موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٣ مايو / أيار ٢٠٢١

عناقيد الكرمة: الاستشهاد والشهادة

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

 

قال الرب يسوع:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان، فمن يثبت فيّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً" (يو5:15). والعنقود رمز العطاء والبذل والإخلاص، فالكرمة تتحمّل برد الشتاء وعواصفه من أجل عنقود مليء بخمر الحياة، وهذا ما جعل ربنا يسوع أن يشبّه حياته بالكرمة. إنه الكرمة الحقيقية التي تعطي الحياة للإنسان، أحبّنا حتى بذل الذات، ورسم لنا طريق الخلاص عبر سر الحب في الافخارستيا، وفي هذه الطريق تكون المسيرة. ولكي تكون المسيرة أصيلة يجب أن تكون ثابتة في المسيح، ولكي نحيا إيماننا في هذه الظروف القاسية يجب أن تكون حياتنا عناقيد أصحّاء في كرمة الرب. وها هي العناقيد على صفحات الزنبقة، فأرجوك أن تقرأها بكل تمعّن وإدراك، فالإيمان المسيحي رسالة وحياة، وثمار الحياة عناقيد كثيرة، عليك وعليّ أن نجمعها في سلّة واحدة.

 

نعم، الإستشهاد بطولة ولا أشجع، والشهداء في المسيحية يكمّلون ما نقص من آلام المسيح (كولوسي24:1)، وهذه حقيقة واضحة فهي الرباط الأكيد بين المسيح المعّلم والمسيحيين تلامذته في الأرض كلها، فقد كان تاريخ المسيحيين حافلاً بالبذل الكامل والعطاء السخي وفي ذلك مثال تقتدي به الأجيال المسيحية على مرّ العصور.

 

إن القرون الأولى الثلاثة للمسيحية حافلة بأسماء الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الإيمان ولا يمكن أن نعدّد أسماءهم، كما لا يمكن أن نروي قصص استشهادهم فهي مروّعة ومتشابهة، لأن للمسيحية مسيرة طويلة وشاقة ودروبها ضيقة وصعبة، والمسيح يُضطَهَد ويُصلَب كل يوم وعلى مثاله تواصل المسيحية مسيرتها بكل وداعة وسلام.

 

نعم، إن التاريخ أثبت أن هناك اضطهادات قاسية الوطأة ألمّت بالمسيحيين فلو أردنا تعدادها لفاقت العشرة والعشرين، فقد تربّع الإضطهاد على العرش مرحلة طويلة من الزمن إمتدت ثلاثة قرون تقريباً تخلّلتها راحة تنسجم مع أخلاق الإمبراطور الحاكم ومزاجه، ولكن الإضطهاد عمل على انتشار المسيحية إلى أقاصي الأرض عوض أن يحبسها في حدود، فسر إنتشارها يكمن في قوة الروح الذي يحيا في قلوب المؤمنين ومدى فعالية محبة الله في الإنسان المؤمن.

 

إن سر ذلك الإستشهاد هو كلمة المسيح إذ قال "ستكونون لي شهوداً"، فالشهادة ليست فقط بالكلام بل ببذل الدم من أجل الحياة، وبذل الدم يعني المثل الأكيد والشهادة الساطعة التي وقف أمامها الجلادون والحكام مندهشين متحيرين لهذه البطولة. فالشهادة مدرسة فيها تنمو شجرة الإيمان وتكبر، وقد كانت بحاجة إلى شهود جريئين لإعلان الحقيقة كما كانت بحاجة إلى أبطال يذودون عنها بالإستشهاد في سبيل إيمانهم لتبّين للجميع أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.

 

واليوم تنادي الكنيسة -عبر الألف الثالث الذي عبرناه- وعبر ازمنة الوباء التي نحن فيها، أن نكون شهوداً وشهداء، شهوداً لإعلان إنجيل الخلاص على أسماع أبناء المعمورة، وشهداء لعطاء الحياة عبر سفك الدماء، كي تكون بدورها بذاراً للحياة (ترتليانوس) وفيها تكمل صورة المسيح المصلوب فيكون الشهيد شريكاً في الفداء.

 

أمنيتي،أن أرى أبناء البشرى السارة يحملون شعلة الإيمان في قلوبهم وليس عبر شفاههم، وأن أرى إنتماءهم إلى المسيح الرب إنتماءً أكيداً قائماً على أسس الوعي والحب والإيمان ولا شيئاً آخر. فاليوم كأنني أرى أن الصورة اختلفت تماماً، فربما المسيحي يرى في بلده بلد الإضطهاد لما يرى من منغصات واجتهادات تفرَض عليه من قِبَل أفراد أو جماعات أو عبر قوانين إن كانت ظاهرة أم خفية، ويرى أيضاً أن اهتمام رجال المعابد في الدفاع عن حقوقه لا تصل إلى حد القبول والإحتمال، كما يرى أن مستقبل عيشه أصبح لقمة ملوثة فيترك كل شيء ويذهب ليفتش عن أرض تحميه حتى لو كان ذلك عبر البحار والمحيطات.

 

وترتليانوس يقول بهذا المعنى "إذا فاض نهر التيبر، قالوا إن المسيحيين هم السبب. وإذا النيل لم يفض بطينه على وادي النيل، نسبوا ذلك إلى المسيحيين. وإذا أغلقت السماء ولم تنزل الأمطار وإذا تزلزلت الأرض وإذا حدثت مجاعة أو حرب أو أوبئة، ترتفع أصوات تصرخ وتنادي: المسيحيون هم السبب فليذهبوا إلى السجون ولتأكلهم الوحوش ليموتوا... أليسوا علّة كل الكوارث في العالم؟".

 

يا عزيزي ويا أخي في الإيمان، إنني أرى اليوم أم غداً -إذا ما استمر الهروب من هذا البلد- والخوف من الوباء، أن البلد سيفرغ من المسيحية كما هو حال البلدان الأخرى وبالخصوص بلدان شمال أفريقيا وبلدان الجيرة، وإذا ما فرغ فأين ستكمن الشهادة؟، وما قيمة الصليب إذا أعطيناه لسمعان قيرواني آخر ليحملَه؟.