موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

حواء ومريم بين صفحات سفر التكوين والإنجيل اللوُقاويّ

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
حواء ومريم بين صفحات سفر التكوين والإنجيل اللوُقاويّ

حواء ومريم بين صفحات سفر التكوين والإنجيل اللوُقاويّ

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (تك 3: 9- 20؛ لو 3: 26- 38)

 

المُقدّمة

 

نختتم السنة المكرسة لإكرام مار يوسف بيوم عيد مريم التي حُبل بها بلا دنس. إستكمالاً لقرائتنا لنصييّن متوازيين بين العهدين سنتعمق معًا في قرائتنا لصفحتين يرويان سر حرية الإنسان للدخول في حلم الله. في مقالنا هذا نحن أمام شخصيتين نسائيتين: حواء المرأة الأوّلى ومريم التي لقبها أباء الكنيسة بـ "حواء الثانية" بناء على تلقيب مار بولس ليسوع بلقب آدم الثاني (راج 1كو 15: 45). مَن هذا المرأة التي بجهلها خافت مع رجلها آدم من المغامرة والدخول في سر الله؟ ومَن هذه الأيقونة التي غيرّت مصيرنا البشري؟ حواؤ إفتتحت البشرية بحسب رغبة الرب خالقها إلا إنها لم تجازف لتحقق رغبته بالكامل بسبب إنحرافها. إلا أن مريم رمز لكل البشرية التي أعلنت هويتها قائلة: «هأنذا». ونحن في رحلة إستعدادنا لمجيء ابن مريم لبشريتنا، تفتح الليتورجيا نافذة خاصة على بانوراما تبث الرجاء في نفوسنا. لتخبرنا الجديد عن حلم الله منذ خلقه الإنسان ومسيرة حرية الإنسان في إختيار الله أم رفضه فهذا يعتمد على الكثير من العوامل التي سنتعرف عليها في مقالنا هذا. اليوم بمرافقة حواء من جانب ومريم من الجانب الآخر يمكننا أن نكتشف ميولنا للأستمرار في تحقيق حلم الله.

 

1. حواء: المرأة الأولى (تك 3: 9- 15. 20)

 

يقع الاحتفال بعيد مريم أيقونة الكنيسة التي "حُبِلَ بها بلا دنس" في السياق الليتورجي لزمن المجيء أثناء الإستعداد لمسيرة تؤدي إلى الاحتفال بسر تجسد يسوع، إبن مريم. مريم هي شخصية مركزية في زمن المجيء، خاصة في الأحداث الميلاديّة، وهي صورة للإنتظار والقبول الإلهي، لذلك لا يتم وضع هذا العيد في السنة الليتورجية كتكرار في حد ذاته، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما يحدث في هذا الوقت من العام من إستعدادات للإحتفال بسر التجسد الإلهي لإبن مريم. بينما الكنيسة تحتفل بتهيئة المؤمنين، أرادت أن تضع أمام عيوننا أيقونة كتابية خاصة وهي صورة مريم "إمرأة الإصغاء"، مثل غيرها من الشخصيات الكتابية. ترمز مريم اليوم ليس كفرد بل كجماعة، مثل الكنيسة من جانب والبشرية جمعاء من الجانب الآخر. في هذا اليوم المريميّ، أدعوكم لتركيز نظرنا على مريم لنترقب تفردّها كشخص فريد أمام سر الله وكشخصية قادرة على وصف دعوة البشرية كلها ومصيرها.

 

تدور قرأتنا الكتابية اليوم حول موضوع يمكننا أن نطلق عليه "حلم الله". حلم حققته مريم من خلال النص الإنجيلي بحسب مار لوقا (1: 26- 38)، إلا أن الكتاب المقدس خطط لهذا الحلم الإلهي منذ بدء الخليقة. في النص الكتابي بسفر التكوين مشيراً إلى خطيئة آدم وحواء (3: 9- 20). من إنطلاقنا من رسالة مار بولس إلى أهل أفسس (1: 3- 12) والتي يمكن أن تكون بمثابة مفتاح لقراءة المقطع من سفر التكوين ومقطع الإنجيل اللوُقاويّ، تمت الإشارة بوضوح إلى "خطة الله"، إلى "دعوة أصلية"، والتي لا يمكن لشائبة "الخطيئة " أن تخنق وتطفئ الرجل والمرأة لأنها خُلقا على صورة الله (تك 1: 26).

 

 

2. أيها المخلوق: أَينَ أَنْتَ؟ (تك 3: 9)

 

في نص سفر التكوين، نجد مقطعًا من الرواية الثانية للخليقة (تك 2: 4 – 3: 24) والتي ، في أعقاب تفسير بولس في الرسالة إلى أهل رومية، تمَّ إلقاء الضوء عليها أثناء سرد موضوع "الخطيئة الأوّلى" (راجع روم 5 : 12-21). ومع ذلك، في النصّ الأول بسفر التكوين 3، ما قيل ليس ليحدثنا الكاتب كثيرًا عن الخطيئة الأوّلى الّتي  كان من الممكن أن تؤثر عواقبها على البشرية جمعاء. ولكن جوهر النصّ بشكل أساسي يدور على "حلم الله في حياة أوّل زوجين" من الخلق. خاصة حلمه على الرجل والمرأة اللذين خلقهما ووضعهما أسيادًا في جنة عدن. يمكننا اليوم أن نفهم تعبيرات كاتب سفر التكوين القائل:« فنادى الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ وقالَ له: "أَينَ أَنْتَ؟"». يسأل الله: أين أنت؟ يبحث الله عن الرجل كما أراده وخلقه، بينما الرجل والمرأة، بعد أن خدعتهما الحية، إعتبروا الله مُنافسًا لهم وإختبأ بأنفسهم عنه. لقد أوجدت كلمة الله كل شيء في الخلق (راجع تك 1: 1 – 2: 4 أ) وأدركنا من خلال تعبيرات كاتب السفر أن كل شيء خُلق بشكلِ جيد والإنسان تم خلقه بشكل جيد جدًا. ونفاجأ الآن من رد فعل الإنسان الّذي يخاف من صوت الله الذي يدعوه مبرراً: «إِنِّي سَمِعتُ وَقْعَ خُطاكَ في الجَنَّة فخِفْتُ لأَنِّي عُرْيانٌ فاَختبأتُ» (تك 3: 10). إنها صورة الرجل الذي يخاف من خالقه. العُري أمام الله، والذي كان يُنظر إليه سابقًا على أنه وجود المخلوق أمام خالقه، أصبح الآن سببًا للعار. الإنسان الذي خُلق طاهر الآن يخجل من الله.

 

ففي الأساس أن هذا المقطع الكتابي من سفر التكوين، يشير للأصل، أي إلى ما يحمله قلب الإنسان: فهو أمام الله يحمل الخوف. ومع ذلك، لا يحمل النصّ شيء سلبي في هذا الحوار. ما يُروى ليس فقط "خبرة الخطيئة"، ولكن أيضًا "سر حرية" الرجل والمرأة في قبول عطية الله في حياتهم. إذا لم يكن هناك الرواية الثانية للخلق (راج تك 2: 5- 25)، فلا تنقص فكرة عصيان الله ومخالفة مشروعه الأوّل. ولكن هناك إشارة في سياق أصل العالم وأصل الحياة إلى الحرية التي تنتمي بحسب إرادة الخالق للرجل وللمرأة.

 

 

3. فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ (لو 1: 38)

 

أما السياق اللوقاوي يرغب في إن نسمع صوت الطاعة الحر من خلال بشارة الملاك جبرائيل لمريم (راج لو 1: 26- 38). الحدث الذي رواه مار لوقا، يتوافق وبدقة مع الصورة المرسومة منذ قصة الخلق. حتى مريم أمام كلام ملاك الرب وبسماعها  كلمة الله التي تصغي إليها، تبقى مُضطربة. وهنا كناحية بشرية ندرك مشاركة مريم بما شعر به الرجل والمرأة عند مواجهتهما السرّ الإلهي. يمكننا أن نقول أن مريم، مثل آدم، تشعر أيضًا بالخوف في مواجهة "عظمة حلم الله" في حياتها البسيطة. في حوار الملاك لمريم قال لها:  «لا تخافي يا مَريَم» (لو 1: 30). وكقراء ندرك إنه يظهر نفس الفعل الذي وجدناه على شفتي آدم «خُفتُ ...» (تك 3: 10). لذلك تقدم مريم نفسها قبل كل شيء كواحدة منا بطبيعتها البشرية ويمكننا القول بمخاوفها، فهي تشاركنا إمكانية الخوف مع كل رجل وامرأة.

 

ومع ذلك، فإن نتيجة الرواية اللوقاويّة لحدث البشارة في حوار الملاك مع مريم نجده يقودها فتسير في الإتجاه الـمُعاكس لما إتبعاه أول زوجين بسفر التكوين. عرفت مريم ببساطتها، كيف أن تقبل خطة الله في حياتها وجعلتها خطتها. قفزت مريم من حالة الخوف لتوجه نظرها لرؤية الله بشكل جديد. فهو الذي يدعوها للفرح ليس مُنافس لها، بل كإله يمكن أن تثق فيه وتلسم إليه حياتها. لهذا السبب، في مقطع الإنجيل، تصبح مريم صورة الكنيسة والبشرية التي تنفتح على قبول حلم الله الذي رسمه منذ بدء الخلق. وهنا تعبير "قبول حلم الله" يصير التعبير الأساسي بالصفحة اللوقاوّية.

 

يشير علينا  كاتب سفر التكوين كقراء مؤمنين اليوم، إلى التمييز بين ما دوَنَّه عن حواء إمرأة آدم قائلاً: «أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه» (3: 15). نتيجة عصيان لقول الرّبّ إختارت حواء الأولى مستقبلها. آدم وحواء إتخذوا قرار بأن يعيشوا مستقلين عن الله لذا رفضوه حينما أصغوا للحية. طبيعة الإنسان قد تجعله ينعكف على ذاته واضعًا أولوياته الشخصية قبل أن يدرك أو يبحث عن "حلم الله" لأجله وعن مصالح الآخرين وهذا هو حال الإنسان الهش. لا يتم تجسيد الحياة الإنسانية مع الآخرين بحياة منغلقة وإنانية. والعكس هو الانسان المحب، فالأنانية هي غير انسانية عكس مخطط الله. ولا توجد حياة انسانية بدون نقائص، ولكن هناك إحتياج لقوة تُغير ما صنعه الإنسان بذاته. نحن اليوم مدعوين لحياة طاهرة وبلا دنس بحسب قول بولس: "تَباركَ اللّهُ أَبو رَبِّنا يسوعَ المسيح. فقَد بارَكَنا كلَّ بَرَكَةٍ روحِيَّة ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة" (أف 1: 4).

 

 

الخلاّصة

 

الرب الإله ليستعيد جمال البشرية التي خلقها بحسب مخططه الأوّل وحلمه الإلهي قام بدعوة مريم الإنسانة البشرية إذ وجد الله فيها ما لم يجده في المرأة الأولى، حواء. إستعداد مريم للدخول في مخطط الرب بالرغم من التحديدات والخوف إلا أن ردّها الحر بالـ "نعم" لنداء الرّبّ. فتح طريق جديداً أمام البشرية. فالشر اي الدنس لم يتم خلقه من الله بل هو بسبب رفض الانسان لمخطط الله مما يؤدي الى وجود الشر. والشخصية الوحيدة التي إستطاعت أن تتحرر من أنانيتها بالرغم من العراقيل ونجحت في قول نعم وبطهارة هي مريم. قرأتنا اليوم للإصحاح الثالث من سفر التكوين، يساعدنا في إدراك الخليقة التي كانت تتميز بالإنسجام مع: الله، المرأة، آدم. إلا إنه حينما تدخلت الحية في حياة الإنسان الذي سمع لها أعلن إستقلاله برفض الله. الحية هي رمز للمكر والخبث وهو ما جاء من خارج الإنسان. وهنا الخطيئة، والعقاب، والشر ما هم إلا نتيجة لقرارات الانسان وإختياراته. خوف الإنسان وتخبئته وشعوره بالعري... نتائج لترك ورفض الله.

 

"لعنة الحية" تظهر بعد كثير من البركات الإلهية للحياة وهذه اللعنة بين المرأة والحية، بين الشر والخير، بين الأنانية والحب، رأس هذه الحية سيتم سحقها وتنهزم من المسيح بإعطاء حياته وحبه من جديد لكل البشرية. وبعيد اليوم هناك إمرأة قد فاقت الكل وسحقت رأس الحية بفولها نعم للآب مع خلال عمل الروح الذي عمل فيها بملء.

 

"أيقونة مريم أم الله" هي الأيقونة التي تَحَدَّت كل يوم، منذ وقت بشارتها بالحبل الإلهي، كثير من العقبات والتحديات ولا تختلف مع إبنها. فهي شخصية بشرية خاصة وجد الله فيها الاستعداد والمرونة الكاملين لمشروعه الخلاصي، هذا ما وضحه مار لوقا عن مريم بخلاف ما رواه كاتب سفر التكوين عن حواء.