موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

عودة الرائحة لكتب بغداد

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي :

 

تقولُ أسطورةٌ عربية موغلة في القدمِ إن طائر الفينيق، الذي يعمِّر لأكثر من 500 سنة، حين يوشك مقترباً من شفير موته؛ يجثمُ في عشه البارد، ويغرّد محترقاً؛ لتخرج من رماده الساخن يرقةٌ سرعان ما تتحوّل إلى طائر يشبههُ، يهبُّ بجناحين واسعين ممتشقاً زرقة السماء من جديد. وهكذا المدن العظيمة، إذ ربما تختنق أو تحترق، أو يطمرها ركام من فوقه ركام، إلا أنها تشبُّ نافضة رمادها محلقة زاهرة باهرة، وبغداد كذلك.

 

رقصت فرحاً على وقع خبر عودة الحياة بكامل أوانها وألقها وصخبها، إلى شارع المتنبي الشهير، المتفرع من شارع الرشيد التراثي، في عاصمة ضوعة العطر، وفتنة ألف ليلة وليلة، بعد ترميمات وتحسينات، جراء ما تعرض له من عدوان إرهابي غشوم، قبل سنوات من قهر وألم، وغياب أمن وأمان.

 

الخبر أعاد لي أياماً عشتها طالب علم هناك، قبل أزيد من ربع قرن. فهزني الحنينُ هزَّ الريح للقصب، وأخذني هائماً على وجدي، أطالع صوراً ما زالت ساخنة في روحي، وكأنها قطفت للتو من أعين الكاميرات. كأنني ذلك الولد الذي كان قلبه يتبركن في رؤوس أصابعه، متلمسا طريقه كعاشق عنيد. فيهزني الشوق إلى مدينة، وجدت قبل الملك حمورابي (القرن الثامن عشر قبل الميلاد)، وكانت تسمى بجدادا، ثم مرت فيها حضارات وثقافات، ليعيد بناءها أبو جعفر المنصور، قبل 1258 سنة، ولتكن مدينته المدوّرة، الزوراء، بغداد، حاضرة الدنيا، ومحج العلماء، ومهوى أفئدة الشعراء.

 

لشارع المتنبي شوارعُ واسعة من الذكريات في وجداني، إذ وقعت في غرامه من أول جولة فيه، رفقة أحد الزملاء صباح يوم جمعة تشرينية، فما زال عبق دجلتها يخالج قلبي. ذلك الفتى الذي كنته، المغرم بالكتب حدّ الجنون، بعد أن رأى ذلك الكم الكبير منها على ضفاف الأرصفة والأرفف، اعتقد أنه في جناح من أجنحة الجنة، وهو الذي طالما تخيّل أن الجنة ليست إلا مكتبة لا نهائية من شعر وقصص لا تخطر على قلب. بعد تلك الجولة صارت زيارة الشارع عادة تعتاده طيلة إقامة امتدت إلى أربع سنوات وأكثر.

 

كم جميل أن يعود شارعنا ليغرد في سماوات الثقافة والحياة، ويعود ملتقى للمبدعين والشعراء والكتاب والصحفيين والطلبة، فبغداد، ورغم النيران التي اجتاحتها لم تحترق تماما، ولم تخب همتها، أو يفتر نزقها، بل بقيت على قيد التغريد، يتوارثها فينيق عن فينيق.

 

أشعر أن الزوراء تتعافى، وستسترد روحها ناصعة الجمال، وأن نسغ الحياة سيدبُّ في أخضر عودها، وأن دجلة الخير يسترجع عذوبته وطيوره، وأن قصيدة عشق ستصدح صبح مساء: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.

 

(الدستور الأردنية)