موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

اللقاحات وتحيز الإغفال

د. عاصم منصور

د. عاصم منصور

د. عاصم منصور :

 

في مشهد لافت من مشاهد المسلسل الروسي الأكثر مشاهدة على شبكة نيتفليكس "إيبيدميا" (الوباء)، والمستوحى من رواية الكاتبة يانا فاغنر "بحيرة فونغ"، والذي يصور لنا حالة الفوضى التي تصيب مدينة موسكو نتيجة تفشي فيروس قاتل يصيب الرئتين، حيث ينقل المخرج مشاهد مخيفة لأناس يتقاتلون للظفر باللقاح المضاد لوقف هذا الوباء، لكن حسابات العالم الواقعي كذبت حسابات العالم الخيالي، فرغم مرور حوالي العام على انتاج اللقاح المضاد لـ(فيروس كوفيد- 19) إلا أنّ نسبة كبيرة من الناس ما زالت في الإقبال عليه.

 

فقد خلصت دراسة حديثة أجراها باحثون أردنيون، وقام موقع عمّون بنشر ملخص لها، إلى أنّ ما يقارب نصف الأردنيين ما بين مترددين وممتنعين عن تلقي اللقاح، وتزامنت مع هذه الدراسة الأنباء التي تواردت حول قيام البعض بتزوير شهادات المطاعيم ودفع رشا لبعض العاملين في مراكز التطعيم من أجل سكب محتوى "السرينجات" خارج الجسم بل إن بعض الدول قد شهدت ظاهرة تحاكي تجارة الأعضاء من خلال استئجار بديل لأخذ اللقاح مقابل مبلغ من المال.

 

ويَردُ الباحثون الأسباب الرئيسة التي يُعلل بها المُستفتون أسباب إحجامهم عن تلقي المطعوم، الى عدم الثقة باللقاح، والسرعة التي أنتج فيها، وآلية الموافقة على استخدامه، ومدى سلامته، والاعتقاد بأن تلقي اللقاح من قبل الآخرين وتحقيق نسبة جيدة من المناعة المجتمعية، قد يعفيهم من المسؤولية، من باب فرض الكفاية أو "المسافر المجاني".

 

وهذه النتائج لم تكن مفاجئة بالنسبة لنا، إن كان من حيث الأرقام أو حتى أسباب الامتناع عن تلقي اللقاح، فهي عامة وتشمل ولو بصورة متباينة معظم دول العالم، فالتردد في الإقبال على اللقاحات وإثارة الشبهات حولها سبق جائحة كورونا بسنوات؛ الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية لاعتبار هذه الظاهرة ضمن أخطر عشرة سلوكات تهدد الصحة العامة والبشرية.

 

وتشير مجلة "فورين بوليسي" في مقال حول الأسباب التي تدفع البعض الى الإمتناع عن أخذ اللقاح، الى أنّ ما يحكم سيكولوجية البشر تجاه أي تداخل صحي بما فيها اللقاحات هو مدى الفائدة الشخصية المرجوة منها، وكلما كانت هذه الفائدة أو المكافأة ملموسة وعاجلة كانت ردة فعلنا العاطفية تجاهها أقوى وقبولنا لها أكبر.

 

ففي حالة اللقاحات، فإن ما يدفع البعض إلى التردد في تلقيها أو حتى الامتناع عنها ظاهرة تسمى: انحياز الإغفال "Omission Bias"، إذ يعتبر هؤلاء أن الآثار الجانبية للّقاح أكثر خطورة من الامتناع عن تلقيه وبالتالي الإصابة بالمرض، فنحن بطبعنا نميل الى تعظيم الفائدة المنظورة على حساب تلك المرجوة، فنحن نرى في تناول لفافة تبغ أو شطيرة “بيرغر” لذة آنية تفوق خطر احتمالية الاصابة بمرض قاتل بعد سنوات.

 

لقد ركزت الإشاعات المضادة للّقاح والتي تقف ورائها مجموعات منظمة وواسعة الانتشار على هذا الوتر السيكولوجي الحساس في مخاطبة الناس من خلال تعظيم الآثار الجانبية للقاح وتصيد كل ما يعزز ذلك من أنباء واشاعات وفي نفس الوقت التقليل من حجم الخطر الناجم عن الإصابة بالمرض واشاعة أنه مجرد "رشح عادي" لا يستحق كل هذا الاهتمام؛ لذلك يرى الكثيرون أن الوسيلة الأنجع للتصدي لهذه الظاهرة تكمن في مخاطبة سيكولوجية "تحيز الإغفال" من خلال التركيز على الآثار المترتبة على الامتناع عن تلقي اللقاح، كونها تفوق أعراض اللقاح الجانبية بمرات عديدة.