موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢ فبراير / شباط ٢٠٢٣

المسيحيون المهاجرون ... حدودٌ ملتهبة

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا

المونسنيور بيوس قاشا

 

نشهد اليوم وفي جميع البلدان العربية هجرة مسيحية من منطقتنا العربية، وهي هجرة جماعية وسريعة الوتيرة. وفي هذه الأعوام الأخيرة بدأت وبشكل واضح بعد حرب الخليج الثانية.

 

وتفاقمت الهجرة خلال النزاع الطائفي وزمن داعش الإرهابي حيث حصل استهداف مباشر للعديد من الأفراد المسيحيين والعوائل المسيحية وكنائسهم في خضمّ موجات همجية.

 

نعم، لقد كان العراقيون ولا زالوا أصلاء العراق وأصالتهم شاهد تاريخي ورسالة حضارية، فهم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني العراقي، وقد أكّدوا ذلك من خلال مسيرتهم وبرهنوا على حقيقة ولائهم وطاعتهم للوطن ولبلدهم ولشعبهم وهذا ما يعطي إشارة على إنهم المساهمين في مجالات عدة فمنها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، عاملين على تأسيس الوطن على أسس حقيقية مشرقية بأديانه ومكوِّناته المختلفة.

 

وهذا ما يجعلهم يشيرون في مسيرتهم على شرعة حقوق الإنسان والتي وقّعها العراق، إلى أنه من حقهم أن يشعروا بمواطَنة كاملة لا لبس فيها في الحقوق والواجبات، ولكن ومع الأسف ففي أوطانهم وفي دولهم العربية يُنظَر إليهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة وذلك لأسباب عديدة، وهذا ما يجعل حياتهم صعبة وقاسية، ومواصلة العيش في أوطانهم ليس بالأمر الهيّن أمام ما يشاهدون وما يحيون.

 

فالمسيحيون الذين يعود تواجدهم إلى آلاف السنين يرون أنفسهم أنهم بعيدون عن حق المواطنة وحق العيش وتوفير الحماية لهم أمام هجمات وتحديات عديدة - وإن كان الدستور العراقي يضمن التساوي بالحقوق والحريات بين جميع مكونات المجتمع ولكن ذلك بعيد عن التطبيق وقريب من الدساتير الأخرى المكتوبة - وقد فرّ العديد منهم إلى خارج الوطن كأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، فبعد أن كان عددهم في التسعينيات يربو إلى مليون ونصف المليون إنخفض عددهم إلى (500) ألف وخاصة بعد الاعتداء الإرهابي على كنيسة سيدة النجاة، ولا يزال الحبل على الجرّار.

 

وهجرة المسيحيين هذه مستمرة حتى اليوم بل حتى الساعة رغم النداءات الإعلامية والمعبّرة عن حقيقة الإعلام، والخوف الكبير من الكلام المبطّن الذي يحمل في طياته مشروع إكمال مخطط إفراغ الوطن من الأصلاء الأصليين وهي التي حُسبت منذ ألفي سنة في المنطقة. ولا يمكن أن نحصر مشكلة هجرة المسيحيين في العراق بما جرى في نينوى على يد داعش، ولكن أسباب عديدة تقودهم إلى الهجرة وترك الوطن، وما يحصل لهم كسكّان أصلاء وأصليين في هذا البلد.

 

ولأنه لا يوجد مَن يحمي المسيحيين الأمر الذي جعلهم هدفاً لأكثر من جهة برغم خذلان الجهات التي التجئوا إليها لحمايتهم، فأصبحوا ضحايا للعديد من المجاميع الإرهابية والميليشيات والزُمَر المتعصّبة والقاتلة والمتطرفة، وبسبب ذلك ارتفع منسوب الهجرة ومعدّلاتها، فها هم يعيشون في هلع دائم وخوف مستمر خصوصاً وقد أصبحوا هدفاً مباشراً لأعمال الانتقام والابتزاز لدرجة تدفع إلى الاعتقاد بأن أعمال التنكيل والاستهداف المنهجي تقترب من الإبادة والاستئصال لأسباب عديدة منها تتعلق بالدين ونظرته التعصبية اللامتسامحية وأمور أخرى كثيرة.

 

هذا كله دفع السكان أن يتركوا البلد ويهاجروا ويسكنوا بلداً غير بلدهم من أجل نيل السلام والأمان وحماية أبناء عوائلهم، ولكن حينما ندرك ذلك جيداً سنقول: خسارة للبلد الذي يتركه أهله من أجل لقمة وسلام وأمان، فالهجرة حدود ملتهبة تُميتنا من الداخل لنحيا من أجل المستقبل المهمَّش وربما الضائع إلا لبعض منا.

 

لذا فنحن اليوم أمام مأساة مستمرة تستهدف الوجود المسيحي في المنطقة بسبب هذه الهجرة المؤلمة وهذا كله يحدث وسط صمت إسلامي وعربي وأيضاً غربي إلاّ من بعض الأصوات ذوي الإرادة الحسنة وهذا ما لا ينفع المواقف المندِّدة لهذه الاستهدافات، فمعظم الجماعات المسيحية في الوطن جماعات مسيحية صغيرة عددياً وكلها تفتش وتسأل عن المواطنة والمساواة مع الأغلبية ومع جميع المكوِّنات الأخرى ولا يطلبون حماية أجنبية كما يُشاع أحياناً ولكن للزمن تعليقات وآراء، فحتى المجتمع الدولي لم يعمل على حماية المسيحيين ويمنعهم من الهجرة.

 

نعم، إن التعلّق بالأرض لهو عنصر أساسي من هوية الأشخاص والشعوب ولذلك من البُدّ أن لا تقف المرجعيات المسؤولة متفرجة وعدم الاستسلام للمخططات وخاصة ما يخص الأراضي والأملاك العقارية.

 

أتوجه بسؤال وأنا على يقين أنه سوف لن يُسمَع أو سيتغاضى عنه أغلب المسؤولين: أين هي ردّة فعلكم؟ وأين أنتم من هذه المأساة ولهذا الواقع المؤلم ومن المستقبل المجهول؟ ليس هذا لإدانة أحد وتبرئة حالنا بل على إعلاء الصوت تصعب الحلول للمشاكل الوجودية، وربما نكون قد أهملنا العديد من الفرص - إن كان بقصد أو بغيره - وفاتنا الكثير وما يهمّنا اليوم وضع الأمور في نصابها والتحرك العاجل لاحتواء كل نكساته وهفوات ماضيه بعد أن تعالت أصوات الكثيرين بالإصلاح والمصالحة.

 

فاليوم لم يعد مقبولاً ترك الأمور دون تخطيط ورؤية مستقبلية، دون التفاف جميع القوى الفاعلة في حركة نهضوية إصلاحية.  فالمطلوب جواب سريع وتصرف حكيم على قدر المسؤولية وحجم المشكلة وإلا فعلى الأرض السلام. قد يلومني البعض ويعاتبني لأنني قد تطرقتُ أو وجّهتُ الكلام لكبار المعابد وكبار الزمن، فالمعبد أو الحياة ليسا مسؤولين كنسيين فحسب بل هما جماعة المؤمنين الذين يجتمعون معاً للصلاة والخدمة وحمل رسالة المسيح للعالم أجمع ومن هنا تتضح الرؤية الشمولية في مسؤولياتنا جميعاً في تحقيق مصلحة وخير المسيحيين الصامدين في أرض الوطن وخارجه، وهذا لن يتحقق دون توحيد الكلمة والموقف وليس حب الذات وكبرياء المركز لكي تُتَرجَم واقعاً فاعلاً ومؤثراً تجاه وضع المسيحيين في الشرق رغم امتياز بعض منهم حقوق المواطنة.

 

لذا لندرك أن حماية المسيحيين في العراق جزء من حماية كل مسؤول وكل جماعة طائفية ودينية، ويتوافق هذا مع حماية العراق من الإنقسامات والحرب الأهلية. فالكرسي الرسولي - قالها البابا فرنسيس في زيارته للعراق من 5-8 آذار 2021 - مستمر بالعمل لحين بقاء المسيحيين العراقيين في أرضهم التي هي إرثهم، ويعيشون ملء الحرية الدينية لإيمانهم، ومتمنياً كذلك للذين كانوا مضطرّين للهجرة أن يتمكنوا من العودة عن قريب، وأن يجدوا في العراق - بلدهم - مكاناً آمناً حيث يمكنهم أن يسترجعوا نشاطاتهم وفعالياتهم. وأردّد ثانيةً ما قاله البابا فرنسيس: إن الطابع القسري لكثير من هذه الهجرات يتطلب ردّاً سريعاً وفعّالاً (خطاب البابا فرنسيس لدى استقباله المشاركين في المنتدى الدولي "هجرات وسلام"، الفاتيكان، الثلاثاء 21/2/2017).

 

وختاماً، يا رب، أنتَ أتيتَ إلينا فعلّمنا حبّ أوطاننا وشعوبنا... نعم وآمين.