موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١ فبراير / شباط ٢٠٢٣

بين العقاب والإصلاح... الكرامة

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

د. ميشال عبس :

 

مقابل كلّ جريمة عقاب!

 

هكذا تعلّمنا وهكذا تسّن وتنفّذ القوانين وهكذا تعمل أنظمة العدالة في العالم.

 

يفهم الناس العقاب على أنّه اقتصاص من المجرم، لكلّ مجرم على قدر إجرامه، ويصرّح المتضرّرون من الجريمة أنّهم ارتاحوا نفسيًّا بعد صدور الحكم أو تنفيذ العقاب.

 

كما أنّه، وفي بعض الحالات، يجد المتضرّرون أنّ الحكم لم يكن على قدر الجريمة، وهم بذلك يعبّرون عن عمق الضرر أو الألم الذي لحق بهم، تضاف إليهم خيبة القرار القضائي.

 

من جهة أخرى، يجد مرتكب الجرم، أو أهله، أنّ العقاب أتى شديدًا قاسيًا، ويعطون للمرتكب أسبابًا تخفيفيّة تبرّر ما ارتكبه المجرم من أفعال.

 

لا يمكننا أن ننكر البعد الإقتصاصي الكامن ضمن الأحكام القضائيّة، وهي، من جهة المتضرّرين، المطلوب منها أن تشفي غليلهم، ولكن للمجتمع والدولة وجهة نظر أخرى تتجسّد بمنطق الحق العام الذي تحتفظ به الدولة، حتى لو تنازل المتضرّرون عن شكواهم. هذا يعني أنّ للدولة، عبر القضاء، الحق بمعاقبة من ارتكب جرمًا، ليس فقط لإرضاء الضحيّة أو المتضرّر، بل لثني الناس عن ارتكاب الجرائم والأفعال التي تؤذي المجتمع.

 

مقاربة الدولة إذًا، حامية حقوق الناس، ومقيمة العدل هو ذات بُعدين:

 

البُعد الأوّل علاجي يتمثّل في جعل الإنسان مسؤولًا عن جرمه وذلك لثنيه عن إعادة الكَرَّة وحثّه على التفكير طويلًا قبل الشروع بالقيام بشيء مماثل وهنا نجد أنّه، حتى في العمل العلاجي، يتواجد البُعد الوقائي الفردي.

 

أمّا البُعد الثاني فهو وقائي بامتياز، يتمثّل بأن يكون العقاب الواقع على مرتكب الجرم، إضافة إلى نصّ القانون الذي استند إليه العقاب، عملًا وقائيًّا توعويًّا بامتياز.

 

لو اقتصرت معاقبة الجرم على القصاص، لعُدنا إلى صيغة العين بالعين والسِّن بالسِّن وليس فقط البادئ أظلم، بل الآتي أعظم.

 

التحدّي الكبير المطروح على الإنسانيّة، والذي تعاملت معه الدول المتحضّرة، يكمن في إمكانيّة تحويل فترة العقوبة إلى حقبة بنّاءة، إلّا في حالات نادرة، يكون فيها المجرم في حالة نفسيّة مرضيّة مزمنة من الصعب شفاؤه منها.

 

اذا كانت السجون أماكن يدخل إليها محكوم بجرم خفيف أو جنحة ويخرج منه متخصّصًا في أنواع عدّة من الإجرام، فبئس التدابير.

 

إذا لم يكن السجن مكانًا، يستعيد فيه المرتكب ثقته بنفسه وكرامته المفقودة بسبب ما ارتكبه، فبئس المكان.

 

لا أحد يتوجّه إلى الإجرام والإرتكاب طوعًا، مسرورًا ومحبّذًا، إلّا في حالات مرضيّة لا تدخل ضمن هذه المقالة.

 

الذي يرتكب جرمًا يكون قد فقد كامل ثقته بنفسه وتنازل عن كلّ كرامته وإلّا لما كان أقدم على اقتراف الجرم والوقوع في المحظور وهو، في قرارة نفسه، يعرف المصير الذي ينتظره.

 

إنّ المقاربة الأولى لتأهيل من عوقب على جريمة أو جنحة تكون عبر مساعدته على استرداد كرامته مترافقًا مع استرداد ثقته بنفسه.

 

إنّه برنامج إصلاحي له شروطه واستهدافاته ومنهجيّاته.

 

إذًا لم تتحوّل أماكن الحجز إلى مراكز تأهيل فإنّها ستتحوّل حكمًا معاهد تدريب على الجريمة، حيث يدخل محكوم بجنحة فيتخرّج وقد اكتسب فنون الإجرام كافة.

 

المهنة والعمل يعطيان للإنسان قيمته في عالم الحداثة الذي نعيش فيه. لذلك نعتبر أنّ تزويد المحكوم بالتدريب المهني المناسب وتحويله إلى مهني محترف قادر على كسب رزقه بالطرق الشريفة المحترمة، هي أفضل سياسات تأهيل المساجين ووضعهم على طريق الشفاء.

 

العمل هو إحدى ضمانات السلم الأهلي، وهو من باب أولى إحدى ضمانات التأهيل الإجتماعي الإقتصادي لمن اقترف جرمًا تجري محاسبته عليه.

 

هو يعزّز الشعور لدى الإنسان بأنّ له دور في المجتمع وتاليًا فهو مخلوق نافع لمحيطه الذي يحتاجه ويقدره.

 

هو الضمانة ألّا يعود مرتكب إلى تكرار ما ارتكبه.

 

هو الذي يخرج الإنسان من الهامشيّة الإجتماعيّة والمهنيّة والإقتصاديّة ويموضعه في قلب المجتمع.

 

هو الذي يخرج الإنسان من الإستبعاد والعزلة، ويدخله في شبكات علاقات مهنيّة وصداقات.

 

كلّ هذه هي من أدوات التأهيل الذي يجب أن يترافق مع التدابير العقابيّة، القاتلة إذا طبّقت منفردة.

 

المجتمع، عبر الدولة والهيئات الأهليّة، مسؤول عن حماية المجتمع عبر إعادة تأهيل هؤلاء الناس، وليس عبر معاقبتهم.

 

المنحرفون، أصحاب الجنح والسوابق ومرتكبي الجرائم، تحدٍّ كبير على المجتمع الإنساني الذي أنتجتهم آلياته الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة، وهو بالتالي مسؤول عن شفائهم.

 

هذا هو التحدّي الكبير.