موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأخذ

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأخذ (أعمال الرّسل 35:20)

السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأخذ (أعمال الرّسل 35:20)

 

عظة الأحد السّادِس والعشرون - ج

 

أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمَسيحِ يسوع. إنجيلُ هَذا الأحد، يُتَمِّمُ مَا جَاءَ بِه إنجيلُ الأحدِ الْمَاضي! فَفيهِ قَرَأنا مَثلَ الوَكيلِ الخائِنِ الفَاسِد، مُبذِّرِ الأموَالِ وَناهِبِها. وَسَمِعنَا تَحذيرَ الْمَسيح، بِأنْ لا أَحدَ يَستطيعُ أَنْ يَعمَلَ لِسَيّدَين؛ فاللهُ والْمَال لا يَستَويانِ على نَفسِ القَلب، فَإمّا الله، وإمّا الْمال. واليوم، في إنجيلِ الأحدِ السّادسِ والعشرين، نَستَمِرُّ في نفسِ الفِكرَة، إذْ نَقرَأُ مَثَلَ الغَنيِّ الجَشِعِ، أَعمَى البَصَرِ والبَصيرة، الّذي أَعمَاهُ غِناهُ وَدناءَةُ نَفسِه، وَبُخلِه وَفَجَعِه، لَيس عَن رؤيَةِ الله فَحَسب، بَل عَن رُؤيةِ أَخيهِ الإنسانِ أيضًا: لعازِر الْمِسكين، الْمُبتَلى بالأوجاعِ والآلام.

 

فَبَينَ غَنِيٍّ يَتَنَعّمُ كُلَّ يَومٍ بِمَأدُبَةٍ فَاخِرَة، وَبينَ فَقيرٍ مُعوزٍ يَشتَهي الفُتَاتَ الفَائِضَ عَن مَائِدَةِ الغَنيّ، تَضيعُ العَدَالَةُ بَينَ النّاس! فَالعَدالَةُ في عَالَمِنا جُزئيّةٌ ونِسْبِيَّة، تحكُمُها ظُروفٌ وَمَصالِحٌ وَسياسَات، وتَقومُ عَلى وَساطاتٍ وَمحسوبيّات! فَمن لَهُ سَنَدٌ وعزوةٌ وَكَثرَةٌ وقوّة، يُحقّق العَدالةَ، أو بِكَلِماتٍ أُخرى، يُحقِّقُ الْمَنفَعَةَ لِنَفسِهِ، بِشَكلٍ يَصُبُّ لِصَالِحِه، وَأَحيانًا بالعُنفِ وَطُرُقٍ غيرِ مَشروعَة. وَتَبقَى لِلطّرفِ الآخرِ الضَّعيفِ، الّذي لا حَولَ لَهُ وَلا قُوّة، ظُلمًا وَقَهرًا واعتِداءً على الحُقوق!

 

نَحنُ لا نُولَدُ جَميعنُا في عَائِلاتٍ غَنَيّة مُقتَدِرة، نَاجِحة اِجْتمَاعيًّا وَمِهَنيًّا. وَلَكن لِمَاذا لا يَسعَى البَشرُ لإغاثَةِ بَعضِهم البَعض، وَتحقيقِ الأمنِ الغِذائيِّ عَلى الأقل، وَتَوفيرِ أَساسيّاتِ العَيشِ الكَريم، لجميعِ سُكّانِ الْمَعمورَة؟ حَتّى أنَّ كَثيرًا مِن أَعمالِ الإغاثةِ والْمُسَاعَدَةِ الّتي تَجري اليوم، تَحْكُمُها سِياسَاتٌ وَتدابيرٌ وَمُخطّطات، وَليسَ عَلى أُسُسِ الإنسانيّةِ والحاجات!

 

كُنتُ دَائِمًا أَسمَعُ الْمَثَلَ القائِل: "الغَني الله بِغْنيه، وَالفَقير الله بِفقره". هَذا لَيسَ صَحيح! فَالغَني والْمَيسور مَاليًّا، لَدَيهِ دَائِمًا الفُرصَة والقُدرة، لأنْ يُغيثَ ويُعطي ويُنجِد. وَلكنَّ الأغلَبيّةَ، حَالُها كَحَالِ غَنيِّ مَثَلِ اليوم، مُنْشَغِلَة فَقط بِالحَصَادِ لِنَفسِها. وَانْشِغَالُها النّابِعُ مِن طَمَعِها وَبُخلِها وأَنانيَّتِها، وَإِيثارِها الْمُفْرِطِ لِنَفسِها، هوَ مَا يَمنَعُها عَن الالتِفاتِ إلى حَاجَةِ الْمُحتَاجين، وإغاثةِ غَيرِها، وَالْمُساهَمةِ في عَمَل الخيرِ. حَتّى الْمزمور يَقول: ﴿لا يَفتَدي أَخٌ أخاه﴾ (مز 8:49). فَإذا كانَ مِن الصَّعبِ عَلى الأخِ، أن يُغيثَ وَيفتِديَ أَخَاهُ الّذي هُوَ مِن صُلبِهِ، فَكَيفَ نَحلُمُ بِعَالَمٍ يَخلو مِنَ النَّهبِ والاسْتِئثَارِ والفَجَع، والجوعِ والفَقرِ والوَجَع؟!

 

لَعازَرُ الْمسكينُ حاضِرٌ في بُيوتِنَا وفي مُجْتَمَعاتِنا، في كَنَائِسِنا وَرَعايانَا. في كُلِّ مَكانٍ وَزمان، هُناكَ مَن يَشتَهي عَمَلَ رَحمةٍ وَرَأفَةٍ ورِعايَة! وَلَيسَ بالضّرورَةِ أَن يَكونَ دائِمًا عَمَلًا جَسَديًّا ومادِيًّا، فَأَحيانًا هُنَاكَ مَن يَلْتَمِسُ اِلْتِفَاتَةَ رَحمةٍ رُوحيِّةٍ وَمَعنَويّة، مِن خِلالِ كَلِمَةِ عَزاءٍ وَتَشجيع، تُبَلسِمُ وَتُطَبِّبُ جراحَ النّفسِ النّازِفة! وَهوَ عَمَلُ رَحمةٍ لِلمَسيحِ نَفسه، فَإنَّهُ: ﴿كُلَّمَا صَنَعتُم شَيئًا مِن ذلِكَ لِواحِدٍ مِن إخوَتي هؤلاءِ الصّغار، فَلي قَد صَنَعتموه... وَأيَّما مرَّةٍ لَم تَصنَعوا ذلِكَ لِواحِدٍ مِن إخوَتي هؤلاءِ الصّغار، فَلي لَم تَصنَعوه﴾ (متّى 40:25، 45). فالنّاسُ بِمِقدَارِ حَاجَتِها لِرَحمَةِ رَبِّ النّاس، هي بحاجَةٍ لِرحمَةِ النّاسِ للنّاس!

 

يا أحبّة، إنَّ صَديقَنا لعازر الْمِسكين، كانَ مُلْقىً عِندَ بابِ الرّجُلِ الغّني، والّذي اعتَادَ التّنعُّمَ بالطَّيبَات. في الوَقتِ عَينِه، حالُهُ كَحَالِ أَيّ وَجيهٍ اجتِمَاعي، يُقيمُ مَآدِب طعام، وَيَدعو إِلَيهَا العَديدَ من الْمَدعُوّين! وَهَذهِ هي لُغةُ الْمَصالِحِ الرّأسماليّة، الّتي تَتَحدَّثُها هَذهِ الطّبقَةُ مِنَ النّاس. لِذلِك أَرَى أنَّ الخَطَأُ، لا يَقَعُ فَقط عَلَى عَاتِقِ الغَنيِّ وَحدَه، بَل عَلى عَاتِقِ ضُيوفِه أيضًا! هُم جَميعًا مُذنِبونَ بِحقِّ لعازرَ الْمسكين، لأنَّهُم جَميعًا كَانوا يَدخلونَ مِن نِفسِ الباب، الّذي كانَ لَعازرُ الْمُتألّم والجائِعُ، مُلقَىً عِندَه! وَمع ذلِك، لَم يَقُم أَحَدٌ بالالتِفاتِ إِلَيهِ وَإغاثَتِه! هَمُّهُم بُطونَهم يحمِلونَها أَمَامَهم، لِيَمْلَؤوها مِن الخيرات! وَقَد قَسَّوا قُلوبَهُم، وَخَدَّروا ضَمائِرَهم، وَجَمّدوا مَشَاعِرَهم، وَغَلّقوا عُيونَهم وَسَدّوا آَذانَهم، لِكي لا يَسْمَعوا آهاتِ الْمُتَألِّم، ولا يُعاينوا حاجاتِ الْمُستَعطِ الضّعيف!

 

هَذهِ الفِئاتُ مَوجودةٌ في رَعَايانا أَيضًا، مَنْ يَتَهرّبونَ دَومًا مِن الْمَسؤولية (مش شُغلي)، أو يُلقونَ الأحمالَ والأعباءَ على غَيرِهم، ولا يُحرّكونَ سَاكِنًا في سَبيلِ الخيرِ والصّالحِ العَام، أو تَجِدُهُم يُمارِسون دورَ الْمُنَظِّرِ والْموجِّه. وَعِندَ الحَاجَة لا تَجِدُ سِوى قِلّة قَليلة تُغيثُ وَتُنجِد بِحَق!

 

إنّ سَدَّ الحاجاتِ في رعايانا لَيسَت مَسؤوليةَ الكاهِن فَقط، أو مَسؤوليّة أَفرادٍ في الرّعية فَقط، بَل هي مسؤوليّةٌ جَماعيّةٌ عَامَّة. فَسِفرُ أَعمالِ الرُّسل، يُحدِّثُنا كَيفَ أَنَّ الجَمَاعةَ كَانَت قَلبًا واحِدًا وَنَفسًا واحِدة، في صلاتِها وفي خِدمَتِهَا وفي مَسؤوليّتِها، تجاهَ بعضِهَا البعض، ولِذلِك: ﴿لَم يَكُن فيهم مُحتاج﴾ (أعمال 34:4). فَلَسنَا بحاجةٍ إلى فَلْسَفَةٍ اشتراكية، وَلَنَا في الاشتراكيةِ الصَّحيحة، أَفضلُ مِثالٍ مِن حياةِ الكّنيسةِ الأولى!

 

نَحن نَتوقُ إلى جماعاتٍ تَشعُرُ مع بَعضِها البَعض بِصِدقٍ أَكبَر، تَسندُ الّذينَ هُم في ضِيقَة، وَتُغيثُ مَن هُم في شِدّة. تُعزّي مَن يحتاجُ إلى عَزَاء، وتكسِرُ خُبزَها مع الجائِع، وتُخَفّفُ أَوجَاعَ الْمتألّم، وَتُطهّرُ قُروحَ لعازرَ الْمسكين!

 

يا أحبّة، جميلٌ جِدًّا أن يكونَ بَينَنا كَثيرٌ مِن السَّامريينَ الرُّحَمَاء، وَليسَ سَامِريٌّ واحِدٌ فَقط، نَركنُ إليهِ وَعَلى "دابّتِهِ"، الّتي تَقَوَّسَ ظَهرُها وانْحنى، مِن كَثرةِ الأحمالِ الّتي أُلْقيَت وتُلقى عَليها وَعَليه (راجع مثل السّامري الرّحيم لوقا 25:10-37). الْعَطاءُ جَميلٌ عِندَما يكونُ مُشْتَرَكًا، وَعَمَلُ الخيرِ جَميل عِندما يَتعاوَنُ الجميعُ فيِه! أَمَّا الاستِغلالُ فَبَشِعٌ وَمؤذي. إذْ، قَد يأتي يومٌ يَنفُضُ فِيهِ السَّامِريُّ الطَّيب، الغُبارَ العَالِقَ تحتَ قَدَمَيه (راجع لوقا 11:10)، وَيغسِلُ يَديِه، وَيَمضي إلى مَوْضِعٍ آخر.