موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

ربّي! أين تسكن؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
وأشار بإصبعه عليه وقال: هوذا حمل الله!

وأشار بإصبعه عليه وقال: هوذا حمل الله!

 

الأحد الثاني من السنة (الإنجيل يو 1: 35-42)

 

كلُّ علامات وإشارات ورموز عيد الميلاد قد اختفت الآن من بيوتنا، وأُضيف عليها: من حياتنا وعدنا إلى الحياة اليومية، بهمومها ومتطلَّباتِها وأعبائها، ونسينا كل الإفراح في مجتمعنا وخاصة في عائلاتنا، حيث أمضينا أياما لا حزن فيها ولا هموم. كان سببها أن الطفل يسوع، إبنَ الله ما نزل من السّماء وسكن بيننا، ليخبرنا فقط عن وجود السّماء، بل ليذكِّرنا بحبِّه لنا ويغيّر شعورنا، فَنَسْلُك حياة لائقة. جاء ليجمع من جديد، ما كان سابقا مجموعاً وانفصل: أي السماء والأرض. ونحن نقدر الآن أن نساعد في عمل الله هذا.

 

مُقارنة بجيلين بالأكثر سابقين لنا (نحن كبار السنّ)، أي جيل أهلنا وأجدادنا، نستغرب اليوم من استخفاف النّاس بالإيمان وإلزاماته، ابتداءً بحضور القداس يوم الأحاد والأعياد، الذي كان خطّاً أحمرا، مثلما تعودنا أن نقول. فالذي ما كان يذهب إلى القداس يوم الأحد أو العيد، كان جارُه، قبل الكاهن، يوبّخه. نعم لقد كان شواذا مثلا أنْ فرداً من العائلة لم يذهب إلى القداس، وأما اليوم، فما كان شواذاً قد أصبح القاعدة، والقاعدة أصبحت شواذا. أي أن الأكثرية اليوم لا يذهبون إلى الكنيسة والشواذ أن واحدا يفطن فِطْنَةً أن اليوم هو الأحد ويذهب إلى القداس. فماذا جرى لنا بعد جيل أو جيلين؟ الإحصائيّات الدّينية هي غير مشجِّعة، وعلى رأسها اللامبالاة أي عدم الإهتمام بالتّربية والثّقافة الدّينية، ولا سيّما ممارسة الدّين، ممّا يجعل الواحد يفتكر، كما نسمع من أفواه الكثيرين، أنَّ كلّ الدّيانات واحد. تُرى سؤال بسيط: هل كلّ الأطعمة واحد؟ هل كلّ الملابس واحد؟ هل كلّ البيوت واحد... أليس المهم أن نتثقّف ونعرف لما هذا الإختلاف في الدّيانات، فهي بالتالي وإن كان هدفُها واحد، أي عبادة الله، فهي ليست في قاعدتها واحد. فهل نسينا مَثل البيت المبني على الصخر أو على الرّمل؟ لماذا الإنشقاق؟ لماذا تفرسخت الكنيسة البروتستنطية إلى ما يُقارب الثلاثمئة كنيسة مُتباعدة عن بعضها البعض بل ومتخاصمة ؟ كم نسمع الإستهزاء: كنيسة تعيّد ميلاد المسيح، وأخرى تقيمه من الموت! دون أن يعرفوا أو يسألوا عن السبب. من يُشغل باله اليوم للتّعرُّف على تاريخ الدّيانة بل والكنائس؟ فأقول بصراحة: من لا يعرف شيئا عن هذه الأسباب، لا يحق له الإنتقاد.

 

إنجيل اليوم يُعطينا فكرة عن نشأة ونموّ الإيمان في بداية الكنيسة. فكما نفهم، إنّ نشرُه  ما كان بالهيّن بين النّاس. وهذا النص لا يعطي وصفة ناجعة، لنشره بسهولة ونجاح، كما ولا يعطينا أيَّ حُلولٍ جاهزة، ليُزيل العقبات عن طريق نُمُوِّه. هذا والإيمان بالذّات لا يدخل قلبا أو نفسا أو بيتا بالسيف والجهاد، كما هو هدف بعض الدّيانات، بل بالهدؤ والإقتناع. وخاصة أنه قبل كلِّ شيء عطيّة وهديّة من الله: أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم، لكي يُعطيكم الآب كلَّ ما طلبتم باسمي" (يو 15: 16).

 

بداية تأسيس الكنيسة كانت كبداية تأسيس مشروع للمستقبل. المشروع الناجح يحتاج إلى عمّال ومعاونين. ونحن نعرف، أنَّ مَنْ يُؤسس شركةً أو مشروعاً، فهو يحتاج طبعاً إلى عُمّال، يثق فيهم، ليسلِّمهم مسؤولية إدارة المشروع معه. فها يوحنا يخبرنا عن اختيار يسوع لأوّل عُمّال لمشروعه، وهو تأسيس وإدارة الكنيسة.

 

يوحنا كان لا يزال يقيم على ظفاف نهر الأردن، يعظ بالتوبة، للقادمين إليه من كل حدب وصوب، كلُّهم كانوا منتظرين حلول ملكوت الله بمجيء المخلِّص، الّذي دلّت عليه علامات كثيرة أنّه قريب. فَمَثَلُ يوحنا وكلماتُه وتقشُّفُه، الّذي ما كان يُمارسه إلاّ المرسلون من الله، أقنع قسما كبيرا من المستمعين، فانضمّوا إليه. هذا المثل يقول لنا، إنّ الإيمان يحتاج إلى أرضية. فهو، أي الإيمان، وإن لا يلد مع الإنسان، إلاّ أنّه مُمكنٌ الحصول عليه، إذا لقى شرطين مُهمّين أمامه، وهما: البيئة التي فيها يولد الإنسان ويترعرع: فأي دورٍ يلعب الإيمان في العائلة التي يولد فيها، ثم التربية الدينية المُعمَّقة في المدرسة وبالتالي في حقل الرّعية الأوسع. فإن كان مِنْ تكامل بين هذه الأجواء، نستطيع أن نقول، إنّ الإيمان يجد جوّاً مناسباً، ليحمل ثماره في حياة صاحبه. لكن وبالرّغم من هذه الأجواء، نقول إنه لا يزال ينقص نقطة أو خطوة، يرتكز عليها. هذه النقطة هي المخالطة مع المؤمنين. مثلما سمعنا في إنجيل اليوم، يوحنا كان واقفا على شاطئ نهر الأردن، مُنشغلاً بالحديث والتبشير، وإذا بيسوع يمرّ من هناك، فقطع حديثه مع مستمعيه، وأشار بإصبعه عليه وقال: هوذا حمل الله! تنافس الفنّانون في كل العصور، بتقديم هذا المشهد، في فنونهم لكن أشهرَهُم هو فنّان هولنديّ مشهور، خلّد هذا المشهد، بحيث رسم يوحنا كشخص اعتيادي لكن له إصبع خارق الحجم. إصبعا كبيراً، مشيراً به إلى ذاك الحمل. فلمّا سمع بعضهم هذه الكلمات غيّر الإثنان منهم اتّجاههم ولحقا به بدافع الفضولية. فيمكن إطلاق العنان للخيال: يمكن أن نقول أن يسوع كان قد اختارهما، ليكونا من أول تلاميذه. فلمّا أحسّ هذا وقع أقدامِهم خلفه، أدار بوجهه إليهما وسألهما: ماذا تريدان؟ فقالا: ربّي أين تسكن؟ فأجاب: تعالا وانظرا! وهكذا حلّا عليه ضيوفا، كي يخرجا آخر النهار، بغير ما كانا قبلا، أي قد اكتشفا من هو يسوع: هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6) فأصبحا من أول تلاميذه. وفورا، قاما بالتبشير، وأغْرَيا آخرين أن يرافقوهم في الصّباح الباكر، ليشاهدوا هذا المدعوّ حملَ الله. هذا السؤال يوجّهه يسوع إلى كلِّ واحد منا، ليتّخذ هدفا لحياته. نحن نفتّشُ دوما عن هدفٍ لحياتنا، فهل نضعها في خدمة الله والمجتمع الذي نعيش فيه؟ لماذا عندما نكتشفه ونتبعه، لا نُشير إليه بإصبعِنا، ونريه للنّاس: هوذا حمل الله! تعالوا وانظروا، كيف يعيش يسوع معنا ولنا وبيننا!

 

قال القديس كليمنس الإسكندري عندما سُؤِل:- ماذا تعمل لتجعل وثنيّاً مسيحيّاً، فأجاب: سأدعوه ليسكن معي في بيتي سنة كاملة. مَن مِنا يريد أن يعزمَ غريباً ليسكن معه سنة كاملة؟ يمكن أن القديس كليمنس أراد أن يُقلِّد يسوع. فكما سمعنا، يوحنا كان عمّد يسوع ويعرفه، ولكن يسوع كان لم يُعلن عن نفسه بعد. هو بينكم وأنتم لا تعرفوه

 

هكذا بدأت دعوة العمال مع يسوع. فهو كربِّ عمل يُوظِّف أول عماله. من أوّل العمّال، الّذين وقع اختياره عليهم، شخصية مرموقة منذ البداية، هو بطرس، الّذي غيّر له اسمه فوراً: أنت سمعان بن يونا! من اليوم ستُدعى كيفا، أي الصخر. إن بُنِي بيت على الصّخر فلن تهزُّه الريح. لكلِّ إسمٍ مذكورٍ في التوراة،  معناه بل ووظيفته. أنت كيفا أي الصّخر. وبعد سنوات سيضيف عليه المهمّة الرّسميّة، أي قيادة الكنيسة من بعده: عليك سأبني كنيستي، وأبوابُ الجحيم لن تقوى عليها. من اليوم الأول عنى يسوع أنّه سيؤسِّسُ كنيسته أي مُلكه على الأرض، الذي لن يكون له انقضاء، وسَيُقيمُ عليها رئيسا بشريّاً، وأمّا هو فسيبقى رئيسَها الرّوحي. وهذا هو سبب قوّتُها وديمومتِها. أبناؤُها لن يكونوا من شعب واحدٍ فقط، بل من كل الشّعوب، كما نُصلّ قي قانون الإيمان "الجامعة الرّسوليّة". فأنْ يضعَها في يدٍ واحده، فهذا يعني، منعُ تفككها عن أصلها، سواء في تعليمها أو لغتها. فمثلا كانت لغة الكنيسة الرّسمية حتى نصف القرن العشرين هي اللآتينية، فما كان من صعوبة لأيِّ كاهن أن يحتفل بقداسه باللغة اللاتينية، أينما حلّ، لأن الكتب كانت متوفرة حتى في أصغر وأبعد بيت عبادة في العالم. لكن منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، فقد انتهى عهد اللغة اللاتينية، وحلّت محلّها لغة الشعوب. فهذه النقطة لها حسناتها وسيآتُها، كما يقول المثل. لكن البرواز أيّما كان شكله فهو لا يؤثِّر على الصّورة بداخلَه.

 

إنّ قُوَّة الكنيسة في رئاستها وتنظيمها المُوحّد الواضح. وياستطاعتها أن تلعب دور القيادة في تعاليم ثابتة مُوحّدّة، تنير الطريق لعموم أتباعها على وجه الأرض، وهذا يمنع التّفكُّك ونشؤ أحزاب داخلية، وتأويل التعليم على مِزاجها، وذلك لأن رأسها واحد وتعليمها واحد للجميع. وهذا ما جعلها تبقى حيّة مع كلٍّ جيل. فلا مؤسّسة مثلُها دامت لأكثر من ألفي سنة بتنظيمها ونشاطها وتأثيرها على العالم. وستبقى: لأنّه معها، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

 

لقاء يسوع مع التلاميذ، يخلق فينا استفساراً عن كيفيّة خلق الإيمان. فهناك يوحنا، الّذي يُشير على يسوع، ويشرح للسامعين من هو هذا الشخص، أُنظروا! هوذا حملُ الله. فلأن هذا الكلام من مُبشِّرٍ عارفٍ ومقتنعٍ بما يقول، فلَمْ يتوانى السامعون من التّصديق والإلتحاق بجوقة المؤمنين. فلا بدَّ من وجود الشّرْطَيْن: الكلمة المُؤسَّسَة على الحقيقة، والإستعداد لقبول الحقيقة. الإيمان، له طريقته الثّابتة والسّارية المفعول، مع كل مؤمن: وهي قبل كل شيء السّماع عنه من مبشِّرٍ مُقتنع، وهنا كان يوحنا. من الجهة الثّانية، يجب أن تتوفر في المستمع أُذَانٌ صاغية، تُحبُّ الإستطلاعَ واكتشاف الجديد المفيد، كما بيّنه سؤال هذين التّلميذين. هو حديثهما مع يسوع، الذي قادهما إلى الإيمان به، ودفعهما كما دفع المبشرين طيلة الألفي سنة أن يبشروا، كما قال يعقوب: "الّذي كان منذ البدء، الّذي سمعناه، الّذي رأيناه يعيوننا، الّذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحق، نخبركم به" (1 يو 1:1). وهذا تأكيد الإيمان "الكلمة صار جسدا وسكن بيننا" (يو 1: 14).

 

من لا يتذكَّرُ بهذا الصدد، ما قاله بولس عن مُهمَّة التبشير والمبشِّرين؟ "كيف يَدْعُون بمن لم يؤمنوا به، وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به، وكيف يسمعون بلا كارز، وكيف يكرزون إن لم يُرسلوا" (روم 10: 14). بالتالي يتبيّن لنا دور التربية. فأن يلد الإنسان في عائلة مؤمنة، فهذا لا يعني أنه يرث الإيمان وراثة. بل على الإيمان، كي يلد ويتأصّل في القلب ويظهر في الحياية اليومية، بحاجة إلى دعم وحماية المجتمع حوله، وبدون المجتمع يبقى إيمانا علميّاً فقط، لا فائدة منه للحياة. أما قال يعقوب الرّسول: الإيمان بدون الإعمال مائت" (يعقوب 2: 14). الإيمان الحي يُحيي وقد يُعدي بالمعنى الإيجابي، لا كعدوى الكورونا في السنة الماضية، التي ما خلّفت وراها إلاّ الخوف والهلع، إلى جانب الدّمار على جميع الحقول الإجتماعية والثقافية والصّناعية والمالية. بينما الإيمان إذا ما دخل بهذه القوّة وبهذا الحقول المختلفة، فبزسسعه أن غيّرها كلَّها إلى الأحسن، إذ كلمة الله لا ترجع فارغة، كما المطر يُحيي الأرض من الدّاخل لتُزهِرَ الطبيعة وتعطي الزرع الّذي نرميه فيها، ثمرا أكيدا. أنا الكرمة وأنتم الأغصان ، إنْ ثبتُّم فيَّ وأنا فيكم، تأتون بثمرٍ كثيرة (يو 15: 4).

 

في مثال الرسل نجد طريق الإيمان مرسوما لنا كيف يصل الإنسان إليه وكيف ينمّيه إذ هو بحاجة للتجديد اليومي، حسب متطلبات الحياة، وبماذا يُلزِم، إذ الإيمان أمانة يجب الحفاظ عليها، لكن لا يجوز تغطيتها بمكيال بل يجب أن ينير حوالينا، مثلما أنار حول أول رسولين زارا يسوع وما طلعا من عنده حتى جذبا غيرهم لإتباعِه. آمين.