موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٢ مارس / آذار ٢٠٢١

الدستور الحقيقي لعراق جديد

كاتب مصري

كاتب مصري

إميل أمين :

 

ينبغي القول إنه من الطبيعي أن لا نحمل زيارة البابا فرنسيس الأخيرة للعراق، ما لا تحتمله، فالرجل بالفعل ليست لديه فرق عسكرية لتغيير أوضاع العراق، إلا أنه ومع ذلك يمكننا القول بعد زيارة تاريخية وناجحة، أن الرجل ذا الثوب الأبيض، والمتثاقل الخطى من جراء التهاب أعصاب ساقه، قد وضع العراق والعراقيين، أمام استحقاق دستور جديد، دستور يفوق مواد القانون الوضعي، دستور أخلاقي، إيماني ووجداني، قادر على نزع الكراهيات من الصدور، وبلورة رؤية لعراق موحد متجانس مرة جديدة.

 

تاريخياً لا يثق العراقيون بالغرباء، ومن خلال خبرات العقود الثلاثة الماضية زاد الإحساس بتآمر العالم على العراق، وهذا في بعض منه صحيح جداً، غير أن العراقيين اجتمعت كلمتهم من شمال البلاد إلى جنوبها على محبة واحترام هذا الرجل الذي جاء حاجاً إلى أرض إبراهيم الخليل، باحثاً عما يوفق ولا يفرق، ما يجمع ولا يبعد.

 

أظهرت جولات فرنسيس وراء جدران الفاتيكان أن الدستور الذي يحتاجه العراق لانتشاله من وهدة الهلاك، لا يمكن أن يكتبه إلا العراقيون أنفسهم، وليس أحد غيرهم.

 

ولعل مشاهد اصطفاف الجماهير العراقية، بكل مكونات العراق الطائفة والمذهبية والعرقية، على جوانب طرقات المدن التي زارها البابا، قد أزاحت ركاماً كثيراً، كاد يغطي على المعدن النفيس لشعب ضفرت نسيجه الاجتماعي حضارات خمس، سومرية، أشورية، بابلية، كلدانية، عربية، وجميعهم انصهروا في بوتقة حضارية واحدة.

 

صور زيارة فرنسيس للعراق، ذكرت العالم برمته بأن العراق لم يكن من الوارد أبداً أن يضحى دولة «داعشية»، ترفع شعارات سوداء الشكل والمضمون، وبالقدر نفسه أكدت مظاهر استقبال العراقيين سياسيين وإكليروس، سنة وشيعة، عرباً وأكراد، أنه من غير الوارد، ومهما بدا خلاف ذلك، أن يضحى عراق الرشيد، امتداداً للخمينية السياسية، أو أن يصبح دالة للملالي في طهران.

 

نجح العراق في أن يظهر وجهاً حضارياً لشعب تعود جذوره إلى بضعة آلاف من السنين، لم يصدر العراق منصات الصواريخ الانتقامية المتنقلة، ولا كان موضع تخطيط لميليشيات كواتم الصوت لاغتيال المعارضين وإسكات أصحاب الرأي والقلم، بل كان عراق بيت الحكمة، حين كانت الأفكار تقدر بالذهب.

 

سلطت زيارة فرنسيس الضوء على أوضاع المسيحيين العرب في الشرق الأوسط، حالهم ومآلهم، وقد يكون الهروب إلى الماضي المجيد منفذاً للتنفيس عن هموم الحاضر، لا سيما عند مسيحي العراق، الذين لم يتبق منهم إلا نحو ثلاثمائة ألف، بعدما كانوا نحو مليون ونصف المليون مع بداية الألفية الجديدة.

 

كان العراق شاهداً أميناً على الدور الحضاري الذي لعبه النصارى العرب، ضمن مكون الحضارة العربية الإسلامية، ففي زمن بيت الحكمة، وخلافة المأمون ابن هارون الرشيد، ترجم السريان العرب علوم وآداب اليونانيين القدامى إلى العربية، وقد وجد من بينهم الفلاسفة والمفكرين، الأطباء والصيادلة، الوزراء والمؤتمنين على أحوال البلاد، فكان المعين الحضاري العربي الإسلامي، ترجمة لفكر المواطنة، وهو أمر ينبغي النظر إليه بعين ثاقبة في حاضرات أيام أمة إذا عادت إلى الوراء، ستجد مستقبلها كائناً هناك.

 

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن مشاغبة أفكار فرنسيس التي وردت في كلماته المتعددة التي ألقيت خلال الزيارة، والتي يمكن إجمالها في طرحه الأخوي، ذاك الذي عبر عنه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ضمن رسالته البابوية المعروفة «كلنا إخوة».

 

دعوة فرنسيس لأن تصمت الأسلحة، هي بداية طريق الحياة والنجاة للعراق من الغرق في يم العداوات، وإشارته إلى التنوع الخلاق، الذي يكسب العراق مذاقاً حضارياً حقيقياً، درب آمن يمكن للعراقيين أن يمضوا عليه لينقلهم من الواقع الأبوكاليبسي الكارثي الآني، إلى رحابة فكر المؤمنين إخوة، وبنياناً مرصوصاً يشد بعضه البعض.

 

أظهرت زيارة الحبر الروماني إلى العراق أن عمر الحركات الشمولية التي تقهر الكرامة الإنسانية، ضئيلٌ ولو طال الزمن، فبعد سبعة عقود انهارت الشيوعية، ومن قبلها رأى العالم اندحار النازية، ومعها هزمت الفاشية، وقد جاءت الرحلة لتنبه العالم إلى خطر الأصوليات الضارة، وكارثيتها على البشر والحجر.

 

بينت بعض ملامح الزيارة، لا سيما في الموصل قدر الدمار الذي حاق بالحجر، والمرارة التي علقت في حلوق البشر، وهنا ربما تستلفت مشاهد الألم الضمير العالمي، وتدعو القوى الإمبريالية الكبرى التي كانت سبباً مباشراً فيما آل إليه العراق، لمد اليد لمساندة شعبه على النهوض، وليس جعل أراضيه ملعباً خلفياً لحروب الوكالة، ما يعني أن يمضي العراق ومن جديد على طريق الآلام.

 

أنفع وأرفع ما فاه به البابا المحبوب من العالم الإسلامي، الذي رفض أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين، هو أن العراق في حاجة لترميم روابط أبنائه... وهذا هو الدستور الحقيقي لعراق جديد.

 

(الشرق الأوسط)