موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

شهادة التلاميذ الاوَّلين بعضهم الى بعض

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
شهادة التلاميذ الاوَّلين بعضهم الى بعض

شهادة التلاميذ الاوَّلين بعضهم الى بعض

 

الاحد الثاني للسنة: (يوحنا 1: 35-42)

 

يقدِّم نص انجيل يوحنا (يوحنا 1: 35-42) شهادة يوحنا المعمدان بانَّ يسوع هو "حمل الله" مما شجّع تلاميذه ان يتبعوا يسوع ويصبحوا تلاميذ ه الاولين (يوحنا 1: 35-42)؛ وكلما عرفنا المسيح أكثر كلما جذبنا الآخرين له. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 1: 35-42)

 

35 وكانَ يوحَنَّا في الغَدِ أَيضاً قائِماً هُناكَ، ومَعَه اثْنانِ مِن تَلاميذِه.

 

تشير عبارة "يوحنا" (اسم عبري יוֹחָנָן معناه الله حنون) الى يوحنا المعمدان وهو ابن زكريا الكاهن وزوجته اليصابات (لوقا 1: 5-25)، وهو مُهيِّئ طريق يسوع المسيح (متى 11: 14) وشاهد له (يوحنا 1: 7). أمَّا عبارة "في الغَدِ" فتشير الى اليوم الثالث من الأسبوع الأول في عيد الفصح الأول، وهو غد اليوم الذي فيه أدَّى شهادته للجمع، وهو اليوم الثالث من تأدية شهادته للجنة الفريسيين. أمَّا عبارة "قائِماً هُناكَ" فتشير بالأرجح الى وقوف يوحنا المعمدان على ضفاف نهر الأردن، حيث يستمر يوحنّا في التعميد او في ساحة بيت عبرة حيث اعتاد ان يقف ويبشِّر. ويعلق الراهب البِندِكتي روبير دوتز "كان يوحنا يتوق إلى رؤية يسوع مرّة أخرى لأنّ رؤية الرّب يسوع كانت الخلاص لمَن يعترف به، والمجد لمَن يُعلنه، والفرح لمَن يشير إليه. لذا، كان يوحنا قائمًا هناك، واقفًا ومنتصبًا بكلّ حماسة قلبه؛ كان يقف مستقيمًا؛ كان ينتظر المسيح الذي كان ما يزال مَخفيًّا في ظلّ تواضعه" (عظة عن إنجيل القدّيس يوحنّا). أمَّا عبارة "اثْنانِ" فتشير الى اندراوس والآخر هو يوحنا ابن زبدى، كاتب الإنجيل الذي يروى القصة بدقة شديدة حتى أنه يذكر الساعة (يوحنا 1: 39). وكعادته فهو لا يذكر اسمه جَريا على عادته، ولم يفعل ذلك الاَّ تواضعا (يوحنا 13: 33؛ 18: 15؛ 19: 26؛ 20: 3؛ 21: 20).  والشهادة في الشريعة تقوم على اثنين “شَهادَةُ شاهِديْنِ تَصِحّ" (يوحنا 8: 17)؛ أمَّا عبارة " مِن تَلاميذِه " فتشير الى تلاميذ يوحنا المعمدان.

 

 36فحَدَّقَ إِلى يَسوعَ وهو سائرٌ وقال: هُوَذا حَمَلُ الله!

 

تشير عبارة "حَدَّقَ" في الأصل اليوناني ἐμβλέψας (معناها نظر اليه وأمعن الفكر فيما وقع عليه بصره) الى يوحنا المعمدان الذي تفرَّس في يسوع قاصد الايماء إليه وموجّها نظر التلميذين إليه، ومتنبأً بأنّه الحمل الفصحى حيث انه من خلال يسوع يُمكننا العبور من حالة إلى أخرى، من العبودية إلى الحرية. لكن هذا العبور لم يأت أبداً بسهولة! العبور يتطلب ضحية أي إراقة دم الحمل.  وهذه النظرة تشبه نظرة يسوع الى بطرس "فحَدَّقَ إِلَيه يسوعُ " (لوحنا 1: 42). ما أحوجنا إلى التطلع نحو السيد المسيح لننظره. نتطلع إليه فنراه يتطلع إلينا، مهتمًا بخلاصنا. فهل ننظر دوما الى يسوع، اسوة بيوحنا المعمدان كي يدلنا على الطريق السوي الذي يجب ان نسلكه في حياتنا. امَّا عبارة "يَسوعَ" في الأصل اليوناني Ἰησοῦ (مشتقة من العبرية יֵשׁוּעַ معناه "الربّ يخلّص") فتشير إلى المسيح.  أمَّا عبارة "وهو سائرٌ" فتشير الى يسوع وهو مار بين بقية الناس غير معروف. ويعلق الراهب الِبندِكتي روبير من دوتز " ما المعنى لتلك العبارة "يسوع سائر" سوى أنّ ابن الله جاء ليشاركنا طبيعتنا البشريّة التي تعبر والتي تتغيّر. هو مَن كان يجهله البشر، أظَهر نفسه وبات محبوبًا من خلال عبوره بيننا. لقد تجسّد من خلال حشا العذراء، وانتقل من رحم والدته إلى المزود ومن المزود إلى الصليب، ومن الصليب إلى القبر ثمّ القيامة، ومن القيامة عاد وارتفع إلى السماء" (عظة عن إنجيل القدّيس يوحنّا). هل أضع نفسي في المكان أطلب نعمة التعرّف إلى علامات مرور الربّ في حياتي؟  امَّا عبارة "قال" فتشير الى الشهادة الثالثة التي أدّها يوحنا المعمدان الى يسوع، الأولى للجنة الفريسيين والثانية للجمع الذي حضر وعظته والثالثة هي لبعض تلاميذه. امَّا عبارة "حَمَلُ" في الأصل اليوناني ἀμνὸς (المشتقة من الآرامية טליא ومعناها صَغِير أَوْلاَدِ الضَّأْنِ) فتشير الى دعوة التلميذين الى اتباعه. والحمل هو يسوع بحسب شهادة يوحنا المعمدان التي تكرَّرت مرتين (يوحنا 1 :29، 36). وهو يرمز الى البراءة والبِرّ من ناحية، والى حَمَل الذبيحة الذي يقدَّم مرتين كل يوم في الهيكل (خروج 29 :38) من ناحية أخرى. كما يلمِّح إلى الحَمَل الفصحى (خروج 12: 1-28) الذي يرمز الى فداء إسرائيل، والى عبد الله المتألم (أشعيا 52: 13-53). فقد اعتادت البشرية أن تقدم الذبائح لله لمرضاته. أمَّا هنا فالذي يُعِدُّ الذبيحة هو الله الآب نفسه الذي يقدّم ابنه الوحيد ذبيحةً. أنه ذبيحة كفارة أو ذبيحة إثم، قادرة أن ترفع الخطايا حقا، وليست ظلًا أو رمزًا كالذبائح الحيوانية. ومن هذا المنطلق يتذكّر بطرس تحرير المسيحيين بدم المسيح الثمين "بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح" (1بطرس 1 :19). وهكذا يدل يوحنا الإنجيلي بهذه العبارة على موت يسوع التكفيري حيث يرفع خطيئة العالم أي يُزيلها كما شهد يوحنا المعمدان "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29)، بحيث وردت خطيئة العالم بصيغة الفرد وهي تعني في الواقع الجمع، فتدل على كل خطايا العالم التي امتدت في الزمان والمكان. ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس "إذا كان الربّ هو مَن يغفر الخطايا، فلم لا نقبّل إذًا ألوهيّة المسيح؟ كونه استطاع محى خطايا العالم أجمع "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (العظة 50).

 

 37فسَمِعَ التِّلْميذانِ كَلامَه فتَبِعا يسوع

 

تشير عبارة "سَمِعَ" في الأصل اليوناني ἤκουσαν (في اللغة العبرية שמע) الى سماع كلمة الله وقبولها. وهذا لا يعني الاستماع إليها بأذن صاغية فحسب، بل يتضمن ايضا فتح القلب لها (أعمال 16: 14) والعمل بها (متى 7: 24-26)، والطاعة لها. تلك هي طاعة الإيمان التي يطلبها سماع البشارة (رومة 1: 5). إنّ التلميذ هو الشخص الّذي يضع نفسه في موقف إصغاء، ويُرحّب بما يسمعه ويقبله بقلبٍ رحب. وشهادة يوحنا المعمدان عن يسوع صحيحة، لأنه رأى وسمع. لم يسمع فحسب ولم يفكّر ويتصوّر بل رأى، ويُكرِّر هذا الفعل مرتين: "رأيتُ" (يوحنا 1: 32، 34). فهو شاهد موثوقاً به. فيوجّه يوحنا تلميذيْه إلى يسوع، يدعوهما المسيح إلى فعل هذا: "تَعالا وانظرا" (يوحنا ١: ٣٩). وبقيامهما بذلك يصبحا شاهدين بدورهما. اما عبارة "كَلامَه" فتشير الى كلام من يوحنا المعمدان، مُبشِّرٍ عارفٍ ومقتنعٍ بما يقول "ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة نُبَشِّرُكم بِه" (1 يوحنا 1:1). لذلك لَمْ يتوانَ السامعون من التّصديق والالتحاق بيسوع.  امَّا عبارة "تَبِعا" فتشير الى السير وراء يسوع، لان الاستماع وحده لا يكفي، نحن نصبح تلاميذ عندما يؤدّي استماعنا تجاه من يتحدث إلينا، فنذهب تجاهه، ونقيم علاقة معه كما جاء واضحا في تعليم يسوع "إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني" (يوحنّا 10: 27). كان فعل "تبع" في الدين اليهودي في القرن الأول، يتضمن عادة التوقير والطاعة ومختلف الخدمات المترتّبة على تلاميذ الرابيين نحو معلميهم. ومن هذا المنطلق، إتباع تلميذي يوحنا المعمدان ليسوع دلالة على انهما صارا تلميذين من تلاميذه. تبع التلميذان يسوع، لا كسامعيَن فقط، بل كمعاونَين وشاهدَين لملكوت الله وعامِلين في حصاده (متى 10: 1-27)، يلازمان شخصه؛ ويقتضي إتِّباع يسوع أيضا حمل الصليب كما صرّح يسوع "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24).  إنّنا نجهلُ إلى أين يريد أن يقودنا يسوع على هذه الأرض، وليس علينا أن نسأله قبلَ الأوان. يكفينا أن "نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله" (رومة 8: 28)، وبأنّ الدروبَ التي يخطّها الربّ تسيرُ بنا إلى الحياة الأبديّة. أمَّا عبارة "التِّلْميذانِ" فتشير الى اندراوس (يوحنا 1: 40) وأمَّا التلميذ الآخر فهو يوحنا كاتب هذا الانجيل، وقد سمع التلميذان صوت يسوع فتبعاه "إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني" (يوحنا 10: 27). وكان هذان التلميذان من أوائل تلاميذ يسوع، مع بطرس (يوحنا 1: 42) وفيلبُّس (يوحنا 1: 34) ونَتَنائيل (يوحنا 1: 45). هؤلاء التلاميذ هم باكورة تلاميذ السيد المسيح. وهكذا بدأت الكنيسة صغيرة جدًا تضم خمسة اشخاص يتمتعون بالنظر إلى يسوع والملكوت معه. فالشهادة للمسيح تأتي من السماع الى كلمته وأتباعه كما فعل هذان التلميذان اندراوس ويوحنا الرسول حيث أصبحا شاهدين يجذبا اخوتهم للمسيح.

 

 38فَالتَفَتَ يسوعُ فرآهُما يَتبَعانِه فقالَ لَهما: ((ماذا تُريدان ؟)) قالا له: ((راِّبي (أَي يا مُعلِّم) أَينَ تُقيم ؟

 

تشير عبارة "ماذا تُريدان؟" في الأصل اليوناني" Τί ζητεῖτε(معناها ماذا تطلبان)  الى اول كلمات يسوع في انجيل القديس يوحنا حيث يخاطب كمعلم التلميذين ويسألهما  سؤالاً أساسيّاً : ماذا تطلبان؟ ماذا تبحثان؟ أنها نقطة الانطلاق والدافع الرئيسي لاتباع يسوع المسيح. سألهما يسوع هذا السؤال تشجيعا وتمهيدا لهما طريق المعرفة والمحادثة؛ ويسوع لا يطلب من خلال سؤاله سوى وجود الرغبة الداخليّة في اتباعه. إنه يحترم حرّيتهما في الاختيار ليتخذا القرار في اتباعه بنفسهما. والتلميذان يعبّران عن طبيعة هذه الرغبة العميقة، من خلال سؤالهما" أَينَ تُقيم " (يوحنّا 1: 38). ويُعلق القدّيس أوغسطينوس: "ما كان مقدّراً لنا أن نبدأ البحث عن الربّ ما لم يبدأ هو من جانبه ويكتشفنا". والآن السيد الرب طلب منهما أن يُحدِّدا موقفهما. إن إتباع يسوع ليس كافياً، إذ يجب ان نُحدِّد هدف اتباعنا لمجده لا لمجدنا.  إنّنا حين نتّجه إلى الربّ، لا نتّجه إلى إله يبتعد عنّا، ويتركنا في مجاهل الحيرة. إنّنا نتّجه إلى إلهٍ يفتح ذراعيّ المحبّة لاستقبالنا. ويُمهّد الطريق أمامنا، بل يُسرع ليلتقي بنا.  وهذا هو سؤال السيد المسيح المستمر لكل إنسان: ماذا تطلب؟ ماذا تبحث؟ هل أسمع الربّ يسألني: "ماذا تريد؟". هذا السؤال يوجّهه يسوع إلى كلِّ واحد منا، ليتّخذ هدفا لحياته. أمَّا عبارة "راِّبي" في الأصل اليوناني Ῥαββί (مشتقة من العبرية רַבִּי) فتشير الى معلّم، وهو لقب يُعطى لمعلّم كبير يُركن إليه في المجال الدينيّ. كان في الاصل عبارة احترام. وفي القرن الأول المسيحي صارت اللفظة لقبًا رسميًا يطلق على أعظم علماء اليهود ومعلميهم الذين اعتُبروا خبراء في مجال الشريعة اليهوديّة. امَّا عبارة "أَي يا مُعلِّم" فتشير الى تفسير يوحنا الإنجيلي لهذه الكلمة مما يدل على انه لم يكتب بشارته في اليهودية او للعبرانيين فقط؛ ونداء التلميذين " يا معلم" دليل على إراداتهما ان يُعلمَهما.  أمَّا عبارة "أَينَ تُقيم؟" فتشير الى رغبة التلميذين ان يصرفا اليوم معه فيتبعانه ويمكثان معه.  ويواجهان يسوع على انفراد لأجل المحادثة. كان تلاميذ الرابي في ذلك الوقت يذهبون في كثير من الأحيان إلى بيت معلميهم، للتعلم من خلال العيش وتقاسم الحياة وحكمة وخبرة معلميهم. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "لمْ يقولا علمنا تعليمًا في الآراء والمعتقدات أو غير ذلك من الأمور الضرورية، لكنهما قالا: "أَينَ تُقيم". لم تكن حركتهما في الاتجاه نحو يسوع عفوية، انهما جُذبا نحوه لشخصيته المعجزة. أين تعلم؟ اين تجتمع بالتلاميذ؟". يتوجب علينا ان نبحث عن يسوع ثم نتبعه ونقيم معه. إنها مواقف أساسية. إذ طلبا الإقامة معه جاءت الإجابة سريعة أن يأتيا وينظرا في الحال ليقيما معه دون تأجيل. الوقت الآن مقبول (2 قورنتس 6: 2).

 

39 فقالَ لَهما: ((هَلُمَّا فَانظُرا!)) فَذَهَبا ونظَرا أَينَ يُقيم، فأَقاما عِندَه ذلك اليَوم، وكانَتِ السَّاعَةُ نَحوَ الرَّابِعَةِ بَعدَ الظُّهْر.

 

تشير عبارة "هَلُمَّا فَانظُرا! "الى دعوة للخبرة الشخصية مع الربّ يسوع، واتباعه في الحال والسير وراءه والبقاء معه، وهذه دعوة الروح القدس والكنيسة لكل واحد "تعال" (رؤيا 17:22). فمن يريد أن يعرف السيّد المسيح يأتي لينظر، ويتذوق فيفرح، ويقرِّر الالتصاق به "لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن" (يوحنا 3: 15). ويُعلق العلامة أوريجانوس" أن السيد المسيح دعا التلميذين للتمتع به ويسكنا معه خلال حياة العمل مع التأمل. فبقوله لهما "هَلُمَّا" دعاهما للحياة العاملة، وبقوله لهما انظرا" دعاهما لربط العمل بالتأمل فيه". إنّ من يسمع ويتبع يُصبح بدوره شاهداً للآخرين. أمَّا عبارة "أَينَ يُقيم" فتشير مبدئيا الى منزل يسوع الوقتي في بيت عبرة.  ولكن في الواقع هو ليس مجرد سؤال عن عنوان منزل يسوع، بل هو سؤال عن الإقامة الوجودية. وكأني بهما يسألان: "يا رب، أين محور حياتك؟ كيف تعيش؟ امَّا عبارة "فأَقاما عِندَه ذلك اليَوم" فتشير الى اللقاء الشخصي بيسوع. فقد وجدا في ذلك المكان ما كانت تصبو إليه نفسهما من السكينة والتعبّد والتوبة. وهكذا حلّا عليه ضيوفا، كي يخرجا آخر النهار، بغير ما كانا قبلا، أي قد اكتشفا من هو يسوع: هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). من يسمع صوت المسيح يطمح إلى الإقامة معه. لذلك لا يكفي أن يسمع صاحب الدعوة صوت الله، بل عليه أن يكون حرّاً في اتباعه ويثبت معه. ويعلق القديس كليمنس الإسكندري "عندما سُؤِل ماذا تعمل لتجعل وثنيّاً مسيحيّاً، فأجاب: سأدعوه ليسكن معي في بيتي سنة كاملة. مَن مِنا يريد أن يعزمَ غريباً ليسكن معه سنة كاملة؟" في هذا اللقاء يتجذّر جوهر الدعوة المسيحية التي تقوم أولاً على التقاء يسوع واتباعه والإقامة معه حتى النهاية. دعنا نؤمن ونثق بأننا معك يا رب، نستطيع أن نكون تلاميذك. هل نتصوّر كيف نمضي النهار مع الربّ كي نكشف دعوتنا؟ امَّا عبارة "السَّاعَةُ نَحوَ الرَّابِعَةِ بَعدَ الظُّهْر" في الاصل باليوناني ὥρα ἦν ὡς δεκάτη (معناها الساعة العاشرة بالتوقيت اليهودي) فتشير الى الساعة الرابعة في توقيتنا المعاصر. وهنا يُحدِّد يوحنا الإنجيلي الساعة، الساعة التي أدرك فيها أنه يحب السيّد المسيح لأنّ السيّد المسيح أحبه أولًا؛ إذ كان اول حديث مع يسوع، أنه دقيق في تعابيره وذكرياته. ويوحنا الإنجيلي بعد 60 سنة ما زال يذكر الساعة التي اقام فيها في بيت يسوع والتي قرَّر فيها ألاَّ يتركه العمر كله، لأنه وجد فيه الحياة كما صرّح "فيهِ كانَتِ الحَياة" (يوحنا 1: 4). لقد قرّرت تلك الساعة حياته ولم ينسها أبدًا. ويعُلق القديس أوغسطينوس "أن رقم 10 يشير إلى الناموس حيث الوصايا العشرة. فقد ذهبا إلى السيد المسيح بكونه واهب الناموس ومكمِّله (متى 5: 17)، لكي يتعلما الناموس من واهب الناموس نفسه لأن الرحمة على لسانه " تَفتَحُ فَمَها بِالحِكمة وعلى لِسانِها تَعْليمُ الرَّحمَة"(أمثال 31: 25).

 

 40وكانَ أَندرَاوُس أَخو سِمْعانَ بُطُرس أَحَدَ اللَّذَينِ. سَمِعا كَلامَ يوحَنَّا فَتبِعا يسوع.

 

تشير عبارة "أَندرَاوُس" في الأصل باليوناني Ἀνδρέας (معناه رجل) الى شقيق القديس بطرس، وهو جليليّ وُلد في بيت صيدا قرب بحيرة طبرية (يوحنا 1: 44)، وكان  يعمل مع أخيه في صيد الأسماك (مرقس 1: 16-18)، وكان له بيت مع بطرس في كفرناحوم (مرقس 1: 29) وكان من تلاميذ يوحنا المعمدان الذي ارشده الى يسوع، حمل الله، ويعتبر هو صاحب أول دعوة كما يطلق عليه اليونانيين (Πρωτόκλητος)، الدعوة الأولى التي يختصّ بها أندراوس، هي انطلاقه خلف الرب يسوع وعودته لأخيه لإخباره كأول بشارة باسم المسيح (يوحنا 1: 35-42)، ويعلق باسيليوس السلوقيّ الاسقف "إن أندراوس هو النّبتة الأولى في بستان الرّسل، وهو من فتح الباب أمام تعليم الرّب يسوع المسيح وكان الأوّل الّذي يُقطَف من الحقل الّذي زرعه الأنبياء. لقد كان أوّل من تعرّف إلى النبيّ الذي قالَ عنه موسى: "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون" (تثنية اشتراع 18: 15). ودعا يسوع اندراوس ليتبعه (مرقس 1: 16)، واندراوس هو الذي أخبر يسوع عن الصبي الذي كان معه خمسة ارغفة وسمكتان عند اطعام الخمسة الآلاف (يوحنا 6: 8)، وقد سأل هو وبطرس ويعقوب ويوحنا عن خراب اورشليم ومجيء المسيح الثاني (مرقس 13: 3-4) وأخبر هو وفيليبس يسوع برغبة بعض اليونانيين في رؤيته (يوحنا 12: 22). ويُقال إنه كرز بالمسيح في بلاد آسية الصغرى ونواحي البحر الأسود وصولا النهر فولغا. لهذا يُكرِّمه مسيحيُّو رومانيا وأوكرانيا وروسيا، شفيعا لهم. كما يُعتبر أول وأهم شفيع لكنيسة القسطنطينية. أستُشهد، بحسب التقليد، مصلوبا في مدينة باتراس في اليونان، ويُقال إنه طلب أن يكون صليبه معكوسا بشكل حرف X، وهو اول حروف كلمة المسيح: Χριστός في اليونانية.  وفي عام 1462، وضع البابا بيوس الثاني هامته الكريمة قُرب ضريح أخيه بطرس في الفاتيكان. ثم قام البابا بولس السادس بإعادتها الى بلاد اليونان علامة للوحدة والاخوة بين الكنيستين الكاثوليكية والارثوذكسية الشقيقتين.

 

 41ولَقِيَ أَوَّلاً أَخاهُ سِمْعان فقالَ له: ((وَجَدْنا المَشيح)) ومَعناهُ المسيح

 

تشير عبارة "أَوَّلاً" الى أندراوس الذي وجد اخاه سمعان بطرس أولا، فاهتم بأخيه وبحث عن المسيح ليشارك خبرته الجديدة التي تمتَّع بها بلقائه مع يسوع المسيح. وهكذا أصبح هو شاهداً إذ شارك أخيه الاكتشاف الذي توصّل إليه. هل نحن نقتدي باندراوس ونجتهد في إرشاد غيرنا الى المسيح لخلاص نفوسهم؟ اما عبارة "سِمْعان" في الأصل اليوناني Σίμων (مشتق من الاسم العبري שִׁמְעוֹן ومعناه مستمع أو "مطيع، حيث أنَّه التقى بروح الطاعة بالمسيح) فتشير الى بطرس (اسم يوناني Πέτρος معناه صخرة)، وكان هذا الرسول يسمَّى أولا سمعان واسم ابيه يونا (متى 16: 17) واسم اخيه اندراوس، واسم مدينته بيت صيدا. فلما تبع يسوع غيَّر اسمه الى "كيفا" وهي كلمة آرامية כֵיפָא ومعناها صخرة (يوحنا 1: 42) وقلده سلطانا ودورا هاما، وعلى هذه الصخر سيَبني المسيح كنيسته". وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت" (مرقس 1: 29). وكانت مهنة بطرس صيد السمك وكان مقيم في كفرناحوم، وكان بطرس من تلاميذ يوحنا المعمدان قبل إتباعه المسيح، وقد جاء به الى يسوع اخوه اندراوس. وقد دعا يسوع بطرس ثلاث مرات: فأولا دعاه ليكون تلميذا، ثم دعاه؛ ثانيا ليكون رفيقا له ملازماً إياه باستمرار (متى 4: 19)؛ ثم دعاه ثالثاً وأخيرا لكي يكون رسولا له (متى 4:10: 2). واولاه الرب منزلة خاصة بين الرسل وفي الكنيسة (يوحنا 21: 15-24)، وكان صاحب نشاط وغيرة، ويذكر اسمه دائما أولا عند ذكر أسماء الرسل (متى 10: 2) وكذلك عند ذكر أسماء التلاميذ الثلاثة المقرَّبين الى يسوع. وهو اول من أدرك شخصية يسوع فأقرَّ أنَّه المسيح ابن الله (متى 16: 16). وبعد قيامة الرب اخذ زمام قيادة الكنيسة فقام بانتخاب رسولا بدلا من يهودا (اعمال الرسل 1: 15)، وأعلن فتح باب الخلاص لليهود (اعمال الرسل 2: 10) وللأمم (اعمال الرسل 10)، وواصل تبشيره حيث يوجد اليهود، تاركا اورشليم ليعقوب والأمم للرسول بولس الرسول.  وقد واصل بطرس رحلاته التبشيرية وزوجته معه من مكان لآخر (1 قورنتس 9: 8) وأخيرا استشهد كما سبق الرب وأخبره (يوحنا 1: 19) عام 67 م ودُفن في تل الفاتيكان، حيث اقام الإمبراطور قسطنطين كنيسة عظيمة إكراما لاسمه. ويُعتبر أساقفة روما خلفاءً له وخدَّاما لوحدة الكنيسة الجامعة؛ وفي هذا الصدد يقول القديس أمبروسيوس: "حيث بطرس فهناك الكنيسة". أمَّا عبارة "وَجَدْنا" فتشير إلى هتاف الفرح، وهو كهتاف من وجد كنزا ثمينا (متى 13: 44).  ولا يستطيع أحد ان يقول " وجدتُ، ما لم يكن المسيح نفسه قد وجده قبلا بروحه (متى 18: 11-12). أمَّا عبارة "المَشيح" باليونانية Μεσσίας (المسيا المترجمة من اللفظ العبري او الآرامي הַמָּשִׁיחַ) فتشير الى المسيح؛ الذي تدل على الذي نال المِسحَة.  وهي صرخة اندراوس عندما احضر أخاه سمعان ليدلَّه على يسوع المسيح. والمسيح في نظر اليهود، هو داود الجديد الذي ينتظرونه في آخر الأزمنة. ويعلق باسيليوس السلوقيّ الأسقف: "بهذه الكلمات "وَجَدْنا المَشيح" أكّد الآب السماوي على ذلك عندما أوحى بها بنفسه إلى بطرس كما جاء في إنجيل متى: "فأَجابَه يسوع: طوبى لَكَ يا سِمعانَ بنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الذي في السَّمَوات" (متى 16: 17).  لماذا نحن عندما نجد هدفنا حياتنا يسوع السميح لا نُشير إليه بإصبعِنا، ونريه للنّاس: تعالوا وانظروا، كيف يعيش يسوع معنا ولنا وبيننا! أمَّا عبارة " مَعناهُ المسيح " فتشير الى المسيح Χριστός في الصيغة اليونانية للكلمة الآرامية הַמָּשִׁיחַ والعبرية مشيح والعربية مسيح، ولأن يوحنا كان يكتب للأمم، لقرائه اليونان فسَّر كلمة الآرامية المَشيح أي الممسوح بالروح القدس ليكون نبياً وكاهناً وملكاً (اعمال الرسل 10: 38) للقيام بعمل الفداء والخلاص. شهد يوحنا المعمدان بان يسوع هو" حمل الله " وبانه "ابن الله". اما اندراوس فعرف ان يسوع هو المسيح.   

 

 42وجاءَ بِه إِلى يَسوعَ فحَدَّقَ إِلَيه يسوعُ وقال: ((أَنتَ سِمْعانُ بنُ يونا، وسَتُدعَى كِيفا)) ، أَي صَخراً

 

تشير عبارة "وجاءَ بِه" الى العمل الرئيسي للمسيحي في العالم هو ان يربح آخرين للمسيح؛ أمَّا عبارة "فحَدَّقَ إِلَيه" في الأصل اليوناني ἐμβλέψας فتشير الى تفحص يسوع الى سمعان، وحبِّه، واختياره، فاعدَّ له اسما جديدا وبالتالي دعوة جديدة: لن يعود صياد سمك، بل صيّاد بشر كما قال يسوع له وإلى أخيه أندراوس "اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر" (متى 4: 19). أمَّا عبارة "أَنتَ سِمْعانُ" فتشير الى إعلان يسوع أنّه يعرف اسم بطرس؛ امَّا عبارة "يونا" في الأصل اليونانيἸωάννου  (مشتق من العبري יוֹנָה معناه حمامة) فتشير الى ابو سمعان بطرس (متى 16: 17)؛ اما عبارة "سَتُدعَى كِيفا" فتشير الى تغيير يسوع اسم  بطرس. وهذا التغيير إشارة إلى رسالة جديدة يعهد بها الرب إليه. ولكنّها رمز أيضاً لذاك التغيير الجذري في الحياة لكل تلميذ يَقبَل أن يترك كل شيء ويتبع يسوع ويرغب في أن يبقى معه. أمَّا عبارة "كِيفا" في الأصل اليوناني Κηφᾶς مشتق من الآرامية כֵיפָא والسريانية " صفا" معناها "صَخر ") فتشير الى سمعان ولقبه Πέτρος أي بطرس (مرقس 3: 16)، دلالة على شجاعته وثباته، فهو إنباء المسيح بصفات بطرس في المستقبل. وتغيير الاسم في الكتاب المقدس دليل على منح مواهب او مواعيد جديدة كتبديل ساراي بسارة، وأبرام بإبراهيم (تكوين 17: 5) ويعقوب بإسرائيل (تكوين 32: 28). واسم بطرس يدل على اعلان اسم جديد، وهو رمز للدخول في علاقة جديدة مع الله، وتغيير جديد على شخصيته والرسالة التي يلتزم بها كشاهدٍ للإيمان بالمسيح والدلالة على دعوة خاصة، وتقوم هذه الدعوة برئاسة الكنيسة (متى 16: 18).  فصار بطرس عموداً في الكنيسة الأولى بنعمة الله، لا بصفاته البشرية لأنه يتمتع بصخرة الإيمان (1 قورنتس 1: 12).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 1: 35-42)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 1: 35-42)، نستنتج انه يتمحور حول شهادة يوحنا المعمدان ليسوع، حمل الله، وشهادة التلاميذ الاولين ليسوع انه المسيح

 

1) شهادة يوحنا المعمدان ليسوع: حمل الله.

 

"حَدَّقَ يوحنا المعمدان إِلى يَسوعَ وهو سائرٌ وقال: ((هُوَذا حَمَلُ الله!)) (يوحنا 1: 36)، وقد شهد يوحنا المعمدان امام تلاميذه ان يسوع هو "حمل الله". ومن المحتمل ان يوحنا ينوّه بذلك ان المسيح يُمثل حمل الله في ثلاثة معاني وردت في الكتاب المقدس، وهي عبد الله المتألم، وحمل الفصح، وحمل السماوي المنتصر:

 

ا) حمل الله: عبد الله المتألم (أشعيا 53: 7)

 

يرمز حمل الله اولاً الى عبد الله المتألم. عندما كان إرميا النبي يعاني اضطهاد أعدائه، أخذ يشبه نفسه "كنتُ أَنا كَحَمَلٍ أَليفٍ يُساقُ إِلى الذَّبْح" (إرميا 11: 19). وطبَّق أشعيا النبي هذه الصورة فيما بعد على عبد الرب الذي، إذ كان مزمعاً أن يموت ليكفِّر عن خطايا شعبه، بقوله "كحَمَلٍ سيقَ إِلى الذَّبْحِ كنَعجَةٍ صامِتَةٍ أَمامَ الَّذينَ يَجُزُّونَها ولم يَفتَحْ فاهُ " (أشعيا 53: 7). ويعلق جاك بوسويه، أسقف مو "انظروا إليه، ها هو حمل الله الذي رآه أشعيا في الروح عندما قال إنّه "كحَمَلٍ سيقَ إِلى الذَّبْحِ كنَعجَةٍ صامِتَةٍ أَمامَ الَّذينَ يَجُزُّونَها ولم يَفتَحْ فاهُ" والذي رآه إرميا ومثّله بشخصه حين قال: "كنتُ أَنا كَحَمَلٍ أَليفٍ يُساقُ إِلى الذَّبْح، ها هو الحمل الوديع، والمتواضع، والصبور، بدون حيلة، بدون غشّ، الذي سيُذبح من أجل كلّ الخطأة. سبق له أن ذُبح بصورة مجازيّة، ونستطيع أن نقول في الحقيقة "أنّه قُتل منذ إنشاء العالم".

 

وينبئ نص أشعيا (53: 7) على أحسن وجه عن مصير المسيح، على نحو ما قام فيلبّس بتفسيره إلى خصي ملكة الحبش وكانَتِ الفِقرَةُ الَّتي يَقرَأُها مِنَ الكِتابِ هي هذه: ((كخَروفٍ سِيقَ إِلى الذَّبح وكحَمَلٍ صامِتٍ بَينَ يَدَي مَن يَجُزُّه هكذا لا يَفتَحُ فاه.  في ذُلِّه أُلغِيَ الحُكمُ عَليه. ترى مَن يَصِفُ ذُرِّيَّته؟ لأَنَّ حَياتَه أُزيلَت عنِ الأَرض. فقالَ الخَصِيُّ لِفيلِيبس: ((أَسأَلُكَ: مَن يَعْني النَّبِيُّ بِهذا الكَلام: أَنَفْسَه أَم شَخْصًا آخَر؟  فَشَرَعَ فِيلِيبُّس مِن هذه الفقَرةِ يُبَشِّرُه بِيَسوع" (أعمال 8: 33-35). وتعلق القدّيسة تيريزا -بينيديكت الصليب (إيديث شتاين) " لماذا اختار الربّ بنفسه الحمل لكي يكون رمزًا له بامتياز؟ لماذا كان يظهر أيضًا بهذا المظهر على العرش الأبدي للمجد؟ ورَأَيتُ بَينَ العَرشِ والأَحْياءِ الأَربَعَةِ وبَينَ الشُّيوخِ حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح " (رؤيا 5: 6).  لأنّه كان بريئًا كالحمل، ومتواضعًا كالحمل، ولأنّه كان قد أتى لكي "يُساق كَحَمَلٍ إلى الذَّبْحِ" (أشعيا 53: 7). كما يجب أن يموت الحمل ليُرفَع إلى عرش المجد، هكذا، فإنّ طريق كلّ "المَدعُوِّينَ إِلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل" (رؤيا 19: 9)، تمرّ صوب المجد بالعذاب والصليب" (عرس الحمل 14/09/1940)

 

ويرجع متى الإنجيلي إلى هذا النص عندما يوضَّح موقف المسيح في حكمه أمام المجلس اليهودي “ظَلَّ يسوعُ صامِتاً" (متى 26: 63)، وأنه "لَم يُجِبْ بيلاطس بِشَيء "(يوحنّا 19: 9). ومن المحتمل أن يكون يوحنا المعمدان ينوّه بذلك، عندما شهد ليسوع امام اليهود قائلاً "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم " (يوحنا 1: 29)، وكذلك عندما شهد ليسوع امام تلاميذه خاصة اندراوس ويوحنا: "هُوَذا حَمَلُ الله!"(يوحنا 1: 36). يُعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك الإسكندريّة) " أعلن يوحنّا: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ " ليشرح سبب نزول يسوع من السَّماء ومجيئه إلينا". هو الحمل الحقيقي الّذي أُخبِر عنه فيما مضى بالرموز، والضحيّة الّتي هي من دون لوم، سيق اليوم إلى الذبح من أجل أن يَمحي خطيئة العالم، ومن أجل أن يغلب مُهلِك الأرض، ومن أجل أن يقضي على الموت بموته عن الجميع، ومن أجل أن يكسر اللعنة الّتي حلّت بنا، ومن أجل أن يلغي تلك الكلمة: "لأَنَّكَ تُرابٌ وإِلى التُّرابِ تعود" (تكوين 3: 19) " شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا، 2، المقدّمة)

 

ب) حمل الله: حمل الفصح (1 بطرس 1: 19)

 

يرمز "حمل الله " أيضا الى حمل الفصح. عندما قرَّر الله أن يخلص شعبه الأسير لدى المصريين، أمر العبرانيين بأن تذبح كل أسرة منهم حملاً صحيحاً، ذكراً، حولياً (خروج 12: 5)، وتأكله ليلاً، وتنضح بدمه عضادتي بابها. وبفضل هذه العلامة يفتديهم ملاك الهلاك عندما يأتي ليضرب كل أبكار المصرّيين. وهكذا بفضل دم حمل الفصح قد افتدى الله العبرانيين من عبودية مصر، فأمكنهم من أن يصبحوا " مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة" (خروج 19: 6).

 

ويرى يوحنا في المسيح أيضا صورة موسى الذي قاد الشعب من العبودية إلى ارض الخلاص؛ فقد حررنا يسوع من أصول الشر وعبوديته. الحمل الفصحى يرمز إلى النجاة والخلاص من العبودية، ويسوع هو الذي يرفع خطيئة العالم أي ينشر الحب في الأرض ويصالح الإنسان مع الله. ويعلق القدّيس كيرلُّس الاورشليمي "لقد طرد الحمل الفصحى شبح الموت في زمن موسى؛ فكم بالحريّ "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29)، أفليسَ هو أكثر قدرةً على تحريرنا من خطايانا؟ " (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر).

 

ورأى التقليد المسيحي في المسيح "حمل الفصح الحقيقي"؛ إن المسيح هو الحمل (يوحنّا 1: 29) الصحيح (خروج 12: 5)، أي بلا عيب ولا دنس (عبرانيين 9: 14) الذي يفدي البشر بثمن دمه كما صرّح بطرس الرسول "قَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح" (1 بطرس 1: 18-19).

 

 ويرجع التقليد الذي يرى في المسيح حمل الفصح الحقيقي، إلى بدء المسيحيّة ذاتها حيث حث ُّبولس الرسول مؤمني كنيسة قورنتس على أن يعيشوا كفطير في الطهارة والحق، بما أنه " ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح" (1 قورنتس 5: 7). ولا يعرض الرسول بولس هنا تعليماً جديدا عن المسيح الحمل، ولكنه يستند إلى تقاليد طقسيّة خاصة بالفصح المسيحي ترجع إلى قبل سنة 57م.  فإذا أخذنا بعين الاعتبار الترتيب الزمني الذي يتبعه يوحنا نرى أن حادث موت المسيح ذاته هو أساس هذا التقليد. قد أسلم يسوع للموت عشية عيد الفطر (يوحنا 18: 28) أي يوم تهيئة الفصح، بعد الظهر (يوحنا 19: 14)، في الساعة ذاتها التي تفرض الشريعة ذبح الحملان في الهيكل. وبعد موته، لم يكسر الجنود ساقيه مثلما كسروا ساقي المصلوبين الآخرين (يوحنا 19: 33). ويرى الإنجيلي في هذه الواقعة تطبيقاً لشريعة طقسية بشأن الحمل الفصحى "فقد كانَ هذا لِيَتِمَّ الكِتاب: ((لن يُكسَرَ له عَظْم)) (يوحنا 19: 36).

 

 والمسيح هو الذبيحة العظمى والفدية الكاملة التي اعدَّها الله ليكفِّر عن أثام شعبه كما يؤكده بولس الرسول في تعليمه "فالَّذي لم تَستَطِعْهُ الشَّريعة، والجَسَدُ قد أَعيْاها، حَقَّقَه اللهُ بإِرسالِ ابِنه في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد "(رومة 8: 3).

 

والجدير بالذكر ان مبدأ التكفير عن الخطايا يقوم على مبدأ التعويض.  "إَنَّ أُجرَةَ الخَطيئَةِ هي المَوت" (رومة 6: 23)، وان الخطيئة تفصل الانسان عن الله. ويعلمنا الكتاب المقدس "بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله" (رومة 3: 23) فأرسل الله ابنه الوحيد يسوع المسيح ليموت على الصليب من اجلنا كما شهد يوحنا المعمدان " هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم "(يوحنا 1: 29). ويشير هذا النص الى موت يسوع التكفيري حيث يدمج من جهة صورة العبد المتألم (أشعيا 52: 13-53: 12) الذي يأخذ على عاتقه خطايا جماعة الناس والذي، مع أنه بريء، يُقرِّب نفسه حملا، ومن جهة أخرى، صورة حمل الفصح (خروج 12: 1-28). ويعلق القدّيس كيرلُّس الاورشليمي "يسهلُ علينا أن نستخلصَ من هذه الفقرة لأشعيا بأنَّ ما تكلّم عنه الأنبياء من مغفرة الخطايا والتوبة وخلاص البشر سيتمّ بالرّب يسوع لمسيح في نهاية الأزمنة (عن أشعيا، الفصل الرّابع).

 

نستنتج مما سبق ان المسيح مات لفدائنا، ولدفع ثمن خطايا كل من يؤمن به (1 بطرس 1: 18-21). " إِنَّه كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العالَمِ أَجمعَ" (1 يوحنا 2: 2). ويؤكد ذلك صاحب الرسالة الى العبرانيين "المسيحُ قُرِّبَ مَرَّةً واحِدة لِيُزيلَ خَطايا جَماعَةِ النَّاس. وسيَظهَرُ ثانِيَةً، بِمَعزِلٍ عنِ الخَطيئَة، لِلَّذينَ يَنتَظِرونَه لِلخلاص" (عبرانيين 9: 28).

 

ج) حمل الله: حمل المنتصر (رؤيا 7: 14)

 

يرمز حمل الله أخيرا الى حمل السماوي المنتصر الذي يتقلَّد قدرة لدى ارتفاعه الى السماء. إن المسيح حمل الله في موته الفدائي، ولكنه في نفس الوقت "أسد" حرّر بانتصاره شعب الله، من قوات الشر، كما جاء في وصف صاحب الرؤيا "ها قد غَلَبَ الأَسَدُ مِن سِبطِ يَهوذا، ذُرَّيَّةُ داوُد ورَأَيتُ بَينَ العَرشِ والأَحْياءِ الأَربَعَةِ وبَينَ الشُّيوخِ حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح، لَه سَبعَةُ قُرون وسَبْعُ أَعيُنٍ هي أَرْواحُ اللهِ السَّبعَةُ الَّتي أُرسِلَت إِلى الأَرضِ كُلِّها. (رؤيا 5: 5)، وإذ هو يُشارك الله حالياً في عرشه (رؤيا 22: 1) وفي تقبل عبادة الكائنات السماوية (رؤيا 5: 8).

 

تقلَّد يسوع، حمل الله، سلطة إلهية. فهو الذي يُنفِّذ أحكام الله ضد الكفار كما جاء في سفر الرؤيا "تَوالَت رُؤيايَ فرَأَيتُ الحَمَلَ يَفُضُّ أَوَّلَ الأَخْتامِ السَّبعَة" (6: 1) ويوقعهم غضبه في الرعب (رؤيا 6: 16) وهو الذي يقود الحرب "الإسكاتولوجية (الاخروية) ضدّ قوّات الشر المتحالفة، وينصّبه نصره ليكون" رَبُّ الأَرْبابِ ومَلِكُ المُلوك" (رؤيا 17: 14). ولن يعود إلى وداعته الأولى، إلا عندما يحتفل بعرسه مع أورشليم السماوية، التي ترمز إلى الكنيسة “طوبى لِلمَدعُوِّينَ إِلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل (رؤيا 19: 9) فيتحوَل الحمل حينذاك إلى راع ليقود المؤمنين نحو ينابيع ماء الحياة التي تمنح السعادة السماوية كما جاء في سفر الرؤيا "لأَنَّ الحَمَلَ الَّذي في وَسَطِ العَرشِ سيَرْعاهم وسيَهْديهم إِلى يَنابيع ِماءِ الحَياة، وسيَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم "(رؤيا 7: 17).

 

2) شهادة التلاميذ الاولين ليسوع: المسيح.

 

هيَّا المعمدان ليسوع بصورة مباشرة لا بالشهادة والعماد فحسب بل بدعوة تلاميذه إلى اتباع يسوع

 

ا) شهادة يوحنا المعمدان للمسيح امام تلميذيه  

 

كان يوحنّا المعمدان "شاهدا ليسوع" لدرجة إنه لم يَعدْ يبحث عن مجدٍ شخصيٍّ له " لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا 3: 30). كان يوحنا ببساطة يشهد للحق (يوحنا 3). هل كان يفكّر بأن يحتفظ بتلاميذه لنفسه ويمنعهم من اتّباع الرّب يسوع؟ مطلقاً لا! لقد جاء كي يدعو الناس، لا ليكونوا أتباعاً له، لا ليلتصقوا بشخصه، بل ليكونوا أتباعاً للمسيح. لقد دلّ يوحنا المعمدان بنفسه تلاميذه على المسيح كي يتبعوه. ويعلق القدس اوغسطينوس " لقد أعلن لهم: أنظروا "هُوَذا حَمَلُ الله!" ... هوذا الّذي سيحمل خطيئة العالمبعد هذه الكلمات تبع التّلميذان-الّلذان كانا مع يوحنا-الرّب يسوع".

 

ب) شهادة تلميذيه يوحنا المعمدان امام بطرس

 

استطاع يوحنا المعمدان بفضل شهادته ان يسوع هو حمل الله ان يجذب التلميذين اندراوس ويوحنا الحبيب الى يسوع ليصبحا تلميذيه. فتبع تلميذاه يسوع. ويعلق باسيليوس السلوقيّ الاسقف "مدفوعًا بهذه الكلمات، غادرَ أندراوس معلِّمه القديم وانطلقَ نحو ذاك الذي بشَّر به يوحنّا المعمدان، وكان توقه يتجلّى بخطواته... وقد اصطحب معه يوحنّا الإنجيلي. فتركَ الاثنان " السِّراج المُوقَد المُنير" وتوجَّها نحو الشمس" (عظة عن القدّيس أندراوس). ومن لم يجد المسيح أولًا لن يستطيع أن يأتي بأحد للمسيح. ومن يعرف يسوع يسعى لأن يعرِّفه الآخرون (نشيد أناشيد1 1: 4). وفي هذا الصدد حث البابا فرنسيس في خطابه الشباب "أيها الشباب الأعزّاء، احملوا محبة المسيح إلى شباب جيلكم!"  (خطابه للشباب 10/12/ 2018).

 

قبل أندراوس شهادة يوحنا المعمدان عن يسوع، وفي الحال ذهب ليُخبر اخاه سمعان بطرس عنه "وَجَدْنا المَشيح)) ومَعناهُ المسيح" (يوحنا 1: 41). فسرعان ما أنضم الى يسوع؛ فكان اندراوس سببا في دعوة أخيه سمعان بطرس. وصل نداء الله إلى شخص ما عن طريق شخص آخر لخدمة الله كما يقول بولس الرسول: "كَيفَ يَدْعونَ مَن لم يُؤمِنوا بِه؟ وكَيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟ وكَيفَ يَسْمَعونَه مِن غَير ِمُبَشِّر؟ 15 وكَيفَ يُبَشِّرونَ إِن لم يُرسَلوا؟" (رومة 10: 14-15).

 

فبإمكان كل مدعو أن يكون سبباً في دعوة إنسان أخر، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم في دعوة أندراوس لأخيه سمعان، ودعوة آخرين لبعضهما البعض "صورة حيَّة لتحقيق الصداقة في الرب، والتعاون في ملكوت الله". ولم يكن عند اندراوس شك في ان يسوع هو المسيح.   فلم يخبر أندراوس أخاه بطرس فقط، بل نجده يهتم بتقديم الناس الى الرب يسوع "ههُنا صَبِيٌّ معَهُ خَمسَةُ أَرغِفَةٍ مِن شَعير وسَمَكتا " لإجراء معجزة الخبز والسمكتين (يوحنا 6: 8)، وقدّم بَعضُ اليونانِيِّينَ الذين ارادوا ان يروا يسوع في اورشليم" (يوحنا 12: 22). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " وَجَدْنا المَشيح" تعبير عن نفس تجاهد من أجل حضرة الرب، وتبحث عن مجيئه من العلا، وتتهلل عندما يتحقق ما تبحث عنه، وتسرع لتهب الآخرين أخبارًا سارة. هذا هو دور الحب الأخوي القائم على الصداقة الطبيعية، وتدبير مُخلص، لبسط اليد للغير لتقديم الروحانيات". فالدعوة المسيحية هي من تلميذ الى تلميذ. فالمسيح يريد ان يواصل رسالته على يد تلاميذه.

 

وفجأة يسألهم يسوع «ماذا تريدان؟» وليس «من تريدان؟». فلو قال لهم «من تريدان؟» لجعل من شخصه مباشرة المِحور، متجاهلاً بذلك بحثهم الحقيقيّ. لكنّ يسوع يهتم بهم، بما يبحثون عنه: ما هي رغباتكم الحقيقيّة، عن ماذا تبحثون بالفعل في حياتكم؟  ويعلق أحد المفكرين على قوله “ماذا تُريدان؟" المال، المجد، السلطة؟ أم أنك مُستعد لتعيش التجرُّد، التواضع والخدمة؟ فهل العالم يبحث عن القيَم الحقيقية؟ يقول المفكر فاريون: "العالم يملك أكثر فأكثر الإمكانيات، وأقل فأقل المعنى. الإنسان يصبح أكثر فأكثر ذكاءً والحياة تصبح أكثر فأكثر عبَثيّةً". في الحقيقة عندما نبحث عن المسيح، لا نعرف بالضبط عن ماذا نبحث وهو يساعدنا على توضيح دوافعنا ومعنى وجودنا.

 

يجيب التلميذان على سؤال يسوع بسؤال: «يا معلم أين تقيم؟» وليس "نحب أن نقوم بهذا أو بذاك العمل معك". كان يريدان أن يريا أين يقيم الرّب يسوع ليتمِّما تلك الآية: إِن رَأَيتَ عاقِلاً فاْبتَكِرْ إِلَيه ولتحُكَّ قَدَمك دَرَج بابِه. فَكَرْ في أَوامِرِ الرَّبَ واْهتَمَّ بِوَصاياه كُلَّ حين" (سيراخ 6: 36-37).

 

لقد فهم يسوع جيداً سؤالهم فيجيب: «تعالا وانظرا». يدعوهما يسوع إذن للإقامة معه ليتعرّفوا عليه، كما أنّه يقيم في الآب ويعرف الآب. فلا يمكن اكتشاف ومعرفة المسيح دون علاقة حميمة معه، دون شيء من الاستمراريّة. أصغى التلميذان لكلام يسوع وقاما باكتشاف هائل يتجاوز بكثير ما قاله لهما المعمدان. كما حدث سابقاً مع النبي إرميا الذي قال: "قد استغويتني يا رب، فاستُغويت" (20: 7). أن يَستغوينا يسوع لنُقيم بقربه، إنه هو في قلب كل دعوة.

 

ومنذ ذلك الحين، تجذّرت في قلب يوحنا الرغبة في الإقامة بقرب يسوع. وتصل الرغبة ذروتها في خطاب الوداع. وفي واقع أنه استطاع عيش هذه الواقع الحميم، وهو يميل برأسه على صدر مُعلّمه أثناء العشاء الأخير مصغيا الى كلمات معلمه الإلهي "اُثبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم...فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً" (يوحنا 15: 4-5).

 

ولكن معرفة المسيح ليست هدفاً بحدّ ذاته، إنها تدفعنا دائماً باتجاه الآخرين وباتجاه ذواتنا. يلتقي التلميذان صدفة بسمعان، أخو اندراوس ويشاركانه اكتشافهما "وَجَدْنا المسيح" (يوحنا 1: 41). فيلتحق بهما سمعان ويذهبون كلهم باتّجاه المسيح. هنا لا يقول لنا النص ما الذي اكتشفه سمعان من المسيح، بل على العكس، يقول لنا كيف حوّل المسيح سمعان كليّة بإعطائه اسم جديد "أَنتَ سِمْعانُ بنُ يونا، وسَتُدعَى كِيفا، أَي صَخراً " (يوحنا 1: 42) فنيل اسم جديد من الله يعني تغيّر الهوّية، وإن لقب الصخرة هو من ألقاب الله نفسه (مزمور 18: 3)، والمسيح أيضا (1 قورنتس 10: 4)، وأخيراً بطرس (يوحنا 1: 42). مع هذا الاسم يَعبر شيئاً من الله ومن المسيح إلى بطرس، التلميذ المدعو أيضاً ليكون أساساً لبقية التلاميذ " وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ" (لوقا 22: 32).

 

الخلاصة

 

شهد يوحنا المعمدان لتلاميذه ليدخل بهم إلى العهد الجديد. وأكَّد لهم أن المسيح يأتي لا في صورة ملوكية مجيدة كما يظن اليهود، بل بصورة حمل الله، المتألم، الحامل خطايا العالم. ومن هذا المنطلق، تمَّ لقاء حقيقي شخصي وعميق بين تلاميذ يوحنا المعمدان وهم أندراوس ويوحنا وسمعان بطرس الذي أحضره اخوه اندراوس فشكلوا النواة الاصلية للتلمذة. 

 

وآلَ هذا اللقاء إلى تغيير كامل للحياة كما للكيان والاسم. فنرى السيد المسيح دخل إلى صميم نفس سمعان، واحتل أعماقها، ليحوِّله إلى بطرس الرسول؛ وغيّر اسمه ورسالته وحياته وكيانه كله. فنحن هل نريد أن نتعرف على يسوع ونتبعه مثل هؤلاء التلاميذ؟  لماذا نريد أن ان نبحث عن يسوع؟ هل نحن مستعدُّون ان نلبِّي دعوته لنذهب اليه نقيم عنده؟

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، انت الذي أرسلت يوحنا المعمدان ليرشد الآخرين ليسوع، حمل الله، امنحنا النعمة لنعرف يسوع مخلصا الذي فدى نفسه من اجلنا فنعترف فيه مسيحا ولا نعود الى الخطيئة ونشهد له امام الآخرين فيعرف العالم حقيقة الخلاص بالرب يسوع المسيح.  أعطنا السّلام، أيّها الحمل الّذي ذبح من أجل خلاصنا (رؤيا 5: 6)، يا "حَمَلَ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم، أعطنا السّلام". (يوحنا 1: 29)

 

ومع البابا بولس السادس نصلي: "إليك يا يسوع ربنا، ننظر لتنيرنا أيها النور الآتي إلى العالم، فندرك الدعوة إلى اتباعك، وسماع كلامك الحي، والدخول في شركة حياة معك. إنجيلك قوة وفرح لنا. أحل فينا روحك القدوس، فيغير حياتنا ويفرحها بالأخوة لجميع الناس، والخدمة السخية، والغيرة في العمل الرسولي، فنحقق خير البشرية في الحقيقة والحرية والعدل والمحبة. هكذا إليك نصلي، أيها المسيح، أنت الذي تحيا وتملك مع أبيك وروحك القدوس إلى الأبد. آمين.