موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٣ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

"النظرة المستنيرة" بين كاتبي نبؤة ملاخي والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ملا 3: 19- 20؛  لو 21: 5- 19)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ملا 3: 19- 20؛ لو 21: 5- 19)

 

الأحد الثالث والثلاثيّن (ج)

 

مُقدّمة

 

نقترب من خلال سلستنا الكتابيّة، من الإنتهاء للسنة الطقسيّة في هذا العام اليوبيليّ والّذي يتميز بعام الرجاء. لذا نجد نصوصنا، من كلا العهديّن، بحسب ليتورجيّة هذا الزّمن وهي تقودنا للتوقف أمام بعض النصوص الّتي نقرأها لتُهيئنا لختام سنة طقسيّة بنظرة مستنيرة حيث تَّعمها روح الرجاء من قبلنا نحن الـمؤمنيّن. على ضوء هذه الأيام سنقرأ بمثالنا هذا نصيّين متوازيين، فالأوّل بحسب نبؤة ملاخي (3: 19- 20) وبالعهد الجديد سنقرأ كلمات يسوع بحسب لوقا (21: 5- 19). قد وصلنا الآن إلى الأيّام الأخيرة من الزّمن العاديّ، حيث تدعونا قرائتنا بهذا الـمقال إلى النظر إلى أُفق التاريخ، ليس كشكل من أشكال الهروب والإنفصال عن الحاضر، بل بالتحديد لفهم معنى الحاضر في الـمُستقبل. ولهذا السبب، يجب ألّا نقرأ النصوص الكتابيّة بهذا الزّمن على أنّها تنبؤات قاتمة بنهاية كارثيّة وتهديد مرعب، بل مدعويّ، لقرائها بنظرة مليئة بالرجاء. هاتين القرائتين النبويّة والإنجيليّة تنتميين لنوع خاص من القراءات الكتابيّة وهي القراءة الأخُرويّة (الإسكاتولوجيّة) من البداية إلى النهاية. قراءة مُفعمة بالأمل وتتميز به. إنّ النظر حاليّا بدءًا من النهاية يعني التأكيد بعناد على وجود هذا النوع من الرجاء الحيّ. قد نعتقد أنّ هذا التأكيد يتناقض مع التاريخ الّذي نعيشه كلّ يوم، ولكنه التاريخ الكتابي خاصة الإنجيليّ هو الوحيد الـمُمكن. كتب مولتمان في كتابه لاهوت الرجاء: "يقود الرجاء الإنسان إلى مناقضة واقعه الراهن وواقع العالم، ولكن هذا هو بالضبط التناقض الّذي ينبع منه الرجاء ذاته؛ إنّه تناقض القيامة فيما يتعلق بالصّليب". مدعوييّن للتحلى بنظرتنا كمسيحيّين للتاريخ كـ "نظرة مستنيرة لحدث القيامة"، فهو الحدث الجديد والـمُستقبلي بامتياز.

 

 

1. بُشرى الشفاء (ملا 3: 19- 20)

 

في الآيات القليلة من حوار الرّبّ مع النبي ملاخي، وهو أحد الأنبياء الصغار، حيث يعلن إنتصار الأبرار في يوم الرّبّ، مُعلنًا على لسان الرّبّ بُشرى الشفاء: «فإِنَّه هُوَذا يأتي اليَومُ الـمُضطرِمُ كالتَّنُّور، فيَكونُ جَميع الـمُتَكَبِّرينَ وجَميعُ صانِعي الشَّرِّ قشّاً، فيُحرِقهمُ اليَومُ الآتي، قالَ رَبُّ القُوَّات، حتَّى لا يُبقِيَ لَهم أَصلاً ولا غُصناً. وتُشرِقُ لَكمِ، أَيُّها الـمُتَّقونَ لِاسْمي، شَمسُ البِرِّ، والشِّفاءُ في أَشِعَّتِها، فتَسرَحونَ وتَثِبونَ كعُجولِ الـمَعلَف» (ملا 3: 19- 20). في التصارع بين الأشرار والأبرار يعلن الرّبّ كلمته والّتي تأتي لصالح الـمتقييّن لإسم الرّبّ. حيث في اليّوم الآتي، وهو يوم الرّبّ تشرق شمسه فهو الرّبّ شمس البرّ، علينا نحن اليّوم الـمؤمنين به والـمُتقييّن لإسمه. بل والـمفاجأة هي أنّ نعمة الشفاء من كلّ أمراضنا وخطايانا ننالها من خلال أشعة الشمس الّتي تظللنا فتصير بمثابة نعمة إلهيّة تشملنا من رأسنا إلى أقدامنا بسبب إننا نتقي اِسم الرّبّ بحياتنا. مدعويّن من خلال كلمات الرّبّ القليلة بحسب نبؤة ملاخي أنّ نرجو هذا الشفاء الّذي يمنحنا إياه بمجانيّة وبحبّ الرّبّ إلهنا في يومه العظيم. على ضوء هذه الكلمات سنقرأ تعليم يسوع لنا بحسب لوقا حيث يعلن لنا الجديد ليمنحنا هذا الشفاء التام.

 

 

2. النظرة الـمستنيرة (لو 21: 5- 17)

 

ها نحن من جديد بحسب الروايّة اللُوقاويّة، من جديد نتواجد في الهيكل مع يسوع حيث يعلن الإنجيلي بأنّ يسوع في حضور الكتبة والفريسيّين: «كانَ ذاتَ يَومٍ يُعلِّمُ الشَّعبَ في الهَيكَلِ ويُبَشِّرُه» (لو 20: 1). على مدار إصحاحيّين يرويّ الإنجيليّ تعاليم يسوع للشعب في حضور تلاميذه (راج لو 20: 45) أثناء وجودهم بالهيكل. يأتي تحذير الـمُعلم، بناء على حواره مع التلاميذ قائلاً: «إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد! فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هُو! قد حانَ الوَقْت! فلا تَتبَعوهم» (لو 21: 8). هذا الإسم الإلهيّ الّذي يحمل نظرة مستنيرة والّذي يسعى البعض لإنتحاله، لذا يحذرنا صراحة بعدم إتباعهم واليقظة بأنّ نكون يقظيّن.

 

لتأكيد هذه النظرة المليئة بالرجاء،  الّتي تضع واقعنا الراهن في تناقض، يستخدم العهد الجديد غالبًا لغة وطريقة مألوفة من الكتب الـمُقدسة العبرية، تُسمى "الآخرويّات" أو "نهاية العالم". هذه طريقة خاصة جدًا في الأدب الكتابيّ، وإذ لم تُفهم جيدًا، فإنّها تُخاطر بخلق العديد من سوء الفهم. إذن مدعويّن لقراءة هذه النصوص الّتي تحمل لغة نهاية العالم ليس كوصف للأحداث الـمُستقبلية، أو تنبؤات لأحداث ستقع، بل كقراءة للحاضر مبنية على فهم أعمق لتاريخنا. لن يتجلى هذا الـمعنى الأعمق تمامًا إلّا في نهاية تاريخنا البشريّ، ولكنه ليس غائبًا الآن، حتّى وإنّ لم يتجلى تمامًا. هنا يكمن التناقض الّذي يتحدث عنه اللّاهوتي مولتمان: "مدعوون المسيحيون [أنا وأنت] للنظر في الأحداث الّتي تُميّز حياتهم وحياة البشرية، سعيًا لكشف هذا الـمعنى الأعمق والأصدق الكامن فيهم. معنى يتناقض جوهريًا مع القراءة السطحية والـمُستسلمة للتاريخ". من خلال تعليم يسوع سنحاول معًا لإستيعاب هذا الـمنطق الجديد الّذي يحملنا يسوع إليه لتشرق شمس بره علينا من هنا والآن.

 

في حديث يسوع، الـمُستلهم من قول بعض الحاضرين معه بشأن أحجار الهيكل، حيث يُعلن عن ضيق أخير، يتميز بأحداث مُرعبة طبعت تاريخ بشريتنا عدة مرات. لكن قبل هذا الضيق، يعلن يسوع:  «قَبلَ هذا كُلِّه يَبسُطُ النَّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكمُ، ويَضطَهِدونَكم، ويُسلِمونَكم إِلى الـمجامِعِ والسُّجون، وتُساقونَ إِلى الـمُلوكِ والحُكاَّمِ مِن أَجْلِ اسمي» (لو 21: 12). لكن هذا ليس كلّ شيء! يسرد لوقا أحداثًا أخرى ستؤثر على حياة التلاميذ في الفترة الّتي تقع بين فصح يسوع وعودته: «سيُسلِمُكُمُ الوالِدونَ والإِخوَةُ والأَقارِبُ والأصَدقاءُ أَنفُسهم، ويُميتونَ أُناساً مِنكم، ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجْلِ اسمي» (لو 21: 16- 17). أولًا، يُعدد يسوع مواقف ستطرأ على حياتنا كتلاميذ بسبب عوامل خارجية (راج لو 21: 12)، ثم مواقف أخرى ستؤثر على العلاقات الحميمة (راج لو 21: 16- 17 الوالدين والإخوة والأقارب والأصدقاء). هذا ليس تنبؤًا بالـمستقبل! إنه ببساطة الوضع الّذي تعيشه جماعة لوقا عندما كتب الإنجيلي بشارتهجماعة مُضطهدة من الخارج ومُمزَّقة من الداخل. لهذا الوضع الحاضر، لا المستقبلي! يُريد الإنجيلي أنّ يُجيب من خلال كلمات يسوع. في هذا الوضع الـمُريع واليائس ظاهريًا، تُصبح كلمة الإنجيل تناقضًا. وهكذا نرى إنّه لا مفر من الحاضر، بل الشجاعة لمواجهة الواقع الملموس وجهاً لوجه، ومقارنته بالرجاء المنبثق من قيامة يسوع.

 

 

3. ثمرة الصعوبات: الشهادة (لو 21: 13- 15)

 

الإستجابة الأوّلى تبدو أكثر اهتماماً بالصعوبات الخارجية وتتضح في قول يسوع: »فيُتاحُ لكم أَن تُؤَدُّوا الشَّهادَة. فاجعَلوا في قُلوِبكم أَن لَيسَ علَيكم أَن تُعِدُّوا الدِّفاعَ عن أَنفُسِكم. فسَأُوتيكم أَنا مِنَ الكَلامِ والحِكمَةِ ما يَعجِزُ جَميعُ خُصومِكم عَن مُقاوَمَتِه أَوِ الرَّدِّ علَيه» (لو 21: 13- 15). يعلن يسوع إنّ هذه الصعوبات ستكون المكان الـمناسب للشهادة. الصعوبات ليست اختباراً من الله، بل هي جزء من تاريخنا البشريّ، وحدودها، والشرّ الكامن في قلوبنا. إنّ الصعوبات كالإضطهادات، والعنف، ... إلخ، الّتي واجهها تلاميذ يسوع، مثل كثيرين غيرهم من الـمؤمنين. إلّا إنّ الصعوبات هي الـمكان المناسب للشهادة وتصير الشهادة الحقيقة ثمرتها. وإذا تسألنا على ماذا الشهادة؟ الشهادة للإنجيل، والإستمرار بالحياة كتلاميذ ليسوع في تلك الظروف الصعبة الّتي تُفرض علينا. وعلينا أنّ نشهد كتلاميذ يسوع إذا استطاعنا كتلاميذ مؤمنين بتجسيد هذا التناقض. للتعبير عن روح الرجاء، علينا ببثّ الرجاء حيث يبدو أنّ لا مفرّ منه. الرجاء هو بذرة أبدية مزروعة في أخاديد تاريخنا البشريّة بيد يسوع.

 

 

4. الـمُثابرة أمام الـمِحن (لو 21: 5- 19)

 

أما الاستجابة الثانية، والّتي يبدو أنّها تتعلق بالـمحن الّتي تأتي من المقربين وتؤثر فينا بعمق «قَبلَ هذا كُلِّه يَبسُطُ النَّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكمُ، ويَضطَهِدونَكم، ويُسلِمونَكم إِلى الـمجامِعِ والسُّجون، وتُساقونَ إِلى الـمُلوكِ والحُكاَّمِ مِن أَجْلِ اسمي» (لو 21: 12). فتتعلق الإضطهادات والصعوبات من خلال الثبات في الإيمان باسم يسوع بالـمُثابرة والصبر »إِنَّكم بِثَباتِكُم تكتَسِبونَ أَنفُسَكم« (لو 21: 19). يعلن لنا يسوع كتلاميذه الـمُؤمنيّن، إننا حتّى إذ إختبرنا الشدائد والـمِحن من أقرب الناس إلينا كالوالديّن، والإخوة، والأقارب، والأصدقاء ... سنتمكن من إنقاذ حياتنا بـمثابرتنا وبقوة إسم يسوع. كلّ هذا يعني أنّ الـمثابرة، هي بمثابة الإنتظار بثقة في الرّبّ مؤمنين بأنّ الـمِحن لن تسحقنا والصعوبات الخارجية لن تدهسنا. فهذا ليس استسلامًا، بل هو موقفنا النابع من الإيمان باسم الرّبّ الّذي نتمي له حينما نتمسك بالرجاء. المثابرة هي سلاحنا حينما نختبر شيئًا من لحظة الإكتمال، ولهذا السبب، يُصبح تناقضًا لـمَن لا يرى إلا سطح التاريخ ولا يتأمله من نهايته. مدعوين أنّ نحيا تاريخنا بعمق والأهم أنّ نتبع النظرة الإلهيّة الـمستنيرة الّتي يرافقنا بها الرّبّ يومَا بعد يوم.

 

 

الخلّاصة

 

في قرأتنا لنصي بين العهدين بهذا الـمقال الّذي أعطيناه عنوانًا بـ "النظرة الـُمستنيرة"، في عام اليوبيل 2025 الّذي نعيشه تحت عنوان الرجاء. حيث قبلنا نعمة الشفاء الروحيّ والجسدي بحسب قرأتنا لنص العهد القديم لنبؤة ملاخي (3: 19- 20) حيث تسود كلمة الرّب من خلال أشعة شمس البرّ، وهذه الشمس هي الرّبّ ذاته، الّتي يشرق بها علينا لتظهرنا وتصير مصدر لشفائنا الروحيّ والجسدي. وفي مرحلة ثانية بحسب تعليمه يسوع، بحسب لوقا (21: 5- 19)  فأشار إلى الـمسارين الّذين أرشدنا إليهما اليّوم لـمواجهة الصعوبات القادمة من القريب والبعيد، وأكد بأنّهما إعلانٌ ولا يقتصرا على ختام التاريخ، بل يُلامسوا حاضرنا البشريّ. وهكذا نفهم من تعليم يسوع في هذا النص الإنجيليّ لا يقتصر على الحديث عن تنبؤات المستقبل، بل يسعى إلى إلقاء النّور على الحاضر الـمُنبثق من اسم الـمسيح الّذي يمنحنا نظرته الّتي تنير حاضرنا وستنير مستقبلنا. هذا النّور هو الرجاء الّذي يُمكّننا من أنّ نختبر الآن شيئًا من يوم قيامة الرّبّ الّتي ستُغيّر كلّ شيء من هنا والآن. دُمتم في قبول للشفاء الإلهي ونظرته الـمستنيرة بالداخل وبالخارج معًا.