موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ مايو / أيار ٢٠٢٢

بَدِّد كُلَّ خِصام

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
بَدِّد كُلَّ خِصام

بَدِّد كُلَّ خِصام

 

عظة الأحد السّابِع من زمن القيامة المجيدة

 

لَطَالَما كَانَ وَسَيَبقى تَشَرذُمُ الْمَسيحيّين وانْقِسامُهم، سَبَبًا في رَفضِ الإيمانِ بالْمَسيح! فَكُلُّ وَحدةٍ هي دَلِيلٌ على أنَّ اللهَ حاضِرٌ، فَاللهُ وَحدةٌ واتِّحَاد، كَما قالَ الْمسيحُ: ﴿أنا والآبُ واحِد﴾ (يوحنّا 30:10). أَمّا الانِقسامُ فَدَليلٌ على تَغييبِ الله، وتَغْليبِ الُّلغَةِ الفَرديّة، وَسيادَةِ رُوحِ الفُرقةِ والخِصام، الّذي هو عَدُوُّ الزّارِع، وهَدَفُهُ أنْ تَعُمَّ الفَوضَى أَجزاءَ الجَسَدِ الواحِد، مِن خلالِ نَثرِهِ زُوءَانَ الخصوماتِ، وتَعزيزِهِ الْمَسافاتِ الّتي تفصِلُ وَتُباعِدُ بينَ أَعضاءِ الْمَسيحِ أَي الكَنيسة!

 

أَيُّها الأحبّة، الأنَاجيلُ الّتي تُلِيَت على مَسامِعنا في الآحادِ الثَّلاثَةِ الأخيرة، مِن هَذَا الزّمنِ الفِصحيّ الْمُبَارك، تُكَمِّلُ بعضُها بَعضًا! فإنجيلُ الأحدِ الخَامِس (يوحنا 31:13-35) كانَ يَتَحَدَّث عَن الْمَحَبَّةِ الّتي أَوصَى بها الْمسيحُ تَلاميذَهُ قَبلَ رَحيلِه! وإنجيلُ الأحدِ السّادِس (يوحنّا 23:14-29) كانَ يَتحدّثُ عن السّلامِ الّذي اِسْتَودَعَهُ وأَعطاهُ الْمسيحُ تلامِيذَه قَبلَ رَحيلِه! أَمَّا في إنجيلِ هَذا الأحدِ السّابِع (يوحنّا 20:17-26)، فَالْمَسيحُ يُصَلّي لأجلِ الوَحدَةِ بَينَ تَلامِيذِهِ، وَجَميعِ الّذينَ يُؤمِنونَ بِهِ عَن كَلامِهم! والوَحدَةُ دَليلٌ على السّلام، والسّلامُ ثَمرَةٌ مِن ثِمارِ الْمحبّة!

 

نَحنُ نَعلمُ أَنَّنا كَمَسيحيّين، مَع كُلّ أسف، لَسنَا واحِدًا، وَأَنَّ عَدمَ وَحدَتِنا حَجَرُ عَثرةٍ وعائِقٌ أَمامَ الإيمان. ونَعلمُ أيضًا، أنَّ هُناكَ أطرافًا كَثيرةً وَقِياداتٍ كَنَسيّة، تَسعَى فِعلًا، بِإِرشادِ الرّوحِ القُدس، لأجلِ وَحدةِ الكَنيسةِ والْمَسيحيّين، عَلى الأقلِّ في بَعض الأمورِ الْمُلِحَّة، كَتَوحيدِ مَوعدِ الاحتِفالِ بِعيدِ الفِصح! وَلك، كَم هو مُؤسِفٌ تِلكَ الرّوحِ الطّائفيّةِ الْمُتَقَزِّمَة، الّتي تَبُثُّها بَعضُ القياداتِ أحيانًا والوجوهِ الكَنَسيّة، لِمَآرِب منها ظَاهِرٌ وِمنها خَفِيّ، على الفيس بوك وَغيرِها مِن مَنَصّاتِ التَّواصلِ الاجتماعي، والّتي مِن شَأنِها تعزيزُ الانْقِسام والإبقاءُ على حَالة التَّشَرذُم، وتَغذيةُ رُوحِ الانْغِلاقِ الْمَشحونة بروحٍ عِدائيّة أَحيانًا من قِبَلِ البَعض، تجاه إخوتِهم مِن كنائِسَ أُخرى!

 

قَبل نَحوِ أُسبوعين، عُقِدَ في مِصر مؤتمرٌ لِمَجلِسِ كَنائِسِ الشَّرقِ الأوسَط، لِبحثِ سُبُل تعزيز البقاءِ والوُجودِ الْمَسيحي في الشّرق، بِضيافة الكنيسةِ القبطية الأرثوذكسيةِ الشَّقيقة. جَميلةٌ هَكذا مُؤتَمرات! ولَكن على أرضِ الواقِع، هَل سَتُطَبَّق التَّوصِياتُ، كَبَرامِج وخُطَط عَمَل، مِن شَأنِها تعزيزُ هذا الصَّمود الْمَسيحي؟! إن لَم نَكُن حتّى الآن قادِرينَ عَلى توحِيدِ مَوعدِ الاحتفالِ بالأعيادِ الكُبرى كَبادِرةِ حُسنِ نِيّة، مع أنَّ الدّعوات لِذلِكَ كَثيرة ولا تَتَوقّف، فَكَيفَ نَتوقّعُ أن نَتّحِدَ في الأمورِ الجوهرية الْمُختَلفَ عَلَيها؟! وإن بَقيَ الْمسيحيّون مُنْقَسمينَ في الشَّرق، فَكَيفَ لانْقِسَامِهم أن يَخدُمَ وُجودَهُم وبقاءَهم واستمرارَهم في هَذِهِ الأرض؟!

 

يَقول بولسُ الرّسول في وَداعِهِ شُيوخَ كَنيسةِ أَفَسُس: ﴿وَأَنا أَعلَمُ أَنْ سَيدخُلُ فيكُم بَعدَ رَحيلي، ذِئابٌ خاطِفةٌ لا تُبقي على القطيع﴾ (أعمال الرّسل 29:20). يا أَحِبّة: ما أكثرَ الّذئابَ الّتي دَخَلت بينَ القطيع، فَمَزَّقَت وَشَتَّتَتَ وَقَسَّمَت وَبَعثَرَت! ومِن أشرَسِ تِلكَ الذّئابِ وَأَشدِّها فَتكًا، الرّغبةُ في السّلطةِ والسّيادَة وحُبِّ السّيطرة، والّتي خَلَقَت أَجواءً غَيرَ طَيّبةٍ مِنَ الْمُنافَسَة والْمُزاحَمَة!

 

لَقَد تَناسى كَثيرونَ من أَصحابِ الحَضرَةِ والسَّيادَة والغِبطَة، أنَّ الْمسيحَ قَد: ﴿أَخلَى ذاتَهُ وجاءَنا مُتَّخِذًا صُورةَ العَبد﴾ (راجِع فيلبّي 6:2-11). وَأَنّه: ﴿وهوَ الرّبُّ والْمُعَلِّمُ، قَدْ جَعَلَ لَنَا مِن نَفْسِهِ قُدْوَةً، لِنَصنَعَ نحنُ كَمَا قَدْ صَنَعَ إلينا﴾ (راجِع يوحنّا 13:13-17). إذ أنّه قَد ﴿جاء لِيَخدُم لا لِيُخدَم، وَيَفدي بِنفسِهِ جَماعةَ النّاس﴾ (راجِع مرقس 41:10-45)، ﴿فَمَن أَرَادَ أَن يَكونَ كبيرًا فِيكُم، فَلْيَكُنْ لَكُم خَادِمًا، وَمَن أَرَادَ أَنْ يَكونَ الأوَّلَ فيكُم، فَلْيَكُن لَكُم عَبدًا﴾ (متّى 26:20-27).

 

بِناءً على كُلِّ هَذا، أَرى أنَّ أسبابَ الانِقسامِ كَثيرة، فَمُجتَمَعاتُنَا بِشكلٍ عَام تَدعو وَتَسعى إلى الشّيخة والفَخفَخة وحُبِّ الظُّهورِ وَالأضوَاء، لا إلى الخِدمةِ والتّواضُعِ والعَملِ وراءَ الكواليسِ في الخفية! وَهذا شيء تَغَلغَلَ أيضًا دَاخِلَ الكَنيسة، فَصَاروا قِلّةً هم الّذينَ يَبْحَثونَ عَن ﴿جَزاءِ أَبيهمِ الّذي في الخفية﴾ (راجِع متّى 4:6)، أَمّا الأغلبيّة فَتَبحَثُ عن جزاءِ بعضِها البعض!

 

في نَظري، الطَّريقُ نَحوَ الوَحدةِ بينَ الكّنائِس والْمسيحييّن لا تَزالُ طَويلَة وَوَعِرة، وَلَستُ أَرَى النّورَ في نهايةِ النَّفَق! اللهُ بِكُلِّ تَأكيدٍ يَراه، أَمّا نَحن فَلَن نَراه، حَتّى تَلينَ العُقول، وتَصفَى القُلوب، وَتجري الْمَحَبّةُ الصّادِقَةُ في النّفوس، عِندَها تنظرُ العيونُ بعضُها لِبعضٍ نَظرةَ الْمودَّةِ والسّلامِ والإخاء، لا نَظرةَ التّنافُسِ والخِصامِ والاستعلاءِ!

 

أُنْهي كَلامي مَع بولَس الرّسول، لَمّا عاتَبَ مَسِيحِيّي قُورنتوس، فَخَاطَبَهم مُوَبِّخًا قَال: ﴿أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنكُم يَقول: ((أَنا لِبولُس)) و((أنا لأَبُلُّس)) و((أَنا لِصَخْر)) و((أَنا لِلمسيح)). أَتُرى الْمَسيحُ انقَسَم؟ أَبولُسُ صُلِبَ مِن أَجْلِكُم؟ أَم باَسمِ بولُسَ اعتَمَدتُم؟﴾ (1قورنتوس 12:1-13). ﴿فَإِذا كَانَ فِيكُم حَسَدٌ وَخِصَام، أَفَلَيسَ في ذلِكَ دَليلٌ عَلى أَنَّكُمِ بَشَرِيُّون، وأَنَّكُم تَسيرونَ سِيرةً بَشَرِيَّة؟ وَإِذا كَانَ أَحدُكُم يَقول: ((أَنا لِبولُس)) والآخَر: ((أَنا لأَبُلُّس))، أَفَلَيسَ في ذلِكَ دَليلٌ على أَنَّكُم تَتَصَرَّفونَ تَصرُّفًا بَشَرِيًّا؟﴾ (1قورنتوس 3:2-4).

 

اليوم نَحن نُواجِه نَفسَ الْمُشكِلَة، ولكن بِشكل أَوسَع وأكبر: بينَ كاثوليكي وأرثوذكسي وقبطي وأرمني وسرياني وبروتستانتي... وَينطَبِق عَلينا نَفسُ كلامِ بولس، فَنَحن لا نَزالُ بَشَريِّين، تَغلِبُ عَلينا رَغَباتُنَا وطموحاتُنَا البَشريّة، بَعيدينَ كُلَّ البُعد عن الشّقِّ الإلهي للكَنيسة، وَما يُريدُه اللهُ مِنّا!

 

عِيدُ العَنصرة على الأبواب، وهي من الّلحظاتِ القَليلة الّتي كَانَت فيها الكَنيسةُ فِعلًا، جماعةً واحدةً بِقلبٍ واحِد، بِالرَّغمِ من التَّعَدُّديَّة، قَبل أن تَغزوها رياحُ الانقِسام. فَلْنَستَلهِم يا أحبّة روحَ الله لَنا ولِقياداتِنا الكَنَسيّة، عَلَّهُ يُمهِدُّ الطّريق وَيُنوّرُ النّفوسَ، فَتَسعَى بِصدقٍ إلى حَلِّ الخلافاتِ، وَبُلوغِ الوَحدَة!