موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

"الإِبدّاعُ الإِلَهيّ" بين أشَعْيا النَبِيّ ومَرقُس الإنجِيليّ

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"الإِبدّاعُ الإِلَهيّ" بين أشَعْيا النَبِيّ ومَرقُس الإنجِيليّ

"الإِبدّاعُ الإِلَهيّ" بين أشَعْيا النَبِيّ ومَرقُس الإنجِيليّ

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (أش 34: 4-7؛ مر 7: 31-37)

 

مقدّمة

 

نستمر في قراءتنا الكتابية لنصوص ما بين العهدين، هادفين لتَّلمُس الخيط الرفيع الذي يشمل كليهما ومؤكدين على التواصل بين الـمُدونين لصفحات الكتاب المقدس. نهدف في هذا المقال لقراءة تساعدنا على رؤية الإكتمال فيما بين العهدين في شخص يسوع كوسيلة إبداع الله. سنبدأ قرائتنا من خلال النبؤة الإشعيائية (34: 4-7) وسنَعْبُر بسفر التكوين (1: 1-2، 4) لنجمع خيط الإبداع الإلهي الذي بدأ قبل الميلاد إلا إنه تحقق ووصل لذروته في لمّسات وأقوال يسوع إبن الله وإبن الإنسان (مر 7: 31-37). بهدف العودة لمخطط الله عند الخلق.

 

1. رؤية الإستباقيّة (35: 4- 7)

 

نُفاجأ كمؤمنين اليوم بكلمات قليلة تحتويها النبؤة الإشعيائية من خلال أربعة آيات فقط بالإصحاح الـ 35. نسمع صوت النبي الّذي دّونّ نبؤته قبل تجسد المسيح بنحو ثماني قرون وتدوم الأحداث التي تسردها النبؤة حتى القرن السادس قبل الميلاد. مما يساعدنا اليوم من خلال قراءة هذه الآيات ومقارنتها بنصّ حَقَّقَ ما دُونَّ بالنبؤة بعدة قرون سابقة. نعلّم أنّ أشعيا قد تلقى دعوته بهيكل الرب وينتمي للأنبياء الكبار، لكثرة إصحاحات سفره. سنناقش بعض الآيات التي لم تُفهم في وقت النبيّ بوضوح ، إلا أن علاقة يسوع البشرية برجلٍ، بحسب مَرقُس، يُخبرنا أن ما كان غامضًا ومجهولاً لدى أشعيا الآن صار معلومًا وقد تحقق في يسوع الإبن الإلهي.

 

هذه الآيات 35: 4-7 مأخوذة من "كتاب التعزية" ونُطلق هذا العنوان كلاهوتييّن على اصحاحات خاصة من النبؤة والّتي تبدأ من الإصحاح الـ40 حتى الـ54. فيها يعلن نبيّ الرّبّ عن خلاص بني إسرائيل من السبيّ البابليّ بالقرن السادس ق.م. (385-358). تحمل رسالة النبي للمسبييّن ببابل حب الله الخلاصيّ: «قولوا لِفَزِعي القُلوب: "تَقَوَّوا ولا تَخافوا هُوَذا إلهُكم النَّعمَةُ آتِيَة هذه مُكافَأَةُ الله هو يَأتي فيُخَلِّصُكم". حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم» (35: 4-6). أراد النبي بشكل رؤيوي أن يبُشر المنفيين بالاستعادة السلام لأنه سيُعاد خلقهم من جديد من قِبل الرّبّ إلههم. وإحتوت النبؤة مفهوم خاص وهو أن اللأمانة "الخيانة" سبب إنحراف الشعب عن الله، حينما عَبَدَّ "شعب الله" البَعْل ورأى وسمع له أيّ تَعَلَّقَ باله ليس إلهه الحقيقي، فصار أعمى وأصمّ عن عجائب إله بنيّ إسرائيل "إله العّهَد".

 

إختبّر الشعب هنا عدم القدرة على الحياة بدون الرّبّ وحينما تَّاب وطلب الغفران أرسل الرّبّ محرر وثني "قورش" وهذا هو الإبداع الإلهي (راج نح 1-2) ليعيد شعبه إلى بلاده مُستعيداً علاقة العهّد بالهِهِ من جديد الّتي بمثابة خلق جديد لبني إسرائيل من خلال "البقية الباقية" (راج أر 42: 15). بالعودة إلى أرض إسرائيل، إنفتحت عيون الشعب الذيّ أعمَّته رؤية ما هو لا ينتمي للرّبّ، وبدأ من جديد يسمع لإلهه، ومَن صمت أمام ألم السبي بدأ يتغنى بعمل الرب. هذا تفسير إستباقي لكلمات النبي أشعيا بناء على الأحداث التي عاشها الشعب في تاريخه مع الرّبّ. سنقرأ على ضوء رسالة أشعيا كلمات مرقس من خلال لقاء يسوع ورجل كان أصّمْ وأبكّم. سنتوقف على الإبداع الإلهي الّذي تَّم بيسوع ليُعيد خلقه على الصورة التي أرادّها الخالق له من خلال الإستعانة ببعض نقاط من أحداث الخلق الأول الواردة بسفر التكوين.

 

2. الخلق الأول (تك 1: 1- 2: 4)

 

في عصرنا الحاليّ، عادة ما يُجرّب الإنسان مُحاولاً تحقيق الأفضل لذاته، فالتجربو هي إقتناع الشخص بقدرته علىى تحرير ذاته والوصول إلى الله بقوته الخاصة. لكن النصّ المَرقُسيّ يُعلن لنا واقع مختلف تمامًا عما نتخيله تمامًا. فالشاب الأصمّ والأبكّم يُقاد إلى يسوع ممَن يُحيطونَّه، وليس من ذاته. لذا بدون الآخرين سيُحكم علينا باللاعلاقة بالرب وبالصمت السلبيّ. الصمت قد يكون حالة الإنسان أمام الله بدون كلام، يُطالب الإنسان أن يصمت أمامه بهدف "السمَّع". لهذا السبب، وضع إيمان إسرائيل "صلاة شماع" أي "السمع" التي يرددها اليهود مرتين في اليوم: «اسمع يا إسرائيل!» (تث 6: 4). توجَّب أن يعرف شعب إسرائيل أن حياتهم مرتبطة جوهريًا بالتواصل بالله وتعتمد على الإصغاء له وليس على الكلام. وأيضًا على القدرة على فهم إنهم مخلوقين بالحياة بفضل "كلمته" التي إستبقت خلقهم وتم إعلانها عند خلقهم. فخلق الله للعالم كثمرة كلمته التي قيلت منذ البدء وهي كلمة جذرية وإستباقيّة لخلق الإنسان. لذا عندما إعتقد أوّل زوجين أن لديهما كلمة ليتفوهوا بها أولاً، بخلاف الكلمة التي سبقتهما، فأصبحا غير قادرين على التواصل، وقررا الإختباء لأنهما خافا من اللقاء مع إلههما. رواية الخلق من خلال كلمة الله القديرة "كُنّ" ثماني مرات في رواية الخلق الأوّلى التي تختم بقول الله حينما نظر إلى خليقته، فاعطانا كاتب السفر بلفظ "توف" العبري أي حسن أو جميل! من خلال تأمل الله في خليقته التي وُلِدَّت بفضل كلمته، مؤكداً جمالها. نعم، كلّ ما يأتي من هذه الكلمة الخّلاقة التي تسبقها بناء على العلاقة الأصلية هو جميل وجيد فقط عندما تكون العلاقة حقيقية وتتجه من الله نحو خليقته.

 

3. الخلق الجديد (مر 7: 31-37)

 

الإصحاح السابع من إنجيل مَرقُس هو بمثابة أقوى الشفاءات التي أتمَّها يسوع، في حياته العلنية. هذه المعجزة هي الّتي تُميز يسوع بأعماله الإعجازية (7: 31- 37) والّذي كشف عن يسوع "كمًتّمم" بتعاليمه وبأعماله فصار مرفوضًا من المعاصرين له بسبب شلطان كلمته التي لها من القوّة أن تُحول باطن المحيطين به. قوة كلمة يسوع لم تهدف لإصراره لإقناع معاصريه بحكمته الشخصية، لا؛ بل لأن هذه الحكمة الإلهية ساعدتهم على الإعتراف به قائلين: «ما هذا؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان!» (مر 1: 27).

 

بحسب الروايّة المرقسيّة، هناك معجزات تمت من خلال "لـمـّسة يسوع" مثل شفاء حماة بطرس وأُناس آخرين (راج مر 1: 21- 34؛ 5: 21ت) وهناك معجزات كثيرة أخرى تَطَّلبتْ طرد الشياطين التي كانت تهرب من خلال قوّة كلمته القديرة (راج مر 5: 1- 20). أشار مَرقُس اإلى أن الناس كانت تتزاحم على يسوع أينما وجِدَ وفي أي وقت، لدرجة إتباعه بالسفن أينما كان مع تلاميذه حتى في وسط البحر (راج مر 4: 1- 2). هدف شفاءات الّتي أتمّها يسوع هو نازع أشكال الحزن والألم والمرض، ...  عن الإنسان. والسبب هو أن الرّبّ الخلاّق، تمكّن من الوصول لقلب كل بشري كلا بحسب حاجته. يتدخل يسوع حينما يسمح له المؤمن للدخول بباطنه، مبتدأ بالبحث عن إحتياجات هذا القلب مقدمًا وسيلة شافية. كلا منا كمؤمنين يتم شفائه بشكل خاص لأن يسوع إختار كل شخصية بمفردها وكما أدركنا أنّ المباردة دائما هي من الرَّبَّ قائلاً: «حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح» (35: 5).على ضوء هذه النبؤة نرى إن المؤمنين يصيروا مع يسوع "موضوع حب الله" ومبادرة الإبداع تنطلق منه. السبب في هذا هو تركيز يسوع على علاقة شخصية مع كلاً مؤمن والشفاء يتم داخل العلاقة المتميزة.

 

4. تواصُل علائقيّ حَمِيمْ (7: 32- 34)

 

 وتستمر قوّة الكلمة الإلهية من الخلق إذ يُفاجئنا مَرقُس في سرده قائلاً إنّ يسوع: «انفَرَدَ بِه [الشّاب] عنِ الجَمْع» (7: 33)، دليل على خصوصية علاقة الرَّبّ به دونّ الآخرين. ثم يتدرج في السرد مؤكداً إتمام العمل الشفائي على عدّة مراحل: الأولى «جعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه». الثانية «ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه» . مشيراً إلى أن مشكلته هي الإنغلاق التام فلا شئ يخرج منه ولا يمكنه أن يستقبل شئ. إذ لا يتمكنّ مِن التواصل في العلاقات مع مَن حوله، ومن هنا يُبادر يسوع في أن يعقد معه "علاقة وجودية" قبل أن يُتمم شفائه.

 

وهنا يمكننا أن نتسأل معًا، كم مِن المرات قد تَفَّهمنَّا رغبة الرَّبّ في أنّ يختلي بنَّا، بوسائل مختلفة قد تكون: المرض، إنتقال أحد الأحباء، ... إلا إننا نعتبرها أوقات فشلٍ تامٍ. ففي الواقع ما هي إلا ظروف تسمح لنا للقاء مباشر بالرَّبّ. لأن هذا الرجل الذي لا إسم له، لم يستطع أن يسمع كلمة الله، يبدأ يسوع في أن يضع يديه في أُذنيِّهِ. مما يشير لثقافة الشرق القديم التي تؤكد إلى حنّان الرَّبّ الّذي يرغب في أن ينزع عن كل بشريّ وحدته الّتي تعزله عن العالم، لأن الرب خلق كلاً منا لنكون نساء ورجال ذويّ علاقات وشراكة بيننا وبينه، كما فعل مع الرجل والجمع. "اللقاء بيسوع" هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أت تضع هذا الشخص في "تواصل علائقي" مع المحيطين به.

 

5. الإنفتاح على حقيقة للرَّبّ (7: 34)

 

نظرة يسوع «رَفَعَ عَينَيْهِ نَحوَ السَّماءِ» وكأنه يخترق باطن قائلاً: «"إِفَّتِحْ!" أَيِ: انفَتِحْ. "إفتح"». وكأن يسوع يمارس عمليته الشفائية مُتمركزًا عليه ليشفى. وهذا دليل على أن يسوع لا يخُلص من العلاء بل يخلصنا مِن الأسفل مُخترقًا عالمنا الباطني وأمراضنا سائراً بجوارنا ومتأثراً بما يُؤلـمِنا. النتيجة النهائية للقاء الرجل بيسوع هي تغيير حالته. فقد تكون الأزمات التي نعتبرها "نقمة" في وقتها ما هي إلا "نعمة" لأنها تُعيدنا لنعيش فيما هو للرب وبحسب مشيئته. فالتغيير يحملنا على التعرّف بشخص يسوع الذي يعمل بـ "إبداع" فينا ويقول: "إفتح" لا يمكننا تفسيرها هنا على المستوى الجسديفقد بل إنفتاح باطنيّ.

 

في قول مَرقُس بأن يسوع: «تَنَهَّدَ» يشير إلى أنّه أخذّ على عاتِقه ضُعف وألم هذا الرجل فهو الحّامِل أمراض وأوجاع العالم. في مسيرة حياة يسوع العلنية، كان يعطي معنى جديد للشريعة ولكن حكم الرؤساء الدينيين هو الشريعة أولا وقبل أي إنسان. إلا أن يسوع قَلَبَ الـموازين وأكدّ على أهمية الإنسان المتألم أولاً ثم الشريعة. يحمل هذا تغيير شامل للمنطق البشريّ. بهذه التَّنهِيدة العميقة شعر يسوع بوهَن هذا المتألم وحينما تم شفائه شعر بتجاوزه لما يُعرقله وأزله نهائيًا من باطنه. في يسوع، مَنَحَ الله الإنسان إمكانية جديدة للعلاقة والخلق من جديد. إذ يحرر يسوع لسان الأبكّم ليرتل بعجائبه وعين الأعمى فيرى. منحه إمكانية جديدة للحياة. بنهاية المقطع، لا يودّ يسوع الآن كشف هويته المسيانيّة والسبب أنه يعلم أن هدف تجسده هو أن يموت ليخلص البشرية من آلامها. وهنا لا يبتعد يسوع عن فكر الجمع وهو أن يصير "ملك أرضي" ذو سلطة أرضية. يأتي إلحاح يسوع في طلبه بأن لا يعرف أحد بحقيقته بالرغم من أن سمعته تجاوزت بلاد سوريا البعيدة.

 

الخُلاّصة

 

ردّ فعل الجمع لدى مرقس هو الإندهاش قائلاً: «قَد أَبدَعَ في أَعمالِه كُلِّها إِذ جَعلَ الصُّمَّ يَسمَعون والخُرْسَ يَتَكَلَّمون!» (7: 37). في اليونانية نجد ظرفًا له نفس جذر المصطلح الذي تستخدمه السبعينيّة (الترجمة اليونانية للعهد القديم) لترجمة تعبيرات سفر التكوين. يبدو الأمر كما لو كان في نصنا، من خلال قصة شفاء هذا الرجل، نريد أن نشير إلى أنه في إقتراب يسوع من الإنسان وفي مخاطبته بقوّة كلمته التي خلقت عيون وآذان جُدد لهذا الرجل نختبر أنّ كلمة الله الخَلاَّقة هي كلمة تسبقنا وتختارنا. فالخليقة التي وجدت في كلمته نقطة البدء هي التي تصل إلى إكتمالها. في يسوع، يمنح الله الإنسان إمكانية جديدة لحياة حقة، إذ يفتح فمه ويسمعه ويراه. أود أن أختتم هذا المقال بترجمتي الخاصة للنص اليوناني بتعبيرات أكثر بساطة: "لقد جعل  [الرّبّ] كل شيء جيداً ولقد فعل كل شيء بشكل جيد إذ جعل الأصَّمْ يسمع والأبكَّمْ يتكلم! مدعوين لقبول رسالة تحرير لكل إنغلاق من لمسة يد الله في إبنه فيصير حضوره فعّال وحيّ فينّا وينّم عن علاقات حقيقية مع مَن يحطيون بنا. ونشير إلى إتمّام يسوع ما ذكره أشعيا في المقطع الـمُوازي لهذا النص: «حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح» (35: 5). فأيّ رجل عبري يرى أعمال يسوع سيتذكر سريعًا أعمال الله الإعجازيّة في تاريخ بني إسرائيل وعليه أن يشهد بأمانة الله في إبنه يسوع لإتمام وعوده، فكل ما وعد الله به شعبه أتـمـَّمَهُ في إبنِهِ.