موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ مايو / أيار ٢٠٢١

تعالوا إلى كلمة سواء في شرق المتوسط: الإنسان

مالك العثامنة

مالك العثامنة

مالك العثامنة :

 

يقول زميلي في الحرة الأستاذ عمران سلمان، والذي اعتبر نفسي من قرائه وبشغف: ".. بالطبع هناك من حاول ويحاول تصوير ما يجري في فرنسا أو غيرها على أنه نقاش ديني، وهذا مجرد تضليل وتدليس. فالنقاش ليس في الدين وليس حول فائدة وجوده من عدمه، ولكن النقاش هو حول الخطورة التي يمثلها تحويل الإسلام، أو أي دين آخر، من إيمان فردي خاص بالإنسان وما يعتقده، إلى عقيدة أيديولوجية مطلقة تحض أتباعها على العنف ونشر الكراهية، والسيطرة على المجتمعات، وقمع الحريات، وإرهاب المخالفين، باسم الدين وباسم الخالق، وهذا ما تسعى إليه بوضوح جماعات الإسلام السياسي على اختلاف أنواعها. لذلك فالنقاش هو ليس حول الإسلام نفسه وكيف ينبغي أن يمارس المسلمون إيمانهم، فهم يفعلون ذلك بكل حرية، في بيوتهم وفي مساجدهم (في فرنسا يوجد حوالي 2500 مسجد ومصلى)، لكنه حول أمن الإنسان وحريته وحقوقه".

 

تلك الفقرة كانت من نهاية مقاله الأخير "شيطنة فرنسا" على موقع الحرة، وهي فقرة موجزة ومكثفة وتنسحب على كامل الكوكب بكل معمورة بشرية فيه، لا فرنسا وحسب، وهي لا تتعلق فقط بنقاشات الدولة والمجتمع، بل يمكن بسطها براحة على أي نقاش حتى لو على امتداد فضاءات السوشيال ميديا، التي أغرقها العرب بجدالاتهم التي لا تنتهي وصار في تلك الفضاءات "نجوم" تدين، استلذوا فكرة التجارة الرقمية فنقلوا تجارة "الشنطة المقدسة" إلى صفحات يحاولون أن تصبح مقدسة حسب كثرة الأتباع والتابعين، الأتباع يبحثون عن حسابهم بحسنات يوم الحساب التي يقررها الشيخ ويكيف نصوص الدين فيها على مزاجه، والشيخ يبحث عن حسابه في عدد التعليقات و"الإعجابات" وحرف "K" الذي يبدأ فيه عداد رقم مشاهداته.

 

قيام التونسي جمال غورشيني بقتل الشرطية ستيفاني في بلدة رامبوييه في فرنسا بالسكين وهو يهتف "الله أكبر"، لم يكن حادثا منفردا أو خارج السياق العام، وهو لن يكون الحادث الأخير في الهجمات الإسلامية التي تستهدف الفرنسيين أو المصالح الفرنسية.

 

ونحن هنا نتحدث عن أي دين وكل دين، يخرج عن نطاق العقيدة الإيمانية إلى متاهات الإقصاء والتطرف.

 

ما كتبه الأستاذ عمران، يضعنا من جديد أمام مطلب حيوي وضروري ننادي به دوما ومرارا، ملخصه ببساطة أن ما يحتاجه العالم العربي هو حركة إصلاح في الوعي تبدأ من المواطن العربي نفسه، إصلاح في الوعي يتطلب لحظة مواجهة حقيقية مع الذات وقبولا للآخر ومراجعة لكل الموروث الثقافي المهترئ وإعادة قراءة حقيقية مدججة بالفهم لكل ما تمت محاكمته جورا في التاريخ، واعتبار كل ما سلف تراثا لا أكثر ولا أقل.

 

لا أحد ضد العقيدة أيا كانت، بل إن حرية العقيدة -أيًا كانت أيضًا- متطلب موضوعي لتأهيل الإنسانية فينا.

 

لكن العقيدة التي تعني الاعتقاد حد الإيمان بفكرة التفوق على الآخرين هي المرفوضة، تلك الحالة الذهنية التي تعكس نفسها في الخطاب والسلوك وتصل إلى حد اعتبار قبول الآخرين تفضلا ومنة، فيتجلى التفضل بعبارات مثل "التعايش" أو "شركاء الوطن" أو العبارة الأكثر ابتذالاً لكثرة تكرارها "ملح الأرض"، وهي عبارات تتعلق بالمسيحيين - بكل طوائفهم- في عالم عربي أغلبيته مسلمة - بكلا الطائفتين وباقي الفرق- فنصل إلى مرحلة يخرج فيها التطرف رافعًا رأسه بعدم جواز التهنئة او الترحم على غير المسلمين، ولا يجد له رادعًا فالقبول أصلا تم ترسيخه كتفضل وتمنن من القوي على الضعيف، من الأغلبية على الأقلية.

 

لا يخطئ قراءة ذلك أحد "ووعيه بكامل الأهلية الإنسانية" في عالمنا العربي، فالتهنئة بأعياد المسيحيين كل عام تدخل جدليتها الموسمية بين جواز ذلك أو عدم جوازه، بحوارات مخجلة ومحرجة وجارحة. لكن في أعياد المسلمين فإن المسيحي (غير الملزم بالمقابل أن يهنئ أو يشارك) يضع عبارات التهنئة المدعمة بالقرآن والحديث، كفاية لشر التطرف ربما!

 

مجددا أعيد وأكرر أنه في عالمنا العربي، فإن قراءتنا للتسامح الديني يجب أن يحل محلها التسامح الإنساني. ويجب في تسامحنا المفترض كبشر، أن نتخلى عن ذهنية التفوق والتي تقود إلى التعصب الأعمى. إذ حتى التسامح يصبح مشوهًا إن كان مشوبًا بعقدة وهم التفوق في الاختيار الإلهي المقدس، وتحميل هذا العبد لله المسكين (مسلمًا أو غير مسلم فهو بائس) كل أثقال التاريخ المرسوم رسمًا على قياس نخبة رجال الدين وسدنة المعابد. كنت قد تحدثت في الموضوع مع ذوات أثق بهم وأعرفهم، وكان سؤالهم لي محملاً بالاتهام ومفاده: لماذا تصر على تضامن نراه أعرجًا لديك، لا يمشي بتوازن مع المسلمين مثلما مع غيرهم؟

 

أجيب فأقول باسمي واسم غيري "من ورثة تفوق عددي وأغلبية جماعية" ممن يدافعون بشراسة عن إخوانهم في الإنسانية ولا يرون فيهم أي آخر: إن الإعلان عن التضامن مع مسيحيي المشرق العربي أو ضحايا الإرهاب من الشيعة أو السنة أو الدروز أو الإيزيديين أو أي أقلية شاء لها حظ إنسانيتها السيء أن تكون حاصل فرق الانتصارات التاريخية البائسة. فمرد هذا التضامن في الحقيقة هو خجلنا من عبء ألقاه التاريخ المختلق على كتفنا دون موافقتنا ولا حتى الأخذ باعتراضنا.

 

والاعتراض -بكل أسف- غالبًا ما يصبح كفرًا في شرق متخم بالمقدسات، أو خيانة وطنية في ذات الشرق الضاج بالقيادات الملهمة.

 

(الحرة)