موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٧ أغسطس / آب ٢٠٢١

"الجاهلية" والحكم القيمي!

موفق ملكاوي

موفق ملكاوي

موفق ملكاوي :

 

منذ عقود عديدة، يثار جدل كبير حول مصطلح الجاهلية؛ أهو تأشير على ما قبل اندراج المجتمعات العربية العديدة تحت لافتة الدين السماوي أسوة باليهود والمسيحيين، أم أنها صفة أصيلة تجذرت من خلال الممارسة اليومية وما تتأسس عليه من أعراف وتقاليد وقيم ترسخت في المجتمع على مدى السنوات، فمنحت المجتمع الصفة التي تنطبق عليه!

 

في الوجدان العلمي عند العرب والمسلمين، استقر أن معنى الجاهلية هي الفترة التي ظل العرب فيها بعيدين عن الرسالة السماوية المحمدية، والتي نقلت المجتمع من حالة رؤيوية متخيلة عن سيرورة الخلق وصيرورته، إلى «ينبغيات» عقدية لا تغادر أي أسئلة كبرى تتحدد فيها سلة الأهداف للخلق ووجود الإنسان ومقاصد الوجود والشريعة.

في هذا السياق، فرّق الدارسون بين جاهلية بمعناها الاصطلاحي، وجاهلية أخرى بمعناها المعجمي، والتي لا تنطبق بالضرورة على مجتمع ما قبل الرسالة المحمدية، وهو المجتمع الذي لا يمكن له أن يكون جاهليا بالمعنى المعجمي مع كثير من الشواهد والدلائل التي تعزز من أفكار الفضيلة والأخلاق، وممارسات الخير والجمال التي كانت سائدة فيه، ويتم اعتبارها أسسا للسلوك الإنساني القويم.

 

في سعيها لترسيخ وجودها وتمتينه، تتبنى المجتمعات، على اختلافها، قيما عليا وفضائل إنسانية تحاول من خلالها الإجابة على سؤال العدالة بإطلاقيه؛ الدنيوي والميتافيزيقي. إن سلوكها مثل هذا الأمر تعبير صريح عن أنها تريد تعزيز وجودها الدنيوي عن طريق البناء على المتحقق، وإدامة الصلة مع الحلم والتمني للطبقات التي تبحث عن عدالة نسبية كانت أكثر افتقادا لدى مجتمعات العصور الوسطى وما قبلها.

 

حتى لو كان المنطلق من نظرة نفعية أنانية بحتة، فقد كان مجتمع الجاهلية العربي مصمما على أن يتبنى الفضائل الإنسانية التي تمنح المجتمع بأكمله صفة العدالة، أو بالمعنى الفلسفي: الحسن والجمال.

 

حلف الفضول، في مكة ما قبل الإسلام، واحد من أشكال الاتفاق والممارسة التي حاولت من خلالها النخبة العربية الجاهلية التأشير على إمكانية تحقيق العدالة حتى للطبقات التي لا تملك بذاتها مقومات تحقيقها. الحلف أسسه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة، وجاء في أعقاب حرب الفجار الشهيرة بين كنانة وقيس عيلان، تأسس تحت شعار «أن لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته»، وهو بذلك يتبنى واحدا من أكثر الأهداف إنسانية، إذ لا يكتفي بمحاولة منع الظلم، وإنما رده وتحقيق العدالة.

 

الشعر الذي اصطلح على تسميته جاهليا، يمتلئ بالمعززات القيمية كالشجاعة والكرم وإغاثة الملهوف، وغض النظر، ورعاية اليتيم، وغيرها من الصفات التي ستكون مقدرة في أي مجتمع إنساني، بينما سنأتي في القرن العشرين إلى إطلاق عهود دولية ووطنية كثيرة تتبنى كثيرا من هذه القيم، وسوف نعتبرها أرضية حقيقية لمجتمع العدالة والتكافل وحقوق الإنسان، وكأنما نتعرف عليها للمرة الأولى في التاريخ.

 

بالتأكيد، هذا لا يمنع من وجود قيم وعادات كانت تتعارض كثيرا مع الخير والجمال، شأنه في ذلك شأن أي مجتمع آخر في تلك الحقبة المبكرة من الوعي المدني للإنسان، لكن بالتأكيد كانت هناك ملامح عديدة يمكن أن تؤشر على نضج متقدم لدى «عرب الجاهلية».

 

قلنا إن هذا الأمر راسخ في الوجدان العلمي لدى دارسي تلك الحقبة التي اصطلح على تسميتها بـ «الجاهلية»، لكن كثيرا من الدراسات الدينية تتعامى عن تلك الصور، وتحاول أن تسحب المعنى الاصطلاحي على المعنى المعجمي، لتؤشر إلى أن ذلك المجتمع كان غارقا في جاهلية حقيقية، وأنه يكاد يخلو من أي ملمح مدني أو إنساني.

 

أكتب في هذا السياق، وأنا مندهش كثيرا حول الكتابات التي ما تزال تستمرئ الظهور، وتمارس الخلط الكبير بين الاصطلاحي والقيمي. مجتمع الجاهلية لم يكن جاهلا قيميا، وعلى من يريد التأكد من ذلك أن يعيد قراءة التاريخ.

 

(جريدة الغد الأردنية)