمّا كانوا عاجزين عن النّيلَ مِنه بِكلمةٍ أَو بِموقف، استخدموا طُرقهم الْمُلتوية وأساليبَهم الخبيثَة، فَهَاجَموه هذه المرّة من خَاصرةِ تَلاميذِه، مُعتقدين أنّها خاصرة رَخوة، فَتَلاميذُكَ يا يسوع لا يصومون، كما يصوم تلاميذُ يوحنّا والفرّيسيين!

 

سِجالُ اليوم يدور حولَ موضوعِ الصّوم، وهو بالمناسبة نفسُ السِّجالُ الّذي يُثار كلّ عام عند بدء كلّ صومٍ كبير. حيثُ نجِدُ تلك الفئاتِ المتشدّدة، الّتي تدّعي امتلاكَها للإيمانِ القويم، وأنّها وحدَها الّتي تسيرُ على السّراط المستقيم، كتلاميذ الفرّيسيين، يُمارِسون دورًا رقابيًّا يترصّدون غيرهم محاولينَ تجريمَهم، غَافلين عن جوهر الصّوم، وَغَايتِه النّبيلة. فالصّومُ وإن كانَ تَرفُّعًا عن المادّة، بهدفِ الارتقاءِ صوبَ الله، يُصبح عند البعض عيشًا بينَ الحفر، ووسيلةً لإطلاقِ الأحكام وإدانةِ الآخرين. فَبِتنَا لَسنا ندري للنّاس ربٌّ أم أربابُ؟!

 

يأتي بعضُ النّاس إلى يسوع، ويسألونَه: "لماذا يصومُ تلاميذُ يوحنّا والفرّيسيين، وتلاميذكَ لا يصومون؟". يأتونَ إليه وفي قلوبِهم حُكمٌ على تَقصير، وفي نِيّتِهم إدانة على مخالفة. فإنّ وراءَ الأكَمَةِ ما وراءَها، فمِن خلالِ هذا السّؤال الماكِر، نستطيع أن نشمَّ رائحة التّأثيم والتّجريم، فالهدفُ منه ليس استفسارًا أو استجلاءً للأسباب، بقدر ما هو إعابةٌ لتلاميذِ المسيح، وتصنيفُهم ضمنَ فئةِ المسيئين والْمَارِقين.

 

في المقابِل، جوابُ المسيح على هذهِ الإدانة المبطّنة، لم يأتي على التّقليل من شأنِ الصّوم وَأَهمِّيَته، وَلكنّه أعطاه معنّى أسمى وأرقى، وَوضعَه ضمن إطارِه الصّحيح. فالصّوم ليسَ هدفًا إنّما وسيلة، لكي نصِلَ إلى العريس يسوعَ المسيح. والصّوم مع المسيح لا يعني تجويعًا للجسد بهدفِ الجوع، كَمن يضع وحشًا برّيًا في قفصٍ ثمّ يُطلقه بعد حين لِيَظلّ وحشًا برّيًا وربّما أَسوء، بقدر ما هو تهذيبٌ للذّات البشرية، الزّقاقِ العَتيقة، بكاملِ عناصرها وكافّةِ جوانبِها، لتصبِحَ أكثر إنسانيّة على صورةِ المسيح ابنِ الإنسان، بل أكثرَ تَألّهًا على صورةِ المسيح الإله، وأكثرَ جاهزيّة لقبول المسيحِ الخمرة الجديدة.

 

مُحاجّةُ اليوم تَقودني إلى واقعة أخرى. فكلّنا نذكر عِندَما أَتى المسيح بيتَ صَديقه لعازر وَأُختيه مريم ومَرتا. وكيفَ أنَّ مرتا أَخذَت تَلومُ مريم على عَدم مُسَاعدتِها في شؤون الخدمة. ربّما تكون مَرتا مُحقّة في طرحِها من جانب مُعيّن، ولكنّها غَفِلَت عن الجانبِ الأهم أو النّصيبِ الأفضل. هذا ما يحدث كثيرًا في حياتِنا الرّوحية، عندما نَتَمسَّكُ بالقشورِ ونترك الجوهر، عندما نَتعلّق بالمظاهرِ ونتخلّى عن الباطِن، عندما نكتفي بالعِظام ونُطرحُ النّخاع، عندما نتفرّغ للّومِ وننشغِلُ بالإدانة ولا نهتمُّ بالنّصيبِ الأفضل! فَعِندها يُصبح الصّوم وغيرُه من الوسائل، لُبًّا وغايةً وأحيانًا سببًا للجدالِ والسّجال، ويصبحُ الهدف قِشرةً بلا قيمة ودون أدنى اهتمام.

 

بَعدَ أسابيع قليلة سيبدأ زمن الصّوم الكبير. فَخُذوا حذرَكم مِن كلّ فئة تريد الهبوط بمعنى الصّوم، أو تجريدَه من معانيه الرّوحية السّامية، وحصرَه في طبقة المادّيات وموائدِ المأكولات. خُذوا حذرَكم من كلّ فئة تدّعي الأفضَليّة وتَعتمِرُ هالةً من القُدسيّة، فلا فضلَ لأحدٍ على أحد، إلّا في تقوى الله وَمَخافتِه، وليسَ لأحد أن ينتقِدَ ويلومَ أحد، فالرّب واحد وهو ديّانُ النّاسِ أَجمَعين. أمّا الصّوم فهو أعظمُ من ماذا نأكل وماذا نشرب. الصّوم هو وَسيلة بها نستعدُّ للاحتفالِ بالمسيح عريسنا، الّذي يُتوّجُ صَومَنا يوم يُزفُّ إلينا حملًا فصحيًّا لا عيب فيه، ويرفع من أجلِنا فوق الخشبة مخلّصًا وفاديًا، ثمّ يقوم ربًّا ومسيحًا.

 

صدّقوني، البعضُ يضيع كثيرًا من الوقتِ والجهد وراء مماحكات صبيانيّة وجدالاتٍ عقيمة لا طائِلَ منها. والبعضُ الآخر يَضعُ يَدَيه على المحراث، ولكنّه لا يزال مُلتفِتًا إلى الوَراء! اتركوا الحكمَ للحاكم والدّينونةَ للدّيان. مَن أرادَ الصّوم فَليَصُم، ومن أرادَ السّجود فَليَسجُد، ومن أرادَ العطاء فليُعطِ، ومن أرادَ أن يتّبِعَ منهجًا أو أسلوبًا آخر، يتقرّب به إلى ربّه، فَدَعوه ولا تحكموا عليه. وإن كانَ لا يتبعُ مَنهَجَك وأسلوبَك أو لا يسيرُ على شاكِلتِك، فلا يُعطيكَ ذلك الحقَّ في أن تَزدريه وَتُحقّرَه أو تكفّرَه، كَما يطيبُ للبعضِ أن يفعل جهارًا نهارًا!

 

لا يُريدنا المسيح فرّيسيين مُرائين في تصرّفاتِنا ونظراتِنا للأمور. لا يُريدنا فرّيسيّين مُدّعينَ البرارة محتقرينَ سائر النّاس. لا يُريدنا أن نتوقّف عند محطّات ثانويّة متخلّفين عن تلكَ الجوهريّة. لا يُريدنا أقزامًا صغارًا في إيمانِنا. يُريد المسيح يا أحبّة أن يُعلّمنا فنّ التّمييز بينَ الوسائلِ والهدف، وموهبةَ ترتيب الأولويّات في حياتِنا الرّوحية والإيمانيّة. يريدنا المسيح أن نسموَ في صومِنا، في رؤيتِنا للأمور، وفي طريقة تعاملِنا مع الأشخاصِ والأشياء. يريدنا أن نتخلّى عن كلّ ما مِن شأنِه أن يفقِدنا العريس، أو يتلِفَ وجودَه في حياتِنا. يريدنا إنسانًا جديدًا كي يبقل الثّوب الجديد، يريدنا زقاقًا جديدة كي تقبل الخمرةَ الجديدة. يريدنا أن ندركَ أهميّة حضورِهِ كعريس في حياتِنا، فوجوده يعني لَنا الفرحَ والغبطة والبهجةَ والسّرور.