موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٥ مايو / أيار ٢٠٢٢

"سر الصعود" بين كاتبي سفر المزامير والأعمال اللوُقاويّة

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (مز 24: 1-5؛ لو 24: 44-53؛ أع 1: 1-11)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (مز 24: 1-5؛ لو 24: 44-53؛ أع 1: 1-11)

 

مقدّمة

 

تتكلل مسيرة أفراح القيامة بالاحتفال بــ "سر صعود يسوع" القائم إلى مجده الإلهي وجلوسه عن يمين الآب. فالقائم هو الّذي أخبر عن الآب في فترة حياته الأرضيّة وحملَ لنا الخلاص (راج يو 1: 18). "سر الصعود" الذي نحتفل به ككنيسة بعد أربعين يومًا من احتفالنا بعيد القيامة لهو سر إلهي عظيم. إنّ نصوص حدث الصعود المقدس، بالعهد الثاني، ترتكز على أحداث تقتصر روايتها على كُاتب وحيد بالعهد الثاني وهو لوقا الإنجيلي سواء في نهاية الإنجيل أم في بداية سفر أعمال الرسل. بناء على هذا سنتعمق في مقالنا اليوم، كمرحلة أوّلى من الصعود على بشريًا من خلال المزمور الرابع والعشرون بالعهد الأوّل الّذي يحمل سؤالاً عن هوية الشخص الّذي سيصعد قائلا: «مَن يصعد؟» (مز 24: 3). لذا باحثين عن إجابة لهذا السؤال الذّي طرحه كاتب سفر المزامير من خلال التعمق في سر صعود يسوع الإلهي من الوجهة اللوقاويّة من خلال مقطعي (لو 24: 46- 53؛ أع 1: 1- 11). هادفين في هذا المقال للتعمق على معنى صعود يسوع في حياتنا اليوم واكتشاف طريق ما يساعدنا للصعود إليه مما هو بشري.

 

في الواقع، إن احتفالنا بالصعود يدفعنا أكثر إلى التفكير في موضوع عيد الفصح، أيّ حياة القائم من بين الأموات في وقت غيابه! نعم، فهو بمثابة اللاحضور الجسدي للمسيح القائم، لأن المفهوم الفوري لحضور القائم يمكن أن يقودنا إلى عدم فهم جوهرية وحداثة حضور الرّبّ حقًا أثناء غيابه، مما يجعل توقعاتنا تختلف تجاه "اللقاء مع رّبُّ الكون" الذي ينتظرنا في أفق تاريخ البشرية الذي سنحتفل به في نهاية الزمان العادي وهو ما نطلق عليها في اللّاهوت الباروسيّا أيّ المجيء الثاني ليسوع. لكن هناك مفاجأة تنتظرنا من خلال النصوص المختارة وهي الإجابة عن تساؤل هام وهو هل كل صعود بشري هو بالفعل يحمل تقدم وخطوات للأمام؟ أين نحن اليوم من سر الصعود الإلهي؟

 

 

1. دعوة للصعود بشريًا (مز 24: 3- 5)

 

لفظ مزمور من العبري يعني كرمي وهناك مزامير نطلق عليها في اللّاهوت الكتابي بأنها "مزامير الصعود" التي كانت تُرتل عند صعود بني إسرائيل لهيكل الرّبّ باورشليم للإحتفال بالأعياد (راج 2صم 2: 13-15). كانت حماسة بني إسرائيل وانتمائهم للرّبّ يُعبر عنه بحس العقلية الدينية في الديانة اليهوديّة من خلال الذاكرة، فهم يُنشدون ما يحفظونه من المزامير أثناء صعودهم نحو هيكل الرّبّ لتسبيحه وعبادته وتقديم الذبائح والنذورات كشكر لله.

 

حينما يتساءل كاتب المزمور قائلا: «مَن ذا الَّذي يَصعَدُ جَبَلَ الرَّبِّ ومَنْ ذا الَّذي يُقيمُ في مَقَرِّ قُدْسِه؟ النَّقِيُّ الكَفَّين والطَّاهِرُ القَلْبِ الَّذي لم يَحمِلْ على الباطِلِ نَفسَه ولم يَحْلِفْ خادِعًا. بَرحمةً يَنالُ مِن لَدُنِ الرَّب وبِرًّا مِن إِلهِ خَلاصِه» (24: 3- 5). يرغب في أن يدعونا إلى التقرب نحو هيكل الرّبّ لعبادته ولتوطيد العلاقة معه، مُحفزاً كلاً منا بالترحال والتحرك نحو الرّبّ الحاضر في قدسه أي في وسطنا. ومَن سيصعد هناك مفاجأة تنتظره وهو اللقاء بالله حينما يدعو الأبواب والمداخل بالإنفتاح مستخدمًا فعل الأمر لأن ملك المجد سيدخل في قدسه: «إِرْفَعْنَ رُؤوسَكُنَّ أَيَّتُها الأَبْواب واْرتَفِعْنَ أيَّتُها المَداخِلُ الأَبدِيَّة فيَدخُلَ مَلِكُ المَجْد. مَن هذا مَلِكُ المَجْد؟ هو الرَّبُّ العَزيزُ الجبَار الرَّبُّ الجبَارُ في القِتال. إِرفَعْنَ رُؤوسَكُنَّ أَيَّتُها الأَبْواب واْرتَفِعْنَ أَيَّتُها المَداخِلُ الأَبدِيَّة فيَدخُلَ مَلِكُ المَجْد. مَن هذا مَلِكُ المَجْد؟ رَبُّ القواتِ هو مَلِكُ المَجْد. (مز 24: 7- 9). وهنا يعلن الكاتب هدف الصعود البشري وهو التقدم للقاء ملك المجد الّذي بعظمته يسكن وسطنا. ولكن نكتشف أن الصعود البشري نحو الله ما هو إلا نزول من الذات وكبريائها لأنها بلقاء رب المجد تتواضع وتبدأ مسيرة من النزول والغوص في العالم الـُممجد.

 

 

2. هدف الصعود الإلهي (لو 24: 44- 53؛ أع 1: 1- 11)

 

على ضوء ملك المجد الذّي أعلن عنه كاتب سفر المزامير ودعوته لنا للصعود للقائه، سنتعمق في رواية حدث الصعود، بكلمات لوقا الخاصة فيقول على لسان يسوع: «ذلك كلامي الَّذي قُلتُه لكم إِذ كُنتُ مَعَكم وهو أَنَّه يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير. وحينَئِذٍ فَتحَ أَذْهانَهم لِيَفهَموا الكُتُب» (24: 44- 45). ويختتم النص مشيراً يرفع المعلم أيّ صعوده أمام تلاميذه قائلاً: «وبَينَما هو يُبارِكُهم اِنفَصَلَ عَنهم ورُفِعَ إِلى السَّماءِ. فسَجَدوا له، ثُمَّ رَجَعوا إِلى أُورَشَليم وهُم في فَرَحٍ عَظيم. وكانوا يُلازِمونَ الهَيكَلَ يُبارِكونَ الله» (24: 51- 53). اختيار لوقا لكلمات تشير لإتمام يسوع لما وردّ بسفر المزامير وختامه بصعود يسوع ثم صعود التلاميذ لجبل أورشليم انتظاراً لقوة العلي التي وعد بها يسوع كآخر كلمات له.

 

عرض كاتب الإنجيل رحلة إلهية دامت ثلاث سنوات ويفاجئنا ببداية وليست نهاية. لوقا هو الوحيد الذي يشمل في لّاهوته سر يسوع الفصحي "آلام وموت وقيامة وصعود يسوع". فنحن من خلال "سر الصعود" نبدأ رحلة جديدة. يشدد الإنجيلي على أنّ صعود يسوع ليس هو غياب وليس عودة لانهائية للآب، بل هو تسليم يسوع ذاته للآب وترك رسالة لتلاميذه عليهم أنّ يُتمموها حتى أن يعود ثانية. فمن الآن وصاعداً، ليس فقط القائم هو مّن يحمل الجديد ليتممّ مشيئة الآب بل سيصير تلاميذه أيضًا حاملي للبُشرى الجديدة وهي سر يسوع الفصحي. يرغب لوقا من خلال آخر كلمات يسوع لتلاميذه: «كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم» (24: 46- 47). إن يتقوى إيمان التلاميذ كاختيار نابع من الحب. بسبب معرفتهم ليسوع واتخاذهم قرار بتبعيته. ونحن اليوم كالتلاميذ، يُسلم لنا الصاعد رسالته الفائقة الطبيعة قائلاً: «أَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور. وإِنِّي أُرسِلُ إِلَيكم ما وَعَدَ بهِ أَبي. فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَة إِلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى» (لو 24: 48-49). القائم يطلب منّا كسامعين له اليوم أن نمكث لأن حياتنا هي مسيرة من الترحال نعلن فيها البُشرى السَّارة. وعلينا قبل كل شيء أن نتخلى عن كل وسائل الراحة والأمان بشريًا لأنّ دورنا في المشروع الإلهي سيكون امتداد لما بدأه المسيح الصاعد.

 

 

3. الجديد. الإستمرارية (مز 24: 3؛ أع 1:  8- 11)

 

الجديد الذي يحملاه لنا كاتبي سفر المزامير والأعمال اللوُقاوية، وهو عبارة عن إجابة للتساؤل المطروح من قبل كاتب سفر المزامير نجد الإجابة في كلمات كاتب سفر الأعمال التي تتلخص في دعوتنا بالإستمرارية وبالإنفتاح على كلمات يسوع الأخيرة قبل صعوده: «الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض. ولَمَّا قالَ ذلكَ، رُفِعَ بِمَرأىً مِنهُم، ثُمَّ حَجَبَه غَمامٌ عن أَبصارِهِم. وبَينَما عُيونُهم شاخِصَةٌ إِلى السَّماءِ وهُو ذاهِب، إِذا رَجُلانِ قد مَثَلا لَهم في ثيابٍ بِيضٍ 11وقالا: "أَيُّها الجَليِليُّون، ما لَكُم قائمينَ تَنظُرونَ إِلى السَّماء؟ فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء"» (أع 1: 8- 11). من خلال هذه الكلمات يأتي لفظ "شهود" كجوهر رسالتنا للكنيسة وهي تحمل معنيين في اليوناني شاهد هو مَن يعلن البشري السَّارة وهو أيضًا من يموت شهيداً حُبًا فيمَن يشهد له. وهنا التطابق بين الأقوال والأفعال في حياتنا. "شهود" هو طلب يسوع الأخير من تلاميذه وهو ما يعني إستمرارية رسالته التي شهد فيها لله الآب بكلماته وأفعاله.

 

 

الخلّاصة

 

«مّن يصعد؟» (مز 24: 3) هو تساؤل وجهه كاتب سفر المزامير على مستوانا البشري. إلا أن كاتب الأعمال اللوُقاويّة قدم لنا إجابتين من خلال علميه الّذي ختم به إنجيله وبداية سفر الأعمال. وهو تقديمه ليسوع الصاعد وعودته للآب في مجده الإلهي وهنا نعنى الصعود الإلهي. إلا أنه وجه رسالة لنا بالصعود إلى مستوى جديد كشفه يسوع في آخر كلماته وهو أن نكون "شهود" له. وهنا صعودنا البشري لا يكمن فقد في اللقاء بالرّبّ، بقدر ما يُحملنا رسالة لإستمرارية الرسالة التي بدأها يسوع فنصير ليسوا شهود عياّن كالكنيسة الأوّلى بل شهود عنه بالإيمان. تعرفنا بأنّ "سر صعود يسوع" هي جزء لا يتجزأ من السر الفصحي. إن سر قيامة يسوع، ليس حقيقة تتعلق فقط بعيد الفصح، لكنه تتجسد في كل ذبيحة إلهية فهي قوة تُغني حياتنا كلها كتلاميذ للرّبّ. كل جانب من جوانب سر الفصح الذي تمكنا من تذوقه، على ضوء كلمات كاتب سفر المزامير، والعيش فيه في موسم عيد الفصح هو ثمرة قيامة يسوع يدعونا للتمييز، وهو بالنسبة لنا في نفس الوقت عطية والتزام. مدعوين اليوم، أنّ نشهد هذه البشارة في حياتنا، حينما نقبل هذا القائم فنكون شهادة في رسالتنا للتبشير. ويمكننا فيما بعد بحسب قول القديس فرنسيس الأسيزي للأخوة الأصاغر: "بشروا بالإنجيل [أيّ في الحياة] وعند الضرورة بالكلام". وهذا هو ما يدعونا له يسوع الصاعد أن نشهد بالحياة وبالقول.