موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٢ أغسطس / آب ٢٠٢٢

جئتُ لألقي نارًا

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد العشرون (الإنجيل لو 12: 49-53)

 

كلٌّنا نعرف يسوع رجلا مُسالما، لطيفا وواعظاً عن ملكوت الله، بطريقة بسيطة يظهَر فيها صديقا للبشر. وأما في هذا الإنجيل فنعيش له وجها جديدا لم نعهده من قبل. فهو إنجيل تهييج، إن صحّ التعبير، هو المسالم، صاحب القلب الواسع، والمحبَّ للبشر، ما عاد يُعرَف، يُحرِّض على المشاكسات بين العائلات. جئت لألقي ناراً لا سلاماً. والمشاجرات وبغض الناس لبعضهم، هي من الحوادث اليوميّة في حياتنا، فإمّا في مكان العمل أو في المدرسة، أو على الشارع، أو فجائيّاً ومقصوداً. فلا يوجد حياةٌ بدون مُنازعات، بل هناك أُناسٌ لا يستطيعون العيش بدون منازعات. هذا وأقسى بل وأشرسُ المشاجرات هي العائليّة. فإن حدثت فهي تحتاج أحيانا أجيالا لتهدئتها.

 

سمعنا يسوع قبل قليل يقول: ما جئت لألقي سلاماً على الأرض بل نارا. ماذا عنى بذلك؟ هل أراد فعلا لعالَمِه الجميل ولعالمنا، أن يكون مسرحا دائما للانقسامات والإنشقاقات والعداوات والنزاعات والحروب. كما هي حالته اليوم؟ هل يسوع ثائر، كما قدّمته ثورة فيدل كاسترو أو تشيجيفارا في نصف القرن الماضي، ببدلة عسكرية وبندقيّة في يده، كجنود طالبان اليوم في أفغانستان وسوريا والعراق؟ هل هو منقذٌ عسكريٌ، كما يتوهّم بعض القادة ورؤساء الثورات العسكرية، كخميني أو صدام حسين وغيرهم؟ هذا ما تمنّاه منه الشعب اليهودي، الذي كان واقعاً تحت الاستعمار الرّوماني، وكان يتمنّى أن يأتِيه هكذا ثائر ليطرد الرّومان من أرضه. لكن لأنه لم يَقبَل بهذا الدّور المغلوط، فهم رفضوه وقتلوه.

 

إني جئت لألقي ناراً على الأرض لا سلاماً. هذه الكلمة غريبة على لسان يسوع. فإمّا أنَّ مَن نقلها لنا فهمها خطأً، أو أنّنا نحن نفهمها خطأً ونأوِّلها خطأ. فالعهد القديم يُعرِّفنا على يسوع بأنّه رسول السّلام. ويوم ميلاده تبشّره الملائكة كرجل السّلام، وفي زمانه سينتشر السّلام على الأرض للناس الّذين بهم المسرّة. فهل في تعليمه أراد حقّا نشر النّار لا السّلام؟ فإن كان كذلك، فهو لم يأتِ بجديد، ولَمَا كان مجيئُه ضروريّاً على الأرض.

 

لكنّني أعتقد، أنّه حتى نفهم كلمته هذه، يجب علينا أن نفهم الظرف أو المناسبة، التي تلفّظ بها. كان يسوع يتكلّم عن التلمذة له واتّباعه: فمن ِأْراد أن يسمع صوته أو يتبعه، عليه أن يحسب حسابا للمعاكسة والمقاومة: كما اضطهدوني سيضطهدونكم. نعم هو تكلّم عن الإيمان به وعن الصّعوبات، الّتي ستلاقي مَن يُؤمن به، أو الّتي ستصادفه على طريقه، فهو يريد أن يُرسلهم إلى العالم، ليبشِّروا برسالته الّتي بها يقُرب الله للبشر، وذلك في عالم لا يزال وثنيّاً. إذ حتى هذا التّاريخ، ما كان إلا قلّةٌ قليلة سمعت به. وما كان بعد من مُرتدّين بكثرة ولا من عائلات مسيحية كاملة آمنت به، بل فقط بعض الأفراد، بينما الباقون فأوثان، لذا كثرت المناوشات والنزاعات العائليّة: خمسة أشخاص في البيت سينقسمون على بعضهم البعض. الأب على ابنه، والابن على أبيه، الأم على ابنتها والابنة على أمِّها. والحماة على كنّتها، والكنّة على حماتها فلا يتم َفِهْمُ كلمات يسوع إلا في هذا السياق. أي أنّ الإيمان به، يجلب معه مشاكسات وجدالات ومناقضات عائليّة، بمعنى إنجيل اليوم.

 

إنَّ الوضع لم يتغيّر حتّى اليوم، خاصة بسبب الإيمان، إن كان أفراد العائلات في البيت الواحد يؤمنون باتّجاهات مختلفة. ومع الجيران، لنفس السبب. فالدّين ولو أنّه قائم على السّلام، لكنّ المؤمنين هم الّذين يسخِّرونه لمصالحهم، فتنتج عنه الخلافات التي يتكلّم عنها يسوع في إنجيل اليوم. كما كان على زمان بولس في كورنتس، حيث كثرت الخلافات الدّينية: هذا كان يدّعي أنه مِن أتباع بولس وذلك بطرس وغيره أبلّس. فيقول لهم بولس: هل انقسم المسيح؟ نعم المسيح يتطلّب قراراً، إمّا معه أو عليه. أما تنبّأ سمعان الشيخ: قال لأُمِّه: ها إنَّ هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولنقل في العالم، ولعلامة تُقاوَم (يو 35:2).

 

يسوع يُرسل تلاميذه كمبشّرين، لنشر ملكوت الله في عالمٍ مُعادٍ لهم، حيث سينالون منه اضطهاداتٍ عديدة، لكن من يصبر إلى النهاية يفوز. من يريد أن يُقرِّب الله للبشر، يجد أنَّ كثيرا في العالم يسير بعكس ما يريده الله أن يسير، كما وهناك قوى مُقاوِمة لله تعمل في هذا العالم. وما نلاحظه أيضا، أن التبشير يرتطم على آذانٍ مسدودة، لا تريد سماع بشرى الخلاص، ولا تريد أي علاقة إيجابية مع الإيمان، كما وهناك الوثنية المعاصرة، كالشيوعيّة، التي نيَّتُها إهفاء الدّين والدّيانة المسيحية. أما أعلنت الشيوعية موتَ الله؟ بالتّالي هي الّتي ماتت بعد 75 سنة فقط. هذا وكم من البلدان، خاصّة الأوروبية، تُحرِّض على ترك الدّين علنا، منها فصل الدّين عن الدولة والسياسة. أما شاهدنا عام 2013 باصات عامّة، تجوب شوارع لندن، مكتوب عليها: there is probably no God!. فكما نشاهد، يصطدم الإيمان دائمًا من جديد بصعوبات جديدة مُتنوِّعة، تمنع انتشاره، بينما الرّب يبقى يُرسل دائما رُسُلا جُدُداً لنشره في عالمه. فالاصطدام في هذه الظروف، برفض هذه الرّسالة والكنيسة، يُسبّبُ المنازعات في الدّين والساحات الدّينية. وهذا ما عناه يسوع في إنجيل اليوم، حيث قال: إني جئتُ لألقي نارا لا سلاما. فكما نعرف، الإيمان لا يُلقي نارا حارقة، لكن اختلاطَه وتمييزَه عن الاعتقادات الأخرى هو الّذي يجعله نارا عليهم. سيضطهدونكم كما اصطدوني، لكن ثقوا إني قد غلبتُ العالم. آمين