موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٨ أغسطس / آب ٢٠٢٢

"الحريّة الإلهيّة!" بين كاتبي نبؤة اشعيا والإنجيل الثّالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (اش 66: 18- 21؛ لو 13: 22- 30)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (اش 66: 18- 21؛ لو 13: 22- 30)

 

مقدّمة

 

في هذا الوقت الكنسيّ الّذي ننمو فيه ككنيسة من خلال الاستعدادات السينودسيّة (2021- 2023)، مدعوين للسير كلنا كمؤمنين معًا بخطوات تتبع يسوع المعلم. لذا ننمو في هذا السيّر أيضًا من خلال مسيرتنا الكتابية مُتتبعين في مقالنا هذا نصيين الأوّل من نبؤة اشعيا (66: 18- 21) بالعهد الأوّل والثاني بالإنجيل الثالث (لو 13: 22- 30) بالعهد الثاني. موضوع مقالنا هو "حرية الرّبّ". سنتعرف على سبب حرية الله في اختياره لوثنيين ليصيروا بين الكهنة واللاويين والمبشرين به في النص الأوّل. بالنسبة للثاني، قد يبدو لنا منذ الوهلة الأوّلى أن النص بحسب إنجيل لوقا قاسياً للغاية، لكن من خلال بعض التفسيرات المرتبطة بقراءتنا بالنص الإشعيائي، والّذي يُفاجئنا بتدخل إلهي عجيب هادفًا إلى تجميع كل الشعوب وبدون استثناء. كذلك سنقرأ النص بحسب لوقا والمرتبط فيه بسياق تدريجي مع ما يسبقه وما يليّه. يفتح موضوع أمامنا "الحريّة الالهية" مجال للتفكير في السؤال الموجه إلى يسوع عن كمية الّذين سينالون الخلاص! وهذا التساؤل أيضًا يعود فقط إلى حرية الله وليس من شأن أيّ إنسان. سنكتشف من خلال هذين النصيّن مفاهيم تدور حول احترام حريّة الرّبّ وتبعيته بحسب رؤيته، لأنّه هو "الرّبّ – أدونايّ" والربوبيّة فقط له ونحن مجرد خلائقه.

 

 

1. شمولية الخلاص تصل للوثنين (اش 66: 18- 21)

 

يغنينا النص الأوّل من نبؤة اشعيا بوجهة نظر كتابيّة جديدة ستنمو أكثر في قبولنا معنى الجوهر الكتابي بالنص الإنجيلي لاحقًا. هذه الرسالة تحمل الجديد في الانفتاح الشمولي لإعلان الخلاص الإلهي، لكل البشرية. في واقع الأمر، يتحدث اشعيا في هذا النص عن بُشرى جديدة تصل إلى الوثنين الّذين لم يعرفوا بعد الرّبّ -أدونايّ- كإله لإسرائيل. ونتبيّن هذا من خلال كلمات اشعيا القائل: «أَمَّا أَنا فنَظراً إِلى أَعْمالِهم وأَفْكارِهم، قد حانَ أَن أَجمع جَميعَ الأُمَمِ والأَلسِنَة، فتأتي وتَرى مَجْدي» (66: 18). حينما نجد لفظ الأمم في كِلا العهدين، نعلم أنّ النص يتحدث عن الوثنيين من جانب وعن إعلان الرّبّ بعودة إسرائيل الـُمشتت في بلاد غريبة بسبب قبوله الروّح الوثنية وإهماله لإلهه. ولكن تُكشف أيضًا رسالة النبي جديدة وهي تجّمع شعب الله من جديد في أورشليم لعبادة إلههم-أدونايّ ليس بمفرده، كشعب مختار، بل بكامل حريته سيدعو آخرين من أصل غير يهودي ليعم بشمولية خلاصه لكل خلائقه. يكشف هذا عن إستمرارية الكشف الله عن هويته ورغبته في فتح باب الخلاص للجميع. مقصد الرّبّ الحرّ يهدف لتقديم الخير للشعب، سواء اليهودي أو الوثني، بدون استثناء. ونلاحظ إنّ النبي يُشدّد على ربوبيّة أدونايّ – الرّبّ إله إسرائيل الّذي هو رّبّ كل البشر بدون استثناء.

 

 

2. آية اختيار الوثنيين للرسالة (66: 19- 21)

 

يقدم نص اشعيا صورة قوية، يُطلق عليها في اللّاهوت الكتابي، الاسكاتولوجيا. الاسكاتولوجيا هي مصطلح يشير لمجموعة من الموضوعات الّتي ترتبط بالأمور الأخرويّة. تبشر هذه الرؤية بمستقبل خلاصي جديد حيث يعبد جميع الشعوب فقط إله بني إسرائيل. يظهر هنا مبدأ جديد وهو أنّ الوثنين يصيرون مبشرين، هذا المبدأ يحطم الكثير من اليقينيات الدينية الّتي كانت سائدة في عصر النبي والّتي لمّ تنتمي لبني إسرائيل من قبل. وفي هذا الوقت بالتحديد يتدخل الرّبّ بآية عجيبة مُعلنًا بطريقة مُروعة من خلال النبي، أن الكهنة واللاويين سيختارهم بحسب حريته الكاملة، من بين الوثنين قائلاً: «وأَجعَلُ بيَنَهم آيَةً وأُرسِلُ ناجينَ مِنهم إِلى الأُمَم، [...] والجُزُرِ البَعيدةِ الَّتي لم تَسمَعْ بِسُمعَتي ولم تَرَ مَجْدي، فيُنادونَ بمَجْدي بَينَ الأُمَم ويَأتونَ بِجَميعِ إِخوَتكمَ مِن جَميعِ الأُمَمِ تَقدِمَةً لِلرَّبّ[...]، كما يَأتي بنو إِسْرائيلَ بِالتَّقدِمَةِ في إِناءً طاهِرٍ إِلى بَيتِ الرَّبّ. ومِنها أَيضاً أَتَّخِذُ كَهَنَةً ولاوِيين، قالَ الرَّبّ» (66: 19- 21). يخبرنا النبي بأنّ الله على موعد بلقاء الكهنة واللاويين، داعيًا إياهم من بين الأمم الوثنيّة ليعلنوا كلمته. من هذا الجانب نجد أن الجديد هو إعلان الخلاص الشامل بقرار إلهي. فالرّبّ لا ينظر إلى الانتماءات والامتيازات والاحتفالات، ... فهو إله حقيقي لكل الشعوب وله كامل الحرية لاختيار مَن ينتمي إليه من رجالًا ونساء. هذا ليس لتقليل دور إسرائيل كشعب الله المختار بالعهد الأوّل أو في مستقبل الكنائس بالعهد الثاني، ولكن لحماية إسرائيل والكنائس من أي إغراء لفكرة الخلاص الذاتي وانفتاحه على الخلاص الشامل والّذي يريده الرّبّ. إن دور إسرائيل فريد من نوعه، وهو الّذي يمتد، حتى يومنا المعاصر، في الدور الكنيسي، ولكن هناك حقيقة ثابتة وهي أن الخلاص يبقى في يد الله وبحسب حريته.

 

 

3. مَنْ يَخْلُصْ! (لو 13: 22- 25)

 

على ضوء نص اشعيا الّذي انفتح الله فيه بنعمة الخلاص لجميع الشعوب، نجد إنّ لوقا يفتتح النص الثاني بتساؤل بلاغي مُوجه ليسوع: «يا رّبّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟» (لو 13: 23). هذا السؤال قد يجعلنا مرتبكين بعض الشيء كموقف التلاميذ. بل علينا أنّ نفهم العكس تمامًا من خلال إجابة يسوع الّتي لا تأتي كرد على محاوره، بل يكشف الجديد من خلال إجابته. هذه الإجابة تحمل ذات الفكر الّذي أجاب به يسوع على تلاميذه قبل صعوده المباشر إلى السماء (راج أع 1: 1- 9). ومن هنا أدعوكم أيها القراء الأفاضل إلى توسيع رؤيتنا لنظرة عامة لسياق النص بوجه عام.

 

فالعنصر الأساسي الذي يرسم سيّاق هذا الحوار هو توجه يسوع نحو أورشليم الّذي بدأ في لوقا 9 :51. يسير يسوع، معنا ككنيسة سينودسيّة، نحو هدفه الحازم بطريقة متوازية مع رسالته بأكملها. ويسير تلاميذه ورائه على ذات الطريق (راج لو 13: 22). هذا السير هو تعبير مجازي أيضًا عن التبعيّة والتلمذة المسيحية الّتي تعني السير وراء الرّبّ وعلى ذات الطريق الّذي سلكه. وفي الطريق المباشر نحو أورشليم، يأتي الحوار حول "عدد" الّذين سينالون الخلاص. إلّا أن هناك عنصر ثاني من خلال السيّاق المباشر لنصنا، نجده يتم بعد سرد حدث مباشر لشفاء امرأة مُنحنية الظهر (راج لو 13: 10- 17) يوم السبت. دام صراعها مع المرض لمدة ثماني عشر وقد شفاها يسوع، مما جعلها تتمكن من الحياة بشكل طبيعي. إلّا أنّ هذا الشفاء أثار غضب رئيس المجمع. وتدّخل يسوع مُعلنًا إنّه بحريته فعل الخير وموبخَّا هذا النفاق مشيراً إلى معنى الشريعة في حقيقتها وهو عدم التقيد بالشكليات. هذا يدعونا ككنيسة أن نسعى في السير وراء المعلم بألّا نتوقف أمام المظاهر والشكليات الأرضية الخادعة، ولكن بنظرة متوسعة على حرية الرّبّ الّتي لا يمكننا تقييدها.

 

 

4. مثل "الباب الضيق" (لو 13: 26- 30)

 

نصل الآن لقلب نصّنا من خلال إعلان يسوع تعليم من خلال مثل "الباب الضيق" لتقديم تفسير واقعي لفهم ما سيقوله لاحقًا. من خلال المثل، يسوع لا يجيب إجابة مباشرة على السؤال الذي طُرح عليه حول: "قلة هم الّذين يخلصون؟" قد يخفي اقناع رجال الدين بوضع الحدود فيما يتعلق بالخلاص والعلاقة الصحيحة مع الرّبّ. عادةً ينتهي الأمر برسم حدود حول الذات. تصبح هذه الخطوط المرسومة بين مَن هو في الداخل ومَن في الخارج مُستبعدًا الآخرين. غالبًا ما يرغب الرجال والنساء المتدينون في معرفة مَن بالداخل ومَن بالخارج؟ مَن هو مقبول عند الله ومَن غير مقبول؟ لكن عدم إجابة يسوع المباشرة كشفت عن نفاق محاوره. فقد أعلن يسوع بحرية المخطط الإلهي في نهاية المثل جوهر تعليمه: «هُناكَ آخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين وأَوَّلونَ يَصيرونَ آخِرين» (لو 13: 30). يدعونا المعلم أن نفكر في ذواتنا باحثين بدون نِفاق عن المكان الأخير بروح التواضع. فاجئنا يسوع بأننا كخلائق علينا ألّا نفترض معايير أخرى للحكم، فهذا من شأن الحرية الإلهية وليس من الشأن البشري. لذا يشير يسوع بشكل إيجابي إلى الطريقة الّتي سهلّت الأمر بسرد مثل "الباب الضيق" للدخول إلى الملكوت، وطريقه الخاص هو الصعود نحو أورشليم، لتقديم ذاته. ويأتي صوت يسوع مُحذراً مَن يسلك طرقًا أو أبوابًا أخرى لخدمة الله برياء ونِفاق، قد يسمع يقول "لا أعرفك!". لأن الآب يدرك ملامح وجه الابن الحبيب في أولئك الذين تبعوه وساروا في طريق العطاء الذاتي والحب مما يُمكنهم من الاحتفاظ بهذه السمات في داخلهم وبشكل حقيقي.

 

 

5. مثلي: حبة الخردل والخميرة (لو 13: 28- 21)

 

بهذا المنطق والّذي نعتقد إنّه مختلفًا عن السياق المباشر لمقطعنا، يسبق نصنا مثلين موجزين: الأوّل وهو "حبة الخردل" (لو 13: 18-19) والثاني "الخميرة في العجين" (لو 13: 20-21). بهذه الرؤية، يعلن يسوع لتلاميذه - رمز لإسرائيل، نحن، أن نرى بعمق دعوتنا، ليس بهدف وضع حدود، ومعايير معينة، ولكن بهدف إيماني تاركين موضوع الخلاص للحريّة الإلهية الّتي لازّالت تعمل في حياتنا. ذلك يدعونا إلى النمو كبذور الخردل، وكالخميرة أي الحياة بروح اصغريّة للدخول من الباب الضيق. هذا المنطق الذي يدعونا للاختباء في كتلة العالم الكبيرة، مثل الخمير في الدقيق، حتى يتخمر كل شيء. هذا هو بدء الدخول من "الباب الضيق" الذي هو "يسوع ذاته" في عبوره لطريقه نحو أورشليم والّذي يضمن لنا الخلاص!

 

 

الخلَّاصة

 

موضوع الحرية الإلهيّة لدى كلا المُدونين، اشعيا ولوقا، كشفا لنا كلا منهما عن خاصية محددة. بالنص الأوّل اكتشفنا مدى حب الله الشمولي في منحه الخلاص حتى للوثنين. فما بالأحرى نحن المدعوين اليوم لقبول الخلاص الإلهي دون إدانة أو الحكم على الآخرين. وعلى ضوء هذه الحرية الإلهية التي انفتحت على غير اليهود، ساعدنا لوقا من خلال تساؤل رجل ما ليسوع أن نحترم المشروع الإلهي الّذي يهدف أن يشرك الكل بالدخول من الباب الضيق في الخلاص دون التمتع بالراحة الأرضية بل بتبعية المعلم في السير ورائه نحو أورشليم أيّ الصليب. نعم طريق الصليب هو طريق الخلاص الّذي اختاره الآب لنوالنا خلاص أبدي. دُمتم، أيها القراء الأفاضل، في نمو على طريق الخلاص الّذي بدأه يسوع من أجلنا.