موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٢ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

رسالة يسوع العلنية في الجليل وعمل الروح القدس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثالث من السنة: رسالة يسوع العلنية في الجليل وعمل الروح القدس (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

الأحد الثالث من السنة: رسالة يسوع العلنية في الجليل وعمل الروح القدس (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

النص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

مقدمة الكتاب

 

1 لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، 2 كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها، 3 رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُس المُكرَّم، 4 لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم.

 

رسالة يسوع في الجليل -يسوع يشرع في التبشير

 

14 وعادَ يسوعُ إلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح، فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها. 15 وكانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً. 16 وأَتى النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ، ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ على عادَتِه، وقامَ لِيَقرأ. 17 فدُفِعَ إِلَيه سِفْرُ النَّبِيِّ أَشَعْيا، فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه: 18 ((رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين 19 وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ)). 20 ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إلى الخادِمِ وجَلَسَ. وكانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه. 21 فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: ((اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم))

 

 

مقدمة

 

يصف لوقا في مقدمة إنجيله الاهتمام الذي التزم به للحصول على المعلومات الكاملة والدقيقة لإظهار الأساس التاريخي للإيمان المسيحي في الإنجيل الطاهر الذي يدور حول المسيح المُخلص وعمله في سبيل المؤمنين، ولا سيما الفقراء منهم والنساء والخاطئين والوثنيين؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

1 لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا،

 

تشير عبارة "أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا" إلى مقدمة إنجيل لوقا على طريقة الكُتُّاّب اليونانيين المعاصرين له التي تكشف عن وجود سجلات مكتوبة قبل الشروع في تدوين الأناجيل الثلاثة: لوقا متى ومرقس. أمَّا عبارة " لَمَّا أَن " في الأصل اليوناني Ἐπειδήπερ (معناها بقدر ما هو كائن) فتشير إلى مصطلح الذي يؤكِّد حقيقة معروفة جيدًا. وهذا المصطلح تردَّد مرة واحدة فقط في العهد الجديد حيث يُنبئ لوقا أنه نوى أن يستخدم ما قام به الكثيرون من قبلٍ ليُعزِّز ما سيقوله هو، مؤكداً أن دقته مع هذه الكثرة من الناس ستأتي بالجديد الكامل.

 

 أمَّا عبارة "أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاس" في الأصل اليوناني ἐπεχείρησαν (معناها اخذوا في اليد) فتشير إلى مصطلح كان يستخدم في اللغة الطبِّية بكثرة، ويحمل معنى المُهمَّة الصعبة التي تَكللت بالنجاح الكامل (أعمال الرسل 13: 19)، حيث أنَّ الكثيرين هنا لم يكونوا شهود عِيانٍ بل نقلوا عن غيرهم بعكس متى ويوحنا اللذين كانا شاهدي عِيانٍ. فالأرجح أنَّ أولئك الكثيرين هم معلمو الإنجيل والمُبشِّرون به الذين كتبوا أخبارا مختصرة مما سمعوه من الرسل وغيرهم من وقت إلى وقت. ولعلَّ بعض المؤمنين منهم، الذين كانوا يكتبون ما هو مخزون في ذاكرتهم من مواعظ الرسل. أمَّا عبارة "يُدَوِّنونَ" في الأصل اليوناني ἀνατάξασθαι (معناها يرتِّب أو يصنّف) فتشير إلى تجميع وترتيب. مقولات وروايات شفاهيِّة ومكتوبة، وهذا يؤكد دقة التسليم الشفوي والمكتوب الذي تمَّ تسليمه من رسل المسيح، خاصة مرقس الإنجيلي ومتى الإنجيلي للمؤمنين الأوائل في الكنيسة الأولى. ولم يُستخدم هذا المصلح في العهد الجديد سوى هنا فقط، حيث استهل لوقا هذه المقدمة في ذكر ما سبقه في تدوين رواية البشرى السارة. لكن المؤلفات اندثرت جميعها. ويُعلق العلامة أوريجانوس قائلا" معنى كلمة "أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ" أنهم حاولوا، وفي هذا اتهام موجَّه ضدَّهم ضمنيًا، إذ حاولوا كتابة الأناجيل دون إرشاد الروح القدس، أمَّا الإنجيليُّون متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا فلم يحاولوا التأليف، إنما امتلأوا بالروح القدس، فكتبوا الأناجيل القانونيّة، ومنها وحدها نستقي إيماننا بربِّنا ومخلِّصنا". أمَّا عبارة "ήγησιν" (معناها رواية) فتشير إلى رواية التقليد الرسولي المُسلَّم للكنيسة من رسل المسيح. ولم تُستخدم هذه العبارة في العهد الجديد سوى هنا فقط.  أمَّا عبارة "الأُمورِ الَّتي تَمَّت" في الأصل اليونانيεπληροφορημένων  (معناها الأمور المتيقِّنة) فتشير إلى الأمور الواضحة الأكيدة التي حدثت والتي يعرفونها جيدًا ولا شك فيها، وهي الأمور الخاصة بحياة السيد المسيح وأعماله ورسالته الخلاصيّة كما تمَّت بيد الله، وهي من الأمور التي اتفق المسيحيون جميعاً على صحَّتها.  وقد رُتّبت بأسلوب يسهل فيه إدراكها وذكرها والتعبير عنها.  وهذا هو المصدر الأول لما كتبه في إنجيله. ويُعلق العلامة أوريجانوس "لقد عرف لوقا الأمور بكل يقين الإيمان والعقل فلم يتردّد في تصديقها، وهذا حال المؤمن المُحنَّك القوي الذي يسلك ويُفكِّر بالروح مميِّزًا الحق من الباطل". أمَّا عبارة " عِندنَا " في الأصل اليوناني ἐν ἡμῖν (معناها عندنا) فتشير إلى المؤمنين أعضاء الكنيسة، فقد تمت هذه الأمور بيننا وعشناها وحفظناها.

 

2 كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها،

 

تشير عبارة "كما" في الأصل اليوناني καθὼς إلى مصطلح بمعنى بمقتضى أو من واقع. أمَّا عبارة "نَقَلَها" في الأصل اليوناني παρέδοσαν (معناها سلّمها باليد) فتشير إلى التقليد الرسولي بتسليم البشارة الإنجيلية شِفَاهِيّاً لأنه كانت أكثر التعاليم في عصور الكنيسة الأولى شَفَويَّة لا كتابةً. وهذا ما وصفه بولس الرسول بقوله "إِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم" (1 قورنتس 23: 11). يتكلم لوقا عن التقليد الذي وصل إليه من العناصر المشتركة لدى مرقس ومتى ومن مختلف الكنائس من خلال المُبشِّرين بيسوع وتعليمه، وفي طليعتهم الرسل، بالإضافة إلى نشاط لوقا الرسولي مع بولس الرسول. فهو تقليدٌ مقدسٌ، تقليد شهود كلمة الله وخُدَّامها. وبالتالي إنجيل لوقا هو دليل لتقليد الكنيسة وإنجيل الرسل. والتقليد هو الوديعة المُعاشة في حياة الكنيسة بالروح القدس تتسلّمها الأجيال خلال التسليم الشفوي والكتابي وخلال العبادة والسلوك.  أمَّا عبارة "كانوا مُنذُ البَدءِ" فتشير إلى أوّل خدمة المسيح. وتذكرنا هذه العبارة بقول بطرس الرسول عند اختيار بديلا ليهوذا الإسخريوطي "مُذ أَن عمَّدَ يوحنَّا إلى يَومَ رُفِعَ عنَّا. فيَجِبُ إِذًا أَن يَكونَ واحِدٌ مِنهُم شاهِدًا مَعَنا عَلى قِيامتِه" (أعمال الرسل 1: 22). أمَّا عبارة "شُهودَ عِيانٍ" في الأصل اليوناني αὐτόπται (معناها المُشاهدة بالعين مباشرة) فتشير إلى شهادة أناس شاركوا يسوع في حياته منذ بدء خدمته الرسولية وشهدوا له. هم لا يتكلمون إلا بما رأوا بأنفسهم، أي عن معرفة شخصية وخبرة عملية ومعايشة كاملة لما يتكلمون كما ورد في تعليم يوحنا الحبيب" ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، أَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا " (1 يوحنا 1: 1-2).  وهذه العابرة لم تُستخدم في العهد الجديد سوى هنا فقط.  وهؤلاء شهود عِيانٍ هم -كما جاء في سيرة الجماعة المسيحية الأولى –"رجالٌ صَحِبونا طَوالَ المُدَّةِ الَّتي أَقامَ فيها الرَّبُّ يَسوعُ مَعَنا" (أعمال الرسل 1: 21).  وتُعد ُّشهادة هؤلاء المصدر الثاني الذي أخذ لوقا إنجيله منه، وهم الرسل وغيرهم ممَّن شاهدوا يسوع وأعماله وسمعوا أقواله وبشَّروا بكلمته وبذلوا الجهد في خدمته. ويُعلق العلامة أوريجانوس عبارة " شُهودَ عِيانٍ “لا تعني مجرد الرؤيا الجسديّة، إذ كثيرون رأوا السيِّد المسيح حسب الجسد ولم يُدركوا شخصه ولا تجاوبوا مع عمله الخلاصي". فكلمة " شُهودَ عِيانٍ" تعني المعرفة النظريّة، بينما تشير كلمة "خدَّام" للمعرفة التطبيقيّة. ويُعلق القديس أمبروسيوس" نال الرسل هذه النعمة... لقد عاينوا، ويُفهم من هذا جهادهم للتعرُّف على الرب، وخدموا، ويُفهم منه ظهور ثمار جهادهم".  فالشهادة أو المعاينة الروحيّة أو الإدراك الروحي ترتبط بالعمل. فالأقوال والأخبار التي انفرد بروايتها لوقا الإنجيلي فقد أخذها عن شهود عِيانٍ. الشهادة للمسيح هي قبل كل شيء شهادة لقيامته (أعمال الرسل 1: 22) والشهود هم الاثني عشر أولا "الذين رأوا وسمعوا" (أعمال الرسل 1: 22)، لكن هناك آخرين يُدعون أيضا شهودا مثل بولس الرسول الذي لم يرَ ولم يسمع وإسطفانس (أعمال الرسل 22: 20). واعتمد لوقا على شهود عِيانٍ، لانَّ كان همَّه أن يعرف الحقيقة.  أَّمَّا عبارة " لِلكَلِمَة" في الأصل اليوناني   λόγος فتشير إلى شخص المسيح تعني أيضًا الرسالة الإنجيلية بكاملها دون أي تغيير، حيث يقصد بها تسجيل كلام المسيح وأعماله وشخصه، كما أكد هو لوقا نفسه" أَلَّفْتُ كِتابيَ الأَوَّل، يا تاوفيلُس، في جَميعِ ما عَمِلَ يسوعُ وعلَّم، مُنذُ بَدءِ رِسالَتِه إلى اليَومِ الَّذي رُفِعَ فيه إلى السَّماء" (أعمال الرسل 1: 1-2). أمَّا عبارة " ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها ِلكَلِمَة " في الأصل اليوناني ὑπηρέται γενόμενοι τοῦ λόγου (معناها الذين أصبحوا خداما للكلمة) فتشير إلى المعرفة التطبيقيّة الإنجيل أي البشارة التي أعلنها الرسل (أعمال الرسل 4: 31،) والمعاونون السبعة الذين أسسهم الرسل (أعمال الرسل 6: 2-5) وبولس الرسول وغيرهم. باختصارٍ، سلم لنا رسل المسيح وتلاميذه أحداث الرب يسوع الذين كانوا شهود عِيانٍ لها، وقد شاهدوها وعاينوها وعاشوها بأنفسهم وكانوا خداما له.

 

3 رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُس المُكرَّم،

 

تشير عبارة "رَأَيتُ" في الأصل اليوناني "ἔδοξε" (لا تعني مجرد الرؤية فقط بل تعني استحسان) فتشير إلى استحسان لوقا الإنجيلي عمل أولئك الذين دوَّنوا من قبله، لذا استحسن أن ينضم إليهم بل ويستفيد من عملهم. أمَّا عبارة "أَنا أَيضاً" فتشير إلى لوقا الذي يحسب نفسه واحدا من الكثيرين الذين اخذوا في التأليف. وهذا دليل على انه لم يستخف بما كتبوه بل أظهر قصده أن يكتب أكثر مما كتبوه لتكون البشرى كاملة.  أمَّا عبارة "تقَصَّيتُها" في الأصل اليوناني παρηκολουθηκότι (معناها تفحصت بدقة، أو تتبعت عن قُرب ٍ) فتشير إلى منهج التتبع والملاحظة والتحليل ودقّة التحقيق ورصانة البحث عن الحقائق التي تميّز به لوقا في كتابة إنجيله على دقّة التحقيق ورصانة البحث عن الحقائق حيث تعرَّف على صحة التعليم من أصولها كونه رجل طبيب، وبالتالي مُفكر ومُحقِّق وباحثٌ ومُدقِّق. فهل نتساءل حول ما ينادي به الكتاب المقدس كما كان يتساءلون التلاميذ الأوائل مثل نَتَنائيل: ((أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شيءٌ صالِح؟"(يوحنا 1: 46). أمَّا عبارة "أُصولِها" فتشير إلى بدايتها ومصدرها. يؤكد لوقا هنا على تتبعه لكل شيء من بدايته، أي رجع لكل شيء ودرسه وتفحصه من مصدره، فقد كان معه التقليد الرسولي الذي تسلمه عن شهود عِيانٍ وخدام الكلمة، يسوع المسيح، وكان في إمكانه الرجوع إلى أكبر عددٍ منهم ليتحقَّق من صحة كل ما تسلمه، مثلما رجع للعذراء القديسة مريم التي روت له أحداث البشارة والميلاد، سواء بشأن يوحنا المعمدان أو بشأن يسوع المسيح، وهذا واضح من تأكيده "كانَت أُمُّه تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها (لوقا 2: 51). أمَّا عبارة " أَن أَكتُبَها لَكَ "في الأصل اليوناني γράψαι κράτιστε (معناها اكتبها على التوالي) فتشير إلى شروع لوقا بوحي من الروح القدس في تسجيل الأحداث بصورة تاريخية شاملة وكاملة بنظام وبحسب ترتيبها الصحيح مُستخدما كل المصادر المُتاحة له. أمَّا عبارة "مُرَتَّبَةً" فتشير إلى ترتيب أدبي وتعليمي أكثر منه ترتيب زمني بحيث يكون إنجيله عرضا مدروسا للحدث الخاص بيسوع وبتعليمه. أمَّا عبارة "تاوفيلُس" في الأصل اليوناني Θεόφιλε (معناها مُحب الله) فتشير إلى اسم يوناني لا يهودي، فهو رجل وجيه آمن بالمسيح وهو معروف في الجماعة التي تتلمذ فيها لوقا، وربما لعبَ دوراً رسمياً في الكنيسة (أعمال الرسل 23: 26)، وقد وجّه إليه لوقا الإنجيل جريا على عادة المؤلفات الهلنستية، ومن خلاله إلى مسيحيين ذوي ثقافة يونانية أولا، ومن خلالهم إلينا في كلّ زمان ومكان.  وقد يكون تاوفيلُس أحد المسيحيين الذين لُقِّنوا تعليم الكنيسة، ومنهم من يرى فيه رجلا وثنيا أهدى له لوقا الإنجيل دفاعا عن الإيمان المسيحي.  وتاوفيلُس هو رمز للمؤمن المُحب لله الذي يتوجَّه إلى الإنجيل لا ليقرأه فقط ويُحفظ غيبا، بل ليتأمل في نصوصه ويعمل بها. ويُعلق أوريجانوس "ربَّما يظن البعض أن الإنجيل قد كُتب لشخص يُدعى تاوفيلُس، لكن إن كنتم أيها السامعون جميعكم محبو الرب، فأنتم تاوفيلُس".  أمَّا عبارة " المُكرَّم " في الأصل اليوناني κράτιστε (معناها العزيز) فتشير إلى لقب يُطلق على أصحاب المراكز الكبرى في الدولة الرومانيّة. وقد ورد هذا اللقب ثلاث مرات في سفر أعمال الرسل: لُقب به الحاكم فيلِكسُ (أعمال الرسل 23: 26؛ 24: 13)، وأيضًا الحاكم فَسطُسُ (أعمال الرسل 26: 25).

 

4 صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم.

 

تشير عبارة "صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم" إلى أحداث مُثْبتة ومُفسَّرة شان مؤرِّخي عصر لوقا (يوحنا 20: 30). وذلك ليكون تاوفيلُس على ثقة مما كتبه لوقا إليه. وينفرد لوقا بين الأناجيل الأربعة ببدء إنجيله بمقدمة، حيث يشرح فيها هدف الإنجيل، وما هي الطريقة التي انتهجها. أمَّا عبارة "تَلَقَّيتَ مِن تَعليم" فتشير إلى تَعلّم تاوفيلُس قبل ذلك بعض ما علمه الناس في شأن المسيح. فأراد لوقا الإنجيلي أن يحصل صاحبه هذا على الخبر الشامل مما جمعه هو من مصادر مختلفة، ما وعظ به الرسل شفاها وما أخبر به غيرهم من شهود عِيانٍ وما كتبه الإنجيليون نقلا عن المشاهدين. وكل ذلك لا ينفي كون ما كُتب موحى به من الروح القدس، لانَّ الروح الهم الرسل بما تكلموا وحفظ الإنجيليين من الغلط في كتابة ما سمعوه وشاهدوه. وهكذا يظهر لوقا بمظهر مؤرِّخ في ذلك الزمان مستنداً إلى من سبقه ويبحث عن المعلومات ويهتم بالترتيب في عرض الأمور.  وهدف لوقا هو نقل التقليد الرسولي إلى قرَّائه وتعريفهم بالحدث الخاص بيسوع من خلال نبوءات العهد القديم وحياة يسوع على الأرض وقيامته.  ومما سبق نستنتج أنه لم يكتب إي كتاب، سمي بإنجيل أو سفر أعمال أو رؤيا أو رسالة مرتبطة بالعهد الجديد قبل تدوين أنجيل لوقا سوى إنجيل مرقس وإنجيل متى، كما لم يكتب أي كتاب في القرن الأول سمي إنجيل أو سفر أعمال أو رؤيا أو رسالة باسم أحد الرسل سوى أسفار العهد الجديد 27. ولم ينسب أي كتاب لأحد من الرسل قبل سنة 150م لأن جميع الكتب الأبوكريفية غير القانونية كُتبت فيما بين سنة 150 و450 م.، ولم يُكتب أي كتاب منها قبل سنة 150 م. والجدير بالذكر أنَّ الآيات الأربع الأولى الواردة أعلاه هي مُقدّمة لبشارة إنجيل لوقا كلها، وفيها بيان الهدف من كتابته.

 

14 وعادَ يسوعُ إلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح، فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها.

 

تشير عبارة "عادَ" إلى لجوء يسوع إلى الجليل على أثر تجربته (لوقا 4: 1-12)، وأما متى ومرقس ذكرا عودة يسوع إلى الجليل على أثر سجن يوحنا المعدان (متى 4: 12، مرقس 1: 14) دلالة على انصرافه أمام الخطر الذي يهدِّد حياته. وما ذكره يوحنا في إنجيله يُبيَّن علة ظاهر الاختلاف المذكور، وهو أن يسوع ذهب إلى الجليل مرَّتين: الأولى على أثر معموديته وتجربته (يوحنا 1: 44)، والثانية بعد ذلك بوقت آخر (يوحنا 4: 1)، فذكر إنجيل لوقا عودة يسوع الأولى وذكر إنجيل متى ومرقس عودة يسوع الثانية. أمَّا عبارة "الجَليلِ" اسم عبري הַגָּלִיל (معناه دائرة أو مقاطعة) فتشير في الأصل إلى الموقع الجبلي لسبط نفتالي (2 ملوك 15: 29)، وفي هذا القسم كان يُقيم كثيرون من الكنعانيين (قضاة 1: 30-33)؛ وتفيد عبارة "جليل الأمم" أن هذا القسم كانت تقطنه غالبية من الأمم (متى 4: 15) وامتد اسم الجليل حتى شمل كل منطقة يزرعيل. وفي أيام هيرودس الكبير أصبحت الجليل جزءاً من مملكته وتحوَّلت كلها يهودية. وبعد موته صارت إلى هيرودس، رئيس الربع.  وكانت في القسم الشمالي من بين الثلاثة الأقسام التي قُسِّمت إليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدولة الرومانية. وكانت هذه المنطقة خصبة جدّاً وكثيرة السكان. وكان بها خليط من الأجناس أدى إلى نبرات خاصة في لغتهم كما هو واضح في الأناجيل (مرقس 14: 70 ولوقا 22: 59)، سكنها قديماً أربعة أسباط وهم: يساكر، زبولون، نفتالي، وأشير. وكان الاعتقاد أن شعب الجليل لا يمكن أن يكون منه نبيٌ (يوحنا 7: 41-52) غير أن معظم رسل المسيح كانوا من الجليل. وكان يسوع يُعرف أنَّه الجليلي (متى 26: 69) وفيها نشأ وترعرع وخدم في حدودها الشرقية عند بحر الجليل وداخل منطقتها في كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم ونايين وقانا والناصرة. وقيل عن بطرس أنه جليلي أيضا ولهجته تُظهره (متى 26: 69). أمَّا عبارة "بِقُوَّةِ الرُّوح" في الأصل اليوناني ἐν τῇ δυνάμει τοῦ πνεύματος (معناها في قوة الروح) فتشير إلى دافع من الروح الذي ناله في المعمودية؛ ويُشدِّد لوقا على مبادرة يسوع الذي ينال الروح القدس للقيام برسالته (لوقا 4: 14)، وقال عنه أشعيا النبي أنه روح الحكمة والمعرفة، وروح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب (أشعيا 11: 2). فمن ضمن أعمال الروح أنه يهب القوة (قضاة 3: 10). هذا يُظهر أن يسوع لم يعمل شيئا ليرضي نفسه كانسان بل عمل كل ما عمله إطاعة للروح القدس، روح الله. أمَّا عبارة "الرُّوح" فتشير إلى روح الله، الأقنوم الثالث في الثالوث. وقد سُمِّي روحاً لأنه مبدع الحياة، ويُدعى روح الله وروح المسيح. ونسب إليه الصفات الإلهية: كالعلم بكل شيء (1 قورنتس 2: 10)، والوجود في كل مكان (مزمور 139: 7)، والقدرة على كل شيء (لوقا 1: 35)، والأزلية (العبرانيين 9: 14). ومن ضمن أعماله أيضاً أنه يهب القوة (قضاة 3: 10)، والحكمة والفهم والمعرفة (خروج 31: 3)، ويَهب قلباً جديداً وروحاً جديداً (حزقيال 36: 26)، وهو، ويُبكت العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة (يوحنا 16: 8). ويعلم كل شيء ويُذكِّر بكل ما قيل (يوحنا 14: 26) ويُعزِّى (يوحنا 14: 16) ويَهب روح التبني (رؤية 8: 26). ويُحي المائتين بالخطايا والآثام ويُقدِّسهم ويُطهرهم، وهكذا يُؤهلهم لتمجيد الله والتمتع به إلى الأبد (رؤية 8: 2-13). أمَّا عبارة "فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها" فتشير إلى شهرته وانتشار صيته، وذلك أنَّ الجليليين الذين حضروا تبشير يوحنا المعمدان سمعوا عن يسوع في البرِّيَّة، وشاهد بعضهم ما حدث عند اعتماد يسوع وسمعوا شهادة يوحنا فنشروا الخبر بعد رجوعهم إلى الجليل.  وعلاوة على ذلك، كان يسوع يجذب جمهور الشعب إليه بتعاليمه في المجامع ومعجزاته إذ صنع يسوع بعض معجزاته في الجليل (يوحنا 2: 1-11). أمَّا عبارة "النَّاحِيَةِ" في الأصل اليوناني περιχώρου معناها كورة) فتشير إلى َكُلُّ بُقْعَةٍ تَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالقُرَى في منطقة الجليل كلها. وقد وردت هذه اللفظة نحو 34 مرة في العهد الجديد.

 

15 وكانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً.

 

تشير عبارة "كانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم" فتشير إلى دليل على أنَّ الإنجيل يستند إلى وعود العهد القديم.  والبرهان على ذلك جاء يسوع إلى المجمع ليُعلن عن تحقيق وعود العهد القديم التي وصفها النبي أشعيا"(أشعيا 58: 6). ويُعلق العلامة أوريجانوس "الرب لم يتكلَّم قديمًا فحسب في جماعة اليهود، وإنما إلى اليوم يتكلَّم في جماعتنا، ليس فقط عندنا، وإنما في الاجتماعات الأخرى في العالم أجمع". أمَّا عبارة "مَجامِعِهم" فتشير إلى مركز العبادة في أيام السبت ومدرسة لتعليم الكتاب المقدس خلال باقي أيام الأسبوع.  ويُقام المجمع في أي مدينة بها عشر عائلات يهودية على الأقل.  وكان يُدير المجمع قائد ديني ويساعده آخر. وكان رئيس المجمع كثيرا ما يدعو أي معلم زائر لقراءة الأسفار وتعليم الشعب. ومن هذا المنطلق، علم يسوع في المجامع (مرقس 1: 21) وعلى خطاه علم التلاميذ (أعمال الرسل 9: 20) وكذلك علم بولس الرسول فيما بعد (أعمال الرسل 13: 14-41). أمَّا عبارة "فيُمَجِّدونَه جَميعاً" فتشير إلى قبول الشعب تعليم يسوع ومعجزاته.  قد ظهر يسوع في مجامع اليهود كواعظ مشهور لجودة تعليمه وأسلوبه وسلطانه في التعليم.

 

16 وأَتى النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ، ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ على عادَتِه، وقامَ لِيَقرأ.

 

تشير عبارة "أَتى النَّاصِرَةَ" إلى مجيء يسوع إلى الناصرة وحده دون أن يصنع معجزة، وقد جار اليهود عليه وأرادوا قتله.  وهذا المجيء يختلف عن مجيئه الذي ورد في إنجيلي متى ومرقس، إذ قام به مع تلاميذه وصنع بعض المعجزات (متى 13: 45-58، مرقس 6: 1 -6) ولم يقم اليهود هنا على يسوع لقتله. أما عبارة "النَّاصِرَةَ" اسم عبري נְצֶרֶת (معناه القضيب) فتشير إلى مدينة في الجليل (مرقس 1: 9)، القائمة على جبل مرتفع (لوقا 4: 29)، والتي تبعد مسافة 23كم إلى الغرب من بحيرة طبريا، و138 كم إلى الشمال من القدس. ولم تكن الناصرة ذات أهمية في الأزمنة القديمة، لذلك لم يردْ لها أي ذكر في العهد القديم. وهي أول ما ذكرت في الإنجيل. وكانت حتى ذلك الحين مُحتقرة (يوحنا 1: 46). وقد ذكرها العهد الجديد 29 مرة. فقد كانت مسقط رأس يوسف ومريم (لوقا 2: 39). وفيها ظهر الملاك لمريم ليُبشِّرها بأنها ستكون أم المسيح (لوقا 1: 26). والي الناصرة عادت مريم مع خطيِّبها يوسف من مصر (متى 2: 23). وفيها نشأ يسوع وترعرع (لوقا 4: 16) وكان بسوع ينمو فيها بالحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لوقا 2: 52).  وعُرف أنه " ابن النجار" (متى 13: 55)، وكانت الناصرة تُعتبر وطنه (متى 13: 54) أي المدينة التي تقيم فيها عائلته وحيث قضى الثلاثين السنة الأولى من حياته (لوقا 3: 23). ولذلك لُقِّب "يسوع الناصري"، نسبة إليها (متى 21: 11) ولُقِّب تلاميذه أيضا بالناصريين. وكانت الناصرة بالنسبة إلى لوقا الإنجيلي المحطة الأولى ليسوع وموضع برنامجه، ولكنه ما أنَّ بدأ رسالته فيها حتى رفضه أهلها مرتين (لوقا 4: 28-31) لأنهم توقفوا عند الوجه البشري ليسوع ولم يستطيعوا أن يروا فيه حامل كلمة الملكوت والمسيح المنتظر.  وكان رفضهم إعلانا مُسبقا لما سيعمله الشعب اليهودي. أمَّا عبارة " الـمَجْمَعَ" فتشير إلى مكان اجتماع اليهود الديني، في مدن فلسطين وفي الجاليات اليهودية في ذلك الزمان. وفي المجمع كانوا يحتفلون بالسبت بقراءة الشريعة والأنبياء، تتبعها عظة، وكان يجوز لكل يهودي يُلقي الكلام، وكان رئيس المجمع يعهد هذه المُهمَّة إلى المتضلِّعين من الكتب المقدسة كما حدث مع بولس الرسول وبرنابا " وبَعدَ التِّلاوةِ لِلشَريعَةِ والأَنبِياء، أَرسَلَ إِلَيهما رُؤَساءُ المَجمعَ يَقولون: أَيُّها الأَخَوان، إِذا كانَ عِندَكما كَلامُ وَعظٍ لِلشَّعب، فقولاه " (أعمال الرسل 13: 15). أمَّا عبارة " السَّبتِ " كلمة عبرانية הַשַּׁבָּת (معناها راحة) فتشير إلى اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح، وذلك تذكاراً لليوم السابع من الخليقة " بارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه، لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا " (التكوين 2: 3). ولم يُجرد المسيح يوم السبت من قيمته كيوم للعبادة، فقد ذهب دوماً إلى المجامع للصلاة في يوم السبت، ولكنه كان يعمل المعجزات في يوم السبت، لأنه رب السبت (مرقس 2: 28). وكان يريد أن يكون يوم السبت يوم خدمة وعمل الرحمة. وتبعاً لذلك قدَّس المسيحيون الأولون يوم السبت، ولكن اليوم الأول من الأسبوع أي (الأحد) حلّ تدريجياً محل اليوم السابع، حيث كان المسيحيون الأولون يجتمعون فيه للصلاة، إذ جعلت قيامة ربنا قيمة خاصة ليوم الأحد، اليوم الأول من الأسبوع. أمَّا عبارة " على عادَتِه " فتشير إلى إلقاء الضوءٍ على حياة يسوع الخاصة السابقة، إذ كان يسوع مُعتاد من صغره أن يحضر المجمع للعبادة والتعليم، فكان مواظباً على واجباته الدينية من تلاوة علنية للنصوص الشريعة أو الأنبياء، تليها العظة والترنيم بالمزامير. ويُعتبر يسوع قدوة لنا في حضور الاحتفالات الدينية كل أسبوع. فهل قداس الأحد هو جزء من حياتنا؟ أمَّا عبارة "قامَ لِيَقرأ " فتشير إلى العادة المُتبعة أن يقف المعلم أثناء قراءة الأسفار من الكتاب المقدس احتراما للكتاب المقدّس الذي هو كلمة الربّ. وتكرِّم أنّ الكنيسة الكتب المقدّسة دائماً كما كانت تُكرّم جسد الربّ (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 103).  ولهذا السبب نحن نقرأ من الكتب المقدّسة كلّما اجتمعنا في الكنيسة للاحتفال بالذبيحة الإلهيّة. وعندما نستمع إلى قراءة وشرح هذه القراءات هل نسأل نفوسنا، "ماذا يقول الربّ لنا؟ وهل نقرأ كلّ يوم الكتاب المقدس كي نغذِّي فكرنا ونرتقي بها أكثر من أيّ شيء آخر؟ يعلق القدّيس غريغوريوس "إنّ الكتاب المقدّس هو رسالة الحبّ الّتي يرسلها الربّ إلى شعبه نستطيع فيها فهم قلب الربّ".  لذلك يقول العلامة ايرونيموس "أمَّا الجهل بالكتاب المقدّس فهو جهل بالمسيح".

 

17 فدُفِعَ إِلَيه سِفْرُ النَّبِيِّ أَشَعْيا، فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه

 

تشير عبارة "فدُفِعَ إِلَيه" إلى العادة الجارية أن يُعهد رئيس المجمع مُهمَّة الشرح والتفسير إلى الذين أكبّوا على دراسة الكتاب المقدس وتضلعوا منه (أعمال الرسل 13: 15). أمَّا عبارة "سِفْرُ" في الأصل اليوناني βιβλίον مشتقة من العبرية סֵפֶר (معناه دَرْج أو كتاب، جزء من كتاب التوراة) فتشير إلى كتاب يومئذٍ من الرق (أي جلد رقيق) وفي كلٍ من طرفي الرق قضيبٌ من الخشب يُلفُّ الدرج عليه كما تُـلف الخرائط اليوم. ففي وقت القراءة كان القارئ يُلفُّ من الطرف الواحد إلى أن يصل إلى الكلام المقصود قراءته في الكتاب المقدس.  ويشير أشعيا النبي إلى ذلك عندما قول "وتُطْوى السَّمَواتُ كسِفْرٍ" (أشعيا 34: 4)؛ وكان اليهود يضعون اللفة أو اللفتين في غلاف من جلد أو خشب. ويقرأ اليهود في المجمع على التوالي أيام السنة كل أسفار موسى وبعض الأنبياء (أعمال الرسل 13: 15). أمَّا عبارة "أَشَعْيا" من العبرية יְשַׁעֲיָה (ومعناها الرب يخلص) فتشير إلى النبي العظيم الذي تنبأ في يهوذا في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا-ملوك يهوذا. وكان يسكن في أورشليم وكان يعرف الهيكل والطقوس التي كانت تجري فيه تمام المعرفة. فقد اعتُبر ((النبي الإنجيلي)) بسبب تنبؤاته عن المسيح، عن ولادته من عذراء ولاهوته وآلامه وموته ودفنه وقيامته، وتُقتبس نبواته في العهد الجديد أكثر مما يقتبس أي سفر آخر في العهد القديم. أمَّا عبارة "فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه" فتشير إلى قراءة نص أشعيا (أشعيا 61: 1-2) على ما ورد في ترجمة السبعين مع جملة من أشعيا (58: 6). وكانت قراءة السبت في ذاك الوقت، فلم يخترها يسوع بل وجدها، ويبدو أنها من تدبير العناية الإلهية.  وينطلق يسوع في الناصرة من هذا النص ليشرح رسالته الخاصة.

 

 18 ((رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين

 

تشير عبارة "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ" إلى تكريس أحد الأنبياء (1ملوك 19: 16)، ويستند يسوع هنا إلى "الروح" الذي ناله عند اعتماده في نهر الأردن (متى 3: 16) وجعل يسوع من هذا النص مصدر رسالته وعمله الخلاصي.  كان روح الله على المسيح دائما وهنا أشار خاصة إلى حلول الروح القدس عليه علانية عند اعتماده إعلانا لتكريسه (لوقا 3: 22) وتأهيلا له في أنجاز المواعيد التي ذُكرت في نبوءة أشعيا. أمَّا عبارة "مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" فتشير إلى بشارة الله وقوته للخلاص (مرقس 1: 14) وهي مقتبسة من أشعيا النبي " أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ "(أشعيا 58: 6). قد أغدق يسوع خيراته على جميع البؤساء وحرَّر جميع المتألمين. وأعدَّ مخطط الله وفقا لعمل الروح القدس الذي نزل عليه. أمَّا عبارة "مَسَحَني" فتشير إلى مُسح يسوع كالملوك والأنبياء والكهنة لكن لا بالزيت بل بروح الله، ولذلك سُمِّي يسوع بالمسيح أي الممسوح. أمَّا عبارة "لِأُبَشِّرَ الفُقَراء" فتشير إلى تبليغ البشرى السارة بالخلاص الذي هم في أمس الحاجة إليه، والتحديد فقراء الروح (متى 5: 3). وذكر يسوع بركات هذه البشرى في عظة التطويبات (متى 5: 1-12).  أمَّا عبارة "الفُقَراء" فتشير إلى الذين ليس لهم إله ولا شريعة ولا أنبياء ولا عدل ولا أية فضيلة، قد أُرسل يسوع لهذا السبب من أجل الفقراء. أمَّا عبارة "لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم"؟ فتُشير في أول الأمر إلى نبوءة أشعيا برجوع اليهود الأسرى من بابل إلى وطنهم في اليهودية، وهنا تشير العبارة إلى جمهور البؤساء التُعساء الذين أوقعهم الشيطان في حبائله فأطلقهم يسوع من عبودية الشيطان والخطيئة يوحنا 8: 34-36). أمَّا عبارة "ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم" فتشير إلى شفاء المسيح البصر للعميان (متى 11:5 و9: 11) من ناحية، والى شفاء البصيرة كما جاء في تعليم بولس الرسول "الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهم إِلهُ هذِه الدُنْيا" (2 قورنتس 4: 4). وأمَّا عبارة "وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" في الأصل اليوناني ἀποστεῖλαι τεθραυσμένους ἐν ἀφέσει (معناها أرسل المنسحقين في الحريَّة) فتشير إلى إنقاذ من شر تأثير الخطيئة الذين هم تحت ثقل العبودية كما جاء في تعليم بولس الرسول" إِنَّ المسيحَ قد حَرَّرَنا تَحْريرًا. فاثبُتوا إِذًا ولا تَدَعوا أَحَدًا يَعودُ بِكُم إِلى نِيرِ العُبودِيَّة" (غلاطية 5: 1).  ومن هذا المنطلق فان إنجيل لوقا هو إنجيل الرحمة أنه إنجيل اجتماعي يطلب بمجتمع أكثر عدالة وسعادة.

 

19 وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ.

 

تشير عبارة "أُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ " إلى سنة اليوبيل المنصوص عنها في الشريعة والتي تّتكرر كل خمسين سنة (أحبار 25: 10-13) حيث كان يتم ُّفيها تحرير العبيد وتحرير الأرض، وهذا رمز لما سيُقِّدمه المسيح بصليبه للبشرية.  فالأعمال التي يذكرها أشعيا في المسيح كلها آيات تدلُّ على قدوم المسيح، وصُلبه نيابة عنَّا، لأن بصلبِه قبِلَنا الله الآب أذ كنَّا بعيدين عنه، كما ورد: " وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين" (يوحنا 12: 32). وفي هذه السَنة المقبولة أَظهر فيها المسيح مجده بمعجزات باهرة، وقبِلْنا بفرح وابتهاج نعمة الخلاص والفداء على حد قول بولس الرسول "فها هُوَذا الآنَ وَقتُ القَبولِ الحَسَن، وها هُوَذا الآنَ يَومُ الخَلاص" (2 قورنتس 6: 2). شبَّه المسيح بركات ملكوته بالبركات التي تمتَّع اليهود بها في سنة يوبيل الخمسين التي تُنادي بان كل يهودي أُستعبد لدَين أو غيره يُحرَّر (الأحبار 25: 8-16) إذ وهب يسوع للناس الحرية الروحية ليُنقذهم من جرم الخطيئة وعقابها ويُعيد إليهم ميراث البِرّ ورضى الله ونعيم الفردوس.  والمسيح أتخذ هذه السنة حجة في إثبات رسالته ليؤمنوا به على انه المسيح.

 

20 ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إلى الخادِمِ وجَلَسَ. وكانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه.

 

تشير عبارة "طَوَى السِّفرَ" إلى توقف لوقا الإنجيلي عند القراءة من نبوءة أشعيا هنا، ولم يُكمل عبارة "يومَ انتقام لِإِلهِنا "؛ فإنجيل لوقا هو إنجيل الرحمة، لانّ زمان بركات الله قد تمّ بمجيء يسوع في الجسد؛ أما زمان غضب الله فيسكون في المجيء الثاني للمسيح في نهاية الأزمنة. أمَّا عبارة "الخادِمِ" فتشير إلى ذلك الرجل الذي يعطي القارئ الكتاب المقدس ثم يأخذه منه بعد القراءة ليُحافظ عليه.   أمَّا عبارة " جَلَسَ" فتشير إلى العادة المُتبعة آنذاك أن يجلس المعلم أثناء التعليم والعظة، ويقف أثناء قراءة الكتاب المقدس.  وهكذا جلس يسوع كما يجلس المعلم، وبدت الجماعة يسمعون العظة كتلاميذ (متى 5: 1). يصف هنا لوقا الإنجيلي بالتفصيل تسلسل الشعائر الدينية التي تدل على مدى قداسة الكتاب المقدس وأهميته. أمَّا عبارة "كانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه" فتشير إلى الانتظار ما سيقوله يسوع، بعد كل ما سمعوا من أخباره ومعجزاته، فكانوا ينتظرون أن يكون هو المسيح المنتظر، لكنهم اغلقوا قلوبهم ولم يقبلوه، ربما لأنه ابن نجار.  ويُعلق العلامة أوريجانوس "في اجتماعاتنا يمكن أن تشخص عيوننا إلى المخلِّص، توجَّه نظرات أكثر عمقًا، فتتأمَّل في ابن الله الوحيد، الحكمة والحق... فإن النظر إليه يجعل نوره ينعكس فتصير وجوهنا أكثر ضياء".

 

21 فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: ((اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم)).

 

تشير عبارة "اليوم" إلى "آنية" الخلاص التي مرارا ما لفت لوقا إنجيلي الانتباه إليها (لوقا 2: 11 و3: 12و 5: 26و 13: 32 و19: 9 و23: 43)، وهو يوم الخلاص الحاضر بحضور يسوع (لوقا 2: 11) كما أعلنه النبي أشعيا. أمَّا عبارة "تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم " فتشير إلى آية أشعيا التي تحققت في يسوع أمام الناس ورسالته التي أعلنها على الناس وشخصيته التي كشف عنها للناس. إنها أول تبشير يسوع في مجمع الناصرة حيث يعلن يسوع أنّه هو المقصود في تلك الآيات! انه يُتمِّم أعمال الله المذكورة في نبوءة أشعيا وان النبوءات عن المسيح تَكمل به وحده. ويصف يسوع مجيئه بانه يوم عهد نعمة الذي أنبأ به النبي أشعيا.  وهي آية نعمة وحياة، وآية حرية وخلاص. لقد مضى على نص أشعيا مئات السنين، واليوم بالذات يناشدنا الرب ويستجوبنا ليختبر مدى استجابتنا لهذه الآيات. فقراءة الكتاب المقدس وسيلة أكيدة تُوحِّدنا بفكرة يسوع. فهل نحن نطبِّق كلمة الله في وقتنا الحاضر على حياتنا؟

 

 

ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

 بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21) نستنتج انه يتمحور حول قوة الروح القدس في بدء حياة يسوع العلنية في مجمع الناصرة، وهو في الثلاثين من عمره إذ اخذ يبشر في المجمع (لوقا 4: 15). وهنا نبحث عن عمل الروح القدس في حياة يسوع ورسالته. وموقفنا من رسالة يسوع.

 

أولا: عمل الروح القدس في حياة يسوع

 

1. تنصيب الروح القدس يسوع مسيحا في عماده

 

"عادَ يسوعُ إلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح، فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها. (لوقا 4: 14).  عاد يسوع من نهر الأردن بعد أن اعتمد من يوحنا. وفي الواقع، كان يوحنا المعمدان، في انتظار المسيح، ينتظر، الروح في كمال قدرته كما نستنتج من كلامه "أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (متى 3: 11). ولا ينقض يسوع هذا الإعلان، بل ينجزه في صورة تُذهل يوحنا. فهو يقبل العماد منه، وينزل عليه الروح القدس.

 

يصبح العماد في الماء بفعل يسوع العماد بالروح. ففي هذا الإنسان يسوع الذي يختلط بصفوف الخطأة، يعلن الروح المسيح الموعود به "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت" (لوقا 3: 22)، ويُعلنه يوحنا المعمدان أيضا أنه الحمل المُقدَّم كذبيحة من أجل خطيئة العالم "هوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم"(يوحنا 1: 29)، وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" (مرقس 1: 11).

 

يكشف الروح عنه يسوع بطريقته الخاصة السرِّية، دون أن يظهر عمله، فالابن يعمل ويقبل العماد، والآب يخاطب الابن، ولكنّ الروح لا يتكلم ولا يعمل. ومع ذلك، فلا بدَّ من حضوره لكي يتم َّالحوار بين الآب والابن. فالروح يعمل على تحقيق اللقاء، فهو يُبلّغ يسوع كلمة الرضا والحب، التي تأتيه من الآب، ويُقيمه في موقفه كابن. ويُصعِد الروح نحو الآب تكريس المسيح، باكورة ذبيحة الابن الحبيب.

 

إن حضور الروح في يسوع، الذي ظهر فقط ساعة العماد، يُروي حفل تنصيبه مسيّحاً وفيه يقدّم الله الآب ابنه، "العبد" الذي كان محتفظاً به منذ الأزل، كما كانت تنبئ بذلك العبارات النبوية المستهلّة بلفظ "هُوَذا عَبدِيَ" (أشعيا 42: 1، 52: 13). ويمنح الآب روحه القدوس ليسوع ليعلن يسوع بحياته وكلامه وأفعاله أنّ الله محبّة وأنّه أبُ البشر، نبعُ كلّ أبوّةٍ في السماء وعلى الأرض.

 

حدَّد يسوع رسالته انطلاقا من نبوءة أشعيا "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" (لوقا 4: 18).  جعل يسوع نفسه في عداد الأنبياء وعلى مثالهم حلَّ عليه روح الرب فنقل رسالة الخلاص. ونال الروح على مثال النبي، لإعلان البشرى للفقراء (لوقا 7: 22) وتوفير الحرية والنور للبؤساء.  لكنه ليس نبيا كسائر الأنبياء، فلقد نال مسحة الروح القدس كاملة (لوقا 3: 22 و4:1، 14)، لأنه هو موضوع رسالته.  وبه يُفتتح زمن النعمة (لوقا 4: 19 و22).  ويُعلق القديس كيرلس الكير "نزل الروح القدس ليمسح يسوع، لا لسبب إلا لأن المسيح وطَّد نفسه على إسداء نعمة الخلاص لنا وتقديم الروح القدس لنا، فإننا كنا خالين من نعمة الروح القدس على حد قول الوحي: " فقالَ الرَّبّ: لا تَثُبتُ رُوحي في الإِنسانِ لِلأَبَد " (التكوين 3: 6).   

 

تبدو صورة يسوع عند إنجيل لوقا، من هذا المنطلق، بصفة خاصة صورة المخلص الرحيم (لوقا 3: 6، 9: 38، 42) الذي يُبشِّر الفقراء (لوقا 4: 18) ويهتم بالخطأة (لوقا 4: 15) وبالمحرومين في الأرض.  وهو يتكلم على شخص المسيح كقلب البشرى السارة (لوقا 4: 18) وإتمام الكتب المقدسة (لوقا 4: 21) في حين مرقس يرى قلب الإنجيل هو ملكوت الله (مرقس 1: 14-15).

 

اليوم، يقول يسوع، " تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم" (لوقا 4: 21). إن النبوءة الّتي تتمّ الآن، هي برنامج الربّ يسوع. لم يختاره هو بل قد أعدّه الآب له. إنّه مبعوث الآب. فيه يفتقد الآب البشر. ويعمل الربّ يسوع بالكلمة وبالأعمال، ومن التعليم والقدرة ينبثق زمن النعمة للفقراء وللسجناء والمظلومين. إنّ العطيّة الكبرى الّتي حملها الربّ يسوع هي الحرّية: الحرّية من العمى الجسدي والروحي، والحرّية من البؤس ومن العبوديّة، والحرّية من الخطيئة. تستمرّ "سنة نعمة الربّ" ما بقي يسوع على الأرض. إنّ المسيح الربّ، في المقام الأوّل، هو مانح الخلاص، وليس القاضي الّذي يدين. إنّه مركز التاريخ.

 

2. قيادة الروح القدس ليسوع في رسالته

 

يُظهر يسوع في كل مسلكه عمل الروح فيه "عادَ يسوعُ إلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح "(لوقا 4: 14). وفي الروح، يتصل يسوع بالآب " في تِلكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس فقال: ((أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماءِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذِه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وَكَشَفْتَها لِلصِّغار. نَعَم، يا أَبَتِ، هذا ما كانَ رِضاكَ" (لوقا 10: 21). وفي الروح يواجه إبليس "سارَ الرُّوحُ بِيَسوعَ إلى البَرِّيَّةِ لِيُجَرِّبَه إِبليس" (متى 4: 1)، ويُحرِّر ضحاياه من قبضته  كما اكَّد يسوع "أَمَّا إِذا كُنتُ أَنا بِروحِ اللهِ أَطرُدُ الشَّياطين، فقد وافاكُم مَلكوتُ الله" (لوقا 12: 28)، ويُبشّر الفقراء، معلناً لهم كلمة الله "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء"(لوقا 4: 18)، وفي الروح يقف يسوع بجانب الخطأة والمأسورين، العميان والمظلومين "وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" ( لوقا 4: 18)، وينبض قلبه حبًّا وشفقةً على الإنسان المجروح من ظروف الحياة، من أنانيّة الناس، من خطيئته الشخصيّة. لا يهمَّه سبب الجرح والتشويه، فالحبّ يأتي ليداوي لا ليُدين، والحبّ يُريد الشفاء فيفتح مستقبلاً لمن يشكو واقعه ويتحسّر على ماضيه. ألم يقل أنه: “لم يأتِ يسوع للأصحّاء بل للمرضى والخاطئين" (لوقا 5: 31)، ويشفق قلبه على الجموع البائسة والمشتّتة كغنمٍ لا راعي لها (متى 9: 36)، ولا يهدأ له بال إلّا إذا وجد الخروف الضال فيحَمَله على كَتِفَيهِ فَرِحاً" (لوقا 15: 4) كما تحمل الأم رضيعها وتحميه.

 

لِما كان على يسوع أن يتمِّم القصد الإلهي، أراد أن يشابه إخوته في كل شيء، لكي يختبر شقاء هؤلاء الذين جاء ليُنقذهم، لذا اتّسمت كل تصرفاته بالرحمة الإلهية، ولقد اهتم لوقا الإنجيلي اهتماماً خاصاً بتوضيح هذا الجانب حيث أن الفقراء هم المُفضَّلون إلى قلب يسوع (لوقا 4: 18، 7: 22)، ويجد الخطأة فيه "صديقاً" لهم (لوقا 7: 34)، وهو، من ناحيته، لا يخشى معاشرتهم (لوقا 5: 27 و30، 15: 1-2، 19: 17).

 

هذه الرحمة التي يُبديها يسوع بصفة عامة نحو الجموع (متى 9: 36، 14: 14، 5 9: 32)، تتميز في إنجيله بطابعها الشخصي. فنراه تارة يصنع رحمة نحو أرملة نائين الثكلى في "ابنها الوحيد" (لوقا 7: 13)، وتارة نحو هذا الأب المفجوع في ابنه (لوقا 8: 42، 9: 38 و42). وأخيراً، يعامل يسوع المرأة والغريب معاملة تتميز بالرحمة. ويصل الطابع الشامل للرحمة إلى كماله " وكُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" (لوقا 3: 6).

 

لا يقود الروح القدس سيدنا يسوع المسيح في أعماله فقط إنما أيضا في كلامه "يتكلّم بكلام الله" (يوحنّا 3، 34)، فيسوع ليس مجرّد نبيّ. بصفته ابن الربّ، فهو كلمة الربّ في شخصه. موجود قبل الخلق، إنّه الكلمة الخالقة، الّتي بها قد خلق كلّ شيء، وهو الكلمة، الّتي تشرق في ظلمات العالم كي تحمل لنا معرفة الربّ؛ هو الكلمة المتجسّدة: "لقد رأينا مجده". به وحده قد استطعنا حقيقة أن "نرى" الآب وفيه قد امتلأنا بالنعمة والحق (يوحنّا 1، 1-18). يقول يسوع ما علّمه الآب (يوحنّا 8، 28)؛ لا يتكلّم من نفسه، بل كما قد تكلّم الآب من قبله (يوحنّا 12، 49-50). وكلمته فعّالة، وهي قوّة تصنع المعجزات، من شفاء الأجساد وحتّى مغفرة الخطايا.

 

لا نرى في يسوع أي أثر لضغط قد نرجعه إلى الهام خارجي. ومن أجل إتمام أعمال الله، يبدو يسوع كما لو كان لا يحتاج إلى روح. وليس معنى ذلك أنه يستطيع أبداً الاستغناء عن الروح، كما أنه لا يستطيع أيضاً الاستغناء عن الآب، ولكن كما أن الآب كان "معه في كل حين" (يوحنا 8: 29)، فكذلك الروح لا يمكن أن يغيب عنه. لا تظهر على يسوع الظواهر التي تصحب الروح، وهذا دليل أكيد على ألوهيته، فهو لا يختبر الروح كقوة تأتيه من الخارج لتغمره، وإنما طبيعياً، هو في الروح، والروح فيه" (يوحنا 16: 14-15).

 

نستنتج مما سبق انه في معجزات يسوع التي تنقض الشر والموت، وكلمته القوية الحق، وعلاقته الحميمة مع الآب، نرى الدليل على أن روح الله مستقر عليه (أشعيا 61: 1)، وأنه في الوقت نفسه هو المسيح المُخلّص، والنبي المنتظر، "والعبد" الحبيب.  وهكذا حلول الروح عند يسوع يتميز بصفة الدوام. فانه لا يتلقّى كلمة الله، وإنما يفصح عنها في كل أقواله. ولا ينتظر توقيتاً ما ليقوم بمعجزة، بل تصدر عنه المعجزة، كما تتأتّى عنا أبسط الأعمال. وهو لا يتلقى أسرار الله، وإنما يعيش دائماً في حضرته تعالى في شفافيّة تامة. وفي الواقع، لم يحز أحد قط الروح القدس بقدر ما يمتلكه يسوع، "بغير حساب" (يوحنا 3: 34). وما من أحد أيضاً قد حاز الروح قط بالصورة التي حاز يسوع بها.

 

 

ثانيًا: موقفنا من رسالة يسوع

 

يحتاج الروح اليوم إلى بشرٍ ليحلّ عليهم ويسكن فيهم كي، مع يسوع، يحققوا هذه الآية من أشعيا: " رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ (لوقا 4: 18-19).  

 

إن الكمال الذي يتطلب المسيح من تلاميذه، وفقاً لإنجيل لوقا هو في إبداء الرحمة: "كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم" (لوقا 6: 36). وهذا هو شرط أساسي لدخول ملكوت السماوات (متى 5: 7)، يردِّده يسوع من جديد بعد هوشع النبي (متى 9: 13، 12: 7). هذه الرحمة يجب أن تجعلنا نحن، أسوة بالسامري الصالح (لوقا 10: 30-37)، قريبين من الشخص البائس الذي تجمعنا به الصُدف، ورحيماً بمن يكون قد أساء إلينا (متى 18: 23-35)، لأن الله قد منحنا رحمته (متى 18: 32-33). وهكذا سوف ندان بقدر الرحمة التي نكون أظهرناها لشخص يسوع ذاته، ولو على غير علم منا (متى 25: 31 -46). ويوصي بولس الرسول كل مسيحي أن يُبدي المحبة و"العطف" (فيلبي 2: 1)، وأن يكون قلبه عامراً بالشفقة والرحمة (أفسس 4: 32، 1 بطرس 3: 8). فلا يجوز له أن يغلق أحشاءه لأخ ٍ يقع في عوز، لأن محبة الله لا تستقر إلا فيمن يمارسون الرحمة تجاه الغير (1 يوحنا 3: 17).

 

وقبل أن يصعد يسوع إلى السماء كلّف الكنيسة بنشر تعاليمه للبشر. والكنيسة، بمساعدة الروح القدس، لم تفشل أبداً في رسالتها. ونحن، حينما نجتمع للصلاة والاحتفال بالإفخارستيا، ماذا نفعل سوى أن ننشر كلمة السيّد المسيح كي تنيرنا، وكي تعزّينا وتخلّصنا؟

 

 

الخلاصة

 

يبدأ إنجيل لوقا بمقدَّمة تكشف عن غاية السفر كله ألا وهو الإعلان عن شخص المسيح بكونه صديق البشريّة الحقيقي.  لكن لوقا يُخبرنا انه كان حريصًا أن يتتبع كل الأحداث والقصص من البداية بتدقيق حتى ينقل لنا التعليم السليم عن ربِّنا ومخلصنا يسوع المسيح خاليًا من أي انحراف. أن المصادر التي استمدَّ منها لوقا الإنجيلي هي إلا سجلات صحيحة لأجزاء من التقليد التسليم أو التقليد الرسولي كما سلمه رسل المسيح وتلاميذه للكنيسة الأولى، وهي لا تختلف مع ما كتبه في إنجيله في شيء إنما هي سجلات، غير كاملة، كانت مدوَّنة لبعض أعمال المسيح وتعاليمه ولكن لوقا تتبع هذه الأحداث والأقوال وتفحصها بدقة متتبعا كل شيء من أصوله، كما رجع لشهود العِيانٍ أنفسهم الذين عاشوها وكانوا في قلبها، شاهدوها بعيونهم وسمعوها بآذانهم ولمسوها بأيديهم مثل مريم العذراء وبقية الرسل والتلاميذ.

 

فيما يتعلق برسالة يسوع الأولى في الجليل فنرى من خلال نبوءة أشعيا أن الآب يهب الابن كلّ شيء، ويمنحه روحه وحياته ومحبّته، والابن يقدم للآب كلّ ذاته، فيبذل نفسه في سبيل إخوته المحتاجين والمتألّمين. إنّ حياة الإنسان هي غاية الله ومشيئته، وحياة الله هي نورٌ يشعّ في ظلمة البشر، والظلمة لا تدركه، وهي روح حياة تخترق النفوس المائتة والأجساد الهزيلة، فينعشها ويجدّدها. إنّ روح الله الآن يسكن يسوع، وفيه وبه يداوي كلّ قلب جريح، ويشفي كلّ إنسان يتطلّع للنور والفرح والسلام.

 

 

دعاء

 

"أيّها الآب السماوي، يا من في ابنك قد اخترتنا وأحببتنا قبل خلق العالم، أنرْنا بروحك، كي يكون روح الربّ عليّنا كما كان على يسوع الناصري، فنتمكن من أن نتمّم مثله ما جاء في إنجيل اليوم فنتذوّق السعادة التي تنتظرنا، بصفتنا أبناءً وورثة للملكوت، بقبولنا سرّ محبّتك. آمين".