موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

عيد الحبل بلا دنس

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يا سلطانة الحبل بلا دنس صلي لأجلنا

يا سلطانة الحبل بلا دنس صلي لأجلنا

 

تدبير الله الّذي يفوق كلّ تدبير

 

في الثّامِن من شَهرِ كانون الأوّل مِن كُلّ عام، تَحتفِلُ الكنيسةُ الكاثوليكيّة، بعيدِ الحبلِ الطّاهرِ بِسيّدتِنا مريم العذراء، البريئةِ مِن كلّ دَنس، والْنّقيةِ من كلِّ شائِبَة، والخاليةِ من كلّ وَصمةٍ للخطيئة. هكذا آَمَنَت، وهَكذا عَلّمَت الكنيسةُ الكاثوليكيّة، بخصوصِ أُمّنا مريمَ العَذراء. وهذا التّعليمُ صارَ عَقيدةَ إيمانٍ ثابِتة، نؤمِنُ بها نحن الكاثوليك، أَعلَنتها الكَنيسةُ على لِسان البابا بيوس التّاسع، في نفسِ هذا اليوم مِن عام 1854.

 

وَقَد جاءَ نصُّ العَقيدة في البراءةِ الرّسولية "Ineffabilis Deus/ الله الفائق الوصف"، وفيها أعلن قَداستُه قائِلًا: ((بِسُلطانِ ربِّنا يسوعَ الْمسيح، نُعلنُ ونُقِرُّ ونُحدِّد، أنَّ العَقيدةَ الّتي تَقول بإنَّ العّذراءَ مريم الْمغبوطة، قَد عُصِمَت من كلِّ دَنسٍ لِلخطيئة الأصلية، منذ اللحظةِ الأولى للحبلِ بها، بِنعمةٍ وحُظوةٍ خاصّة من الله القدير، نظرًا إلى استحقاقاتِ يسوعَ الْمَسيح، مُخلّصِ الجنس البَشري. هي عَقيدةٌ أَوحَى بِها الله، وهَكذا يجبُ أن يَعتَقِدَها كلُّ الْمؤمنين، بِثباتٍ وفي كُلّ حين))/ الكَنيسة الكاثوليكيّة في وثائِقها، ص 606، رقم 2803.

 

وَأيضًا جاءَ في نفس الوَثيقة: ((لَقد اختارَ اللهُ الّذي يَفوق الوَصف، مُنذ البدءِ لابنِه أُمًّا يُولدُ منِها بعدَ التّجسُّدِ في مِلءِ الأزمنةِ. وَأَظهرَ لها من الحُبِّ فوقَ كلّ الخلائِق، ما جَعَلَهُ يَضعُ فيها، على وَجهٍ فَريد، أَعظمَ مرضاتِه. لِذلِك، غَرفَ مِن كَنز ألوهِيّتِهِ وآتَاهَا، غزيرَ نِعَمِه السّماويّة، إذْ عُصِمَت من دَنسِ أيّ خطيئة، وَزُيِّنَت بالجمالِ والكَمال))/ الكَنيسة الكاثوليكيّة في وثائِقها، ص 605-606، رقم 2800.

 

عيدُ (الحبل بلا دَنس) هو عيدٌ مَريمي، إذ يُحيي ذِكرى تَكوّنِ العذراءِ في حَشَا والِدَتِها، كَنُشوءِ كلّ ذي بشر، مِن أبيها يواكيم وأُمّها حنّة، ولكنّها نَشَأَت بريئةً من كلِّ خطيئة. جَميلٌ جِدًّا أن يأتي موعِدُ هذا العيد قبلَ أَيّامٍ قَليلة من موعِدِ حُلولِ عيدِ الميلادِ المجيد. فيُذكّرنا هذا بالارتباطِ الجوهري والالتحام ِالْمَتين، القائِمِ بَين الْمسيحِ وأُمّه مريم. فَهو ارتباطٌ لا ينفصِلُ، والتحامٌ لا يُفسَخ. فالحبلُ بمريم والّلحظةُ الأولى لِنَشأتِها في رَحمِ أُمِّها، كانَ البدايةَ الفِعليّةَ لِعملِ الله الخلاصي، في فداءِ كلّ ذي بَشر.

 

أّيُّها الأحبّة، لا يُمكِنُ للنَّقصِ أن يَستوعِبَ الكَمال، أو أن يَزيدَ عَلَيه شيئًا. ولكنَّ الكَمالَ يُتمِّمُ كلَّ نَقص. فَلَيس بالشّيءِ الصّعبِ على اللهِ الكَمالِ الكُلّيّ والأزلي، أن يُكمِّلَ في مريم ما نَقُصَ، لِيَجعلَ مِنها أُمّا للعلي، وَرَحمًا مُنزَّهًا عن كل خطيئة. فاللهُ الكاملُ قادرٌ أن يُكَمّلَ نَقصَ مريم، ذاكَ الّذي تُسَبّبُهُ الخطيئة في كلِّ بشر. وِمن هُنا كَانَ نَصُّ العقيدة واضِحًا، فَمريم نالَت هَذهِ النّعمةَ الفائقةَ الطّبيعة، باستحقاقاتِ سيّدنا يسوع المسيح، وليسَ لِفَضلٍ مِنها على الله. أمّا رَفضُ إمكانيّةِ ذلك، من قِبلِ البعض، فَأرى فيه تَحجيمًا لِقُدرة الله، وتحدّيًا لِقُدرتِه، وانتقاصًا من حكمتِه وإدارتِه لِشُؤونِ الخليقة، وأمرِ خلاصِها.

 

عيدُ الحبل بلا دَنس بحسب الْمنظورِ الكاثوليكي لا يُعفي مريم من واقعِ الخطيئة، وكأنّها لَيسَت واحِدةً مِن ضِمنِ الجنسِ البَشري! فَمريم أيضًا، كَغيرِها من البشر، كَانت بحاجةٍ إلى الفِداء، فَهي أَيضًا مُخلَّصَة، بنعمة المسيح مخلّصِ الجنسِ البشري. وَلَكنّها كَأمٍّ للمسيحِ الْمُخلِّص، نَالَت الخلاصَ بِصورة مُسبَقةٍ وَبهبةٍ من الله، حَتّى تكونَ مُستَعِدّةً لِقبول كَلمةِ الله في حشاها.

 

ومَع مَحبّتِنا واحترامِنا للكنائِس الشَّقيقَةِ الّتي تَرفضُ هذهِ العقيدة، فإنّنا نحنُ الْمَسيحيّين الرّسوليّين جَميعًا، نُؤمِن بمريمَ العذراء، الفائِقةِ الطُّهرِ والكُلّيةِ القداسة، وإن اختَلَفَت بعضُ الشَّيءِ طريقةُ الإعلان وأسلوبُ التّعبير. نحنُ نؤمِنُ بِأنَّ مريمَ بَريئةٌ من كل خطيئة، مُنزّهةٌ عن جميعِ العيوب، وإن اختَلَفنا في التّوقيتِ والكَيفيّة، الّتي فيها نَزَّهَهَا الله وَوقاها وحماها، حتّى اصطَفاها وجَعلَ منها لذاتِه أُمًّا.

 

في مَقالةٍ قَرَأتُها مُؤخّرًا لأحدِ الآباء الأرثوذكسيين، يُدعى ميخائيل بومازانسكي، يحاول فيها دَحضَ هذه العَقيدة، على أساسِ أَنَّ اللهَ لا يُحابي أحد، وبأنَّ مبدأ الامتيازِ لا يتوافق مع الْمفاهيم الْمَسيحيّة. مِن ناحية قد يبدو هذا صَحيحًا. ولكن ربّما غَفِلَ الكاتب أنّ اللهَ لأجلِ إبراهيمَ خَلِيلِهِ ولأجلِ شَفَاعتِه، كان سَيُلغي العقابَ الّذي أَرادَ أن يُنزِلَهُ بأهلِ سَدوم (راجع تكوين 16:18-33). فإن كانَ اللهُ لأجلِ إبراهيم، سيُغيّرُ مُخطّطًا أو سَيُبدِّلُ إرادةً إلهيّة، فَكَم بالأحرى سَيصنَعُ لِمَن اصطَفاها أن تكونَ لِكَلمتِه أُمًّا؟!

 

هناكَ فَرقٌ بين الْمُحاباة أو مَنح الامتياز (Privilege)، القائم في العادة على مصالحٍ متبادَلَة وربّما نِفاق، وبينَ الاختيار والإفراد، الّذي هو دعوةٌ ساميةٌ مجّانية، وهِبةٌ من الله وَحدَه فقط، مُعطي المواهب ومُوزّعُ الدّعوات والأدوار. الامتيازُ يَعني، على سَبيل الْمثالِ، أن تُعطي دَولةٌ الحقَّ الحصري لِدولة أُخرى، بِأنْ تُنقّب عن النّفط في أراضيها، مُقابل خَدماتٍ ومساعداتٍ تُقدّمها الدّولةُ الثّانيةُ الْمُنَقِّبَة، للأولى صَاحبةِ الأرض.

 

لا أعتقِد أنَّ ذلكَ هو الْمبدأُ في اختيارِ الله لمريم! فاللهُ بِإرادتِهِ أَفردَ مريم، واختارَها لهذا الدّور. ولم يُحابِيها لأجلِ زُرقةِ عَينَها أو جمالِ وَجْهِها، ولم يُميّزها أو يُعطيها حقوق حصريّة، لأجلِ منافع مشتركة أو اتّفاقياتٍ مُتَبادَلَة.

 

يُعلّق الأب المرحوم بيتر مدروس، على الاعتراضاتِ القائمة ضدّ هذه العقيدة، قائِلًا: ((إنَّ الخلاصَ يَتمُّ بِطَريقتين: الطّريقةُ الأولى بِالعِلاجِ بَعدَ الْمَرض، والطريقةُ الثّانيةُ والْمُثلَى هي بالوقايةِ مِن الْمَرض. فَنَستَنتِجُ أنَّ اللهَ خَلَّصَ سَيّدَتَنا مريمَ العذراء من الخطيئة، بِطَريقة مُسبَقة وقائيّة)). ثُمّ يُكمِلُ بمثالٍ من القدّيسةِ تريزيا الصغيرة التي كتبت، تقول: ((يُساعِدُ اللهُ النّاسَ عادةً في صعوباتهم. فَفي وسطِ الأشواكِ والحجارةِ الّتي في طريقهم، يَقومُ اللهُ بمساعدتهم. وإمّا بإزالةِ الأشواكِ والحجارةِ مُسبَقًا من طريقهم)).

 

فالله في حالةِ مريم أَزالَ كلَّ ما مِن شأنه أن يَنتقِصَ من طهارتِها أو يَنالَ من قُدْسَيّتها، منَ الّلحظةِ الأولى للحبلِ بها، وَحَتّى ساعةِ رُقادِها وانتقالِها المجيدِ إلى السّماء.

 

فَيَا سُلطانةَ الحبلِ بلا دنس صَلّي لأجلنا، وَنوّري عُقَولَ كلَّ من يُنكِرون عليكِ براءتَكِ وصفاءَك، ولو للحظةٍ واحدة.