موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

الأطفال نموذج لتلاميذ المسيح

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الخامس والعشرون للسنة: الأطفال نموذج لتلاميذ المسيح (مرقس 9: 30-37)

الأحد الخامس والعشرون للسنة: الأطفال نموذج لتلاميذ المسيح (مرقس 9: 30-37)

 

النص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37)

 

30 ومَضَوا مِن هُناكَ فمَرُّوا بِالجَليل، ولَم يُرِدْ أَن يَعلَمَ بِه أَحَد، 31 لِأَنَّه كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَه فيَقولُ لَهم: ((إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس، فيَقتُلونَه وبَعدَ قَتْلِه بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم)). 32 فلَم يَفهَموا هذا الكلام، وخافوا أَن يَسألوه. 33 وجاؤوا إِلى كَفَرناحوم. فلَمَّا دخَلَ البَيتَ سأَلَهم: ((فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟)) 34 فظَلُّوا صامِتين، لأَنَّهم كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر. 35 فجَلَسَ ودَعا الاثَنيْ عَشَرَ وقالَ لَهم:( (مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعاً وخادِمَهُم)). 36 ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ طِفْلٍ فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه وقالَ لَهم: 37 ((مَن قَبِلَ واحِداً مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكراماً لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني)).

 

 

مقدمة

 

ينبئ يسوع للمرة الثانية بموته ويُطالب تلاميذه الذين يطمعون بالعظمة والمراكز أن يتبعوه بروح الأطفال لخدمته ودخول ملكوته (مرقس 9: 30-37). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 9: 30-37)

 

30 ومَضَوا مِن هُناكَ فمَرُّوا بِالجَليل، ولَم يُرِدْ أَن يَعلَمَ بِه أَحَد

 

تشير عبارة "مَرُّوا بِالجَليل" إلى عبور يسوع وتلاميذه إلى الجليل بعد أن تركوا قيصرية فيلبس من اجل أن يبدأ يسوع جولته الأخيرة في منطقة الجليل قبل رحلته الختامية نحو اورشليم وبدء الآلام. يبدو أن يسوع ينتقل من مكان إلى آخر لإعداد تلاميذه للرحلة النهائية لإورشليم. لقد ترك يسوع الجليل حيث الأمان والنجاة، وأخذ يصعد إلى أورشليم حيث العداوة والصلب. أمَّا عبارة "لَم يُرِدْ أَن يَعلَمَ بِه أَحَد" فتشير إلى رغبة يسوع في مراعاة السرية لأنه لا يريد أن يعلم بآلامه الناس، إنما يريد أن ينفرد بتعليم هذه الأمور لتلاميذه فقط. وهناك سبب آخر ورد في إنجيل يوحنا هو أن أعداء يسوع يراقبونه هناك في كل مكان لقتله " وجَعَلَ يسوعُ يَسيرُ بَعدَ ذلكَ في الجَليل، ولَم يَشَأْ أَن يَسيرَ في اليَهودِيَّة، لأَنَّ اليَهودَ كانوا يُريدونَ قَتلَه " (يوحنا 7: 1).

 

31 لِأَنَّه كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَه فيَقولُ لَهم: إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس، فيَقتُلونَه وبَعدَ قَتْلِه بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم.

 

تشير عبارة "يُعَلِّمُ تَلاميذَه " إلى يسوع الذي أراد أن يحدَّ من خدمته التعليمية إلى تلاميذه لكي يدِّربهم ويأهلهم لحمل الرسالة بعد أن يعود إلى السماء. ويدور موضوع تعليمه حول آلامه المُقبلة. وكانت أحداث الصليب تقترب، لذلك كان السيد المسيح يُنبِّه تلاميذه حتى لا يفاجئهم لما سوف يحدث. ولكن كون السيد أخبرهم بما حدث فهذا يعني انه يذهب للصليب الذي أتى من أجله بسلطانه وحريته. أمَّا عبارة "إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس" فتشير إلى إنباء يسوع مرة ثانية بآلامه في حين أن الإنباء الأول ورد قبلا (مرقس 8: 31).  أمَّا عبارة "ابنَ الإِنسانِ" فهي لا تشير إلى إنسانية يسوع فحسب بل إلى المسيح الذي أعلنه النبي دانيال " فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه. وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض"(7: 13-14). ويؤكد هذا اللقب أصالة يسوع السماوية والعمل الإلهي الذي يتوجب عليه أن يؤديه، وهو آلامه وموته كما ورد في نبوءة أشعيا "لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصاباً مَضْروباً مِنَ اللهِ ومُذَلَّلاً"(أشعيا 53: 4). فقد ذكر يسوع مرتين متداخلتين ومتناقضتين في ظاهرهما عن المسيح: فكرة ابن الإنسان المشارك في جلال الله، وفكرة العبد المتألم. وقد وردت عبارة ابن الإنسان نحو 80 مرة في الإنجيل دلالة لأهميتها.  أمَّا عبارة " سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس " فتشير إلى العمل الإلهي وليس إلى خيانة يهوذا كما يوضِّح بولس الرسول" إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟  " (رومة 8: 32).  أمَّا عبارة " فيَقتُلونَه " فتشير إلى الإنباء الثاني بموت يسوع. يَعلم يسوع انه سيموت، ومع ذلك يتجه نحو موته مستسلما لإرادة أبيه استسلاما كليا. لأنه كان يعلم ما ينتظره خلف الباب المظلم.   لم يكن إعلان يسوع بألآمه وموته وقفا على يسوع فقط، بل هو مصيرنا أيضا. وإذا أردنا إتباع يسوع، توجب علينا أن نعبر طريق الموت لنبلغ الحياة. وهنا لا يعطي مرقس الإنجيلي أهمية لحياة يسوع، بل لموته.  أمَّا عبارة "ِثَلاثَةِ أَيَّامٍ" فتشير إلى تعبير خاص بإنجيل مرقس (8: 31؛ 10: 34)، وهو يدل على اليوم الثالث من قتله. وأمَّا متى الإنجيلي فيقول في اليوم الثالث (16: 21) حيث أنَّ اليوم الثالث له مدلول كتابي مطابق للواقع الذي عاشه يسوع بين مساء الجمعة وصباح الأحد (متى 6: 1-3). وتشدِّد إنباءات يسوع بآلامه وقيامته على مُخطَّط الله وطاعة المسيح لمشيئة الله في هذه الأحداث. فليس هذا الأمر إذاً مصيراً محتوما على يسوع أن يتحمله مُكرها، وليس أمام حدثٍ طارئً حصل بالصدفة، أنما يسوع نظر إلى هذه الآلام وتقبلها مسبقا دلالة على حبه للآب كما جاء في قوله "وما ذلِكَ إِلاَّ لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب" (يوحنا 14: 31). أمَّا عبارة " يَقوم" فتشير إلى القيامة، السر الفصحي، وقد أخبر المسيح بقيامته من بين الأموات مرّات عديدة قبل صلبه وموته ودفنه (مرقس 8: 31 و 9: 9 و 31 و 10: 34 و 14: 58). لكن لم يدرك التلاميذ هذه الأقوال تماماً إلاّ بعد قيامته من بين الأموات. وقيامة المسيح إحدى الدعائم الأساسية القويمة التي بُنيت عليها مناداة الرسل، فكان محور تبشيرهم أن المسيح قد قام من بين الأموات كما جاء في سفر أعمال الرسل "يَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك"(أعمال الرسل 2: 32). فالقيامة هي ركن إيماننا. هل نحن مقتنعون حقاً بهذه الحقيقة ومؤمنون أن يسوع هو حي اليوم؟

 

32 فلَم يَفهَموا هذا الكلام، وخافوا أَن يَسألوه

 

تشير عبارة " لَم يَفهَموا" إلى قلة إدراك التلاميذ لكلام يسوع حول آلامه، والفهم كلمة أساسية في إنجيل مرقس وقد تطرَّق مرقس إليه كثيرا (مرقس 6: 52، و7: 18، 8: 17-18، 9: 10، 10: 38)؛ وبالرغم ذلك لم يُدرك التلاميذ معنى الآلام إلاَّ على ضوء القيامة. ولم يفهموا أن الصليب هو طريق المجد. لم يفهموا لأنهم لم يريدوا أن يفهموا، لأن لهم رأي مُخالف فيما يخص المسيح المنتظر. وكلما اطعنا يسوع نستطيع أن نفهم رسالته. ويعلق البابا فرنسيس "هذا كله يذكّرنا بأن منطق الله مغاير لمنطق البشر. ولهذا السبب إن اتباع الله يتطلب ارتداداً عميقاً من جانب الإنسان، يتطلب تبدلاً جذرياً في طريقة التفكير والعيش، يتطلب انفتاح القلب على الإصغاء، كي تنيرنا كلمة الله وتبدلنا من الداخل".  أمَّا عبارة "خافوا أَن يَسألوه" فتشير إلى خوف التلاميذ ليسألوا يسوع عن نبوءته بخصوص آلامه وموته، لأنهم يرفضون فكرة آلامه، إذ لم يكن ممكنًا للفكر البشري أن يتقبل قيام ملكوت الله على خشبة العار لذلك لم يدركوا أن موته كان أعظم فعل حب من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه زجرهم في آخر سؤالهم له (مرقس 8: 32، 33) وبالإضافة إلى ذلك، كان التلاميذ منشغلين بآمالهم ومطامعهم في السلطة السياسية ومراكزهم في الملكوت الأرضي الذي سيؤسسه السيد المسيح. فكانوا قلقين من جهة ما يمكن أن يحدث لهم لو مات يسوع. وبناء على ذلك، فضَّلوا عدم الكلام عن توقعاته.

 

33 وجاؤوا إِلى كفرنا حوم. فلَمَّا دخَلَ البَيتَ سأَلَهم: فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟

 

تشير عبارة " كفرنا حوم " في الأصل اليوناني Καφαρναούμ مشتق من العبريَّة כְּפַר־נַחוּם (معناه قرية ناحوم) إلى قرية واقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبرية (متى 4: 13-16). انتقل يسوع إليها من مدينة الناصرة في وقت مبكر من خدمته العلنية جاعلاً منها مركزاً له حتى أنها دعيت " مدينته " (مرقس 2: 1)؛ وفيها شفى حماة بطرس المحمومة (مرقس 1: 29-31). وصارت مركز لتنقلاته في الجليل. أمَّا عبارة "البَيتَ" فتشير إلى بيت بطرس في كفرناحوم.  وفي زمن الرسل، أصبح هذا البيت الموضع التي تجتمع فيه الجماعة المسيحية الأولى (مرقس 1: 29)؛ أمَّا عبارة "سأَلَهم" فلا تشير إلى جهل يسوع بالأمر، بل من اجل أن يجعل من جواب التلاميذ مُقدَّمة لِمَا أراد بيانه لهم. أمَّا عبارة "فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟" فتشير إلى انشغال التلاميذ بآمالهم ومطامعهم في السلطة السياسية في المملكة التي سيؤسسها السيد المسيح. فالصورة كانت المطبوعة في أذهانهم أن المسيح سيكون ملكا عظيما، يقيم مملكته على أنقاض مملكة الرومان، ويُعيد إلى إسرائيل سالف الأمجاد. ويُعلق القديس ايرونيموس " ناقش التلاميذ في الطريق من يكون رئيسًا، أمَّا المسيح نفسه فنزل ليُعلمنا التواضع. فإن الرئاسات تجلب التعب، أمَّا التواضع فيهِب الراحة".

 

34 فظَلُّوا صامِتين، لأَنَّهم كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر

 

تشير عبارة "مَن هُو الأَكبَر" إلى المسالة الهرمية في المناصب. وهذه المسالة لعبت دورا هاما في حياة الجماعات اليهودية. وهذا الروح يدل على عدم فهم التلاميذ تعليم يسوع، لان المطامع البشرية والأمجاد الدنيوية والمناصب لا مكان لها في مملكة يسوع. حيث أنَّ سُلم القيم في العالم يتعارض مع سُلم قيم الإنجيل. في العالم نجد التسلط والسيادة، وبالعكس، في الإنجيل نجد الخدمة والتواضع، الأول يكون الأول حين يكون خادم الجميع وعبداً لهم على خطى يسوع: "ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). فإنَّ طموحنا نحن المسيحين يجب أن يكون من اجل الملكوت وخدمتنا فيه وليس من اجل مراكزنا ورُتْبنا. أمَّا عبارة " يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر" فتشير إلى جدال عقيم في المطامع البشرية، والأمجاد الدنيوية والمناصب الموهومة، من سيكون السيد والزعيم المُطاع.  لكن ملكوت الله قائم على مملكة روحية، على الوداعة والتواضع والخدمة والبذل والتفاني والعطاء. هذه المناصب كلّها من الّله، فلا يجوز التّكبّر في إشغالها، إذ هي ليست للمصلحة الخاصّة وإنّما للخير العام، ويُعلق القديس أوغسطينوس " دُخان الكبرياء غطّى عيونهم. نقرأ بالفعل: "َتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر "لكنّ الربّ الطبيب كان حاضرًا؛ فكبح كبرياءهم... وكشف لهم في طفل مثال التواضع... لأنّ الكبرياء خطيئة كبيرة، هو الخطيئة الأولى، أصل كلّ خطيئة".

 

35 فجَلَسَ ودَعا الاثَنيْ عَشَرَ وقالَ لَهم: ((مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعاً وخادِمَهُم)).

 

تشير عبارة "جلَسَ" إلى ما يفعله المعلمون اليهود حين يُلقون الدروس على تلاميذهم.  أمَّا عبارة " الاثَنيْ عَشَرَ " فتشير إلى الرسل الذين أصبحوا " الاثَنيْ عَشَرَ ". أمَّا عبارة "مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعاً وخادِمَهُم" فتشير إلى مقياس العظمة الذي هو التواضع والخدمة. مملكة يسوع قائمة على التواضع والخدمة. صار يسوع بآلامه أخر القوم وخادمهم. فالتواضع فضيلة ضد الكبرياء والأنانية والغرور وحب الذات، وهي فضيلة عظيمة في عين الرب كما جاء في سيرة بولس الرسول "مَخافَةَ أَن أَتَكَبَّرَ بِسُمُوِّ المُكاشَفات، جُعِلَ لي شَوكَةٌ في جَسَدي: رَسولٌ لِلشَّيطانِ وُكِلَ إِلَيه بِأَن يَلطِمَني لِئَلاَّ أَتَكبر" (2 قورنتس 12: 7). "فالتواضع زينة الملائكة، والكبرياء قبح الشياطين " كما قال وليام جنكن.  تتطلب الرئاسة الروحية التواضع الممزوج حبًا، ويعلق القديس يوحنا سابا "البس التواضع كل حين، وهو يجعلك مسكنًا لله". بينما تجعلنا الكبرياء نقدِّر مراكزنا ورتبنا أكثر من تقديرنا للخدمة. فالعظمة عند أهل العالم تقوم على التسلط. في حين العظمة عند يسوع هي التواضع والخدمة والمحبة وإعطاء الغير ما يحتاجون إليهم. ويعلق سِلوانُس الراهب الروسي: "لو فهم العالم قوّة الكلمات التي قالها المسيح: "تعلّموا منّي اللطف والتواضع" (متى11: 29)، لوضع جانبًا كلّ علم آخر، ليكتسب هذه المعرفة السماويّة". وفي الواقع المسيح "لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45)، ويُعلق القديس أوغسطينوس "هكذا خدم، وهذا هو مثل الخدّام الذي طلب منّا أن نكون عليه" (عظة بمناسبة سيامة أسقف).  وهنا نتذكّر قول الربّ يسوع المسيح: "فمَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع (متى23: 12). وكما قالت أيضاً مريم أم يسوع في نشيدها للقديسة اليصابات: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة" (لوقا 1: 47-48). ويُعلق يعقوب الرسول "إنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (يعقوب 4: 6). والخدمة هي ليست أبدًا أيديولوجية، لأنها لا تخدم أفكارًا إنما أفرادً، بل هي الاهتمام بالآخرين وخدمتهم. فهي تعني بشكلٍ كبير الاهتمام بالضّعفاء في عائلاتنا ومجتمعنا وشعبنا. والضعفاء هم الوجوه المُتألّمة التي يدعونا يسوع للنظر إليها ومحبّتها بشكل ملموس. أن نكون مسيحيّين يعني أن نخدم كرامة الإخوة. نحن مدعوّون جميعًا للاهتمام بعضنا ببعض بمحبّة. وهكذا كان يسوع خادماً للجميع حيث قال " هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28).  إذ ليست الوظيفة على الأرض هي الأمر الحاسم في الحصول على المقعد في السماء، وإنّما استعمال الوظيفة كخدمة. هذه الخدمة تَخدُمُ الآخرين؛ ولكن هناك نوع آخر من الخدمة يجب تجنبه وهي “الخدمة" التي "تستخدِم" الآخر. "هناك شكل من أشكال ممارسة الخدمة يكون لمصلحة "ما هو لي"، باسم "ما هو لنا". خدمة كهذه تعمل على تهميش "ما هو لك"، مُولّدةً ديناميكيةَ استبعاد واستعباد" (البابا فرنسيس في عظته في كوبا 2015). ومن هذا المنطلق، يُعتبر كبير القوم أكثرهم خدمة واتضاعا وأقربهم إلى الطفولية الروحية. على التلاميذ أن يبدِّلوا نظرتهم إلى العظمة. كبير القوم في نظر المسيح هو أكثرهم خدمة واتضاعا وأقربهم إلى الأطفال روحا. ولا ننسى أن أول وصية من وصايا الملكوت هي الخدمة والتواضع.

 

36 ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ طِفْلٍ فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه وقالَ لَهم

 

تشير عبارة "طِفْلٍ" إلى ولد ربما أحد عائلة بطرس، والطفل هو مثال البراءة والطهر والكمال الخلقي والاستسلام، وعدم الطموح إلى السلطة ولا إلى المناصب بل اتخاذ المركز الأخير. فالطفل لا يعتبر نفسه أكثر مما هو عليه، ولا يبحث عن عظمة فارغة. لذا علَّم يسوع تلاميذه أن يرحبوا بالأولاد "دَعوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم، فلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله " (لوقا 18: 16). وكان هذا شيئا جديد في المجتمع الذي كان يعامل فيه الأولاد كمواطنين من الدرجة الثانية. ومعروف أنَّ الطّفل في العهد القديم كان رمزَ الضَّعف وعدم الأهمية.  ولكن من لا وزن لهم في عيون الناس، المستضعفون في الأرض، لهم قيمة كبيرة في عيون الله. أمَّا عبارة "فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه" فتشير إلى معاملة يسوع مع الأطفال وهكذا كيف ينبغي على التلاميذ أن يقبلوا الأطفال ببساطة.  ويُعلق القديس أوغسطينوس "عندما كلّم الربّ رسله لكي يُشدّدهم في التواضع، قدّم لهم مثل الطفل".

 

37 مَن قَبِلَ واحِداً مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكراماً لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني

 

تشير عبارة " قَبِلَ " إلى إصغاء وخضوع لكلمة يسوع ورسله.  أمَّا لفظة القبول في لغة إنجيل متى فمعناها الضيافة، حيث أنها لا تشير إلى قبول طفل بل مرسل يسوع (متى 10: 40). ننتقل في الإنجيل من الطفل إلى التلميذ والعكس بالعكس، لان العلاقة كبيرة بينهما. أمَّا عبارة " مَن قَبِلَ واحِداً مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكراماً لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا" فتشير إلى تأكيد يسوع أن الطفل يُمثِّل يسوع نفسه.  يسوع هو من يقبل. ثم هو من يُقبَل في شخص الطفل. فاذا قبلتم طفلا قبلتم يسوع. فالطفل هو علامة حضور المسيح. والمسيح يعتبر نفسه واحداً مع الأطفال.  واكتشف بولس الرسول هذه الحقيقة على طريق دمشق " أَنا يسوعُ الَّذي أَنتَ تَضطَهِدُه" (أعمال الرسل 9: 5). هذه مسؤولية عظيمة لكل واحد منا. فالطفل كبير في عين الله، نقبله باسم المسيح ونخدمه. ويًعلق البابا فرنسيس " إن الاختلاف الأساسي بين الله والإنسان هو الكبرياء. فالله لا يعرف الكبرياء وهو شعور متجذر لدينا نحن البشر. إننا صغار ونسعى لأن نكون كباراً وأوَّلين، فيما الله لم يتردد في أن يصبح واحداً من الآخِرين.  بعد أن دعا يسوع التلاميذ أن يتواضعوا ويصيروا خداما "صغارا"(متى 18: 3) يدعوهم الآن إلى قبول الأطفال. فالطفل أصبح علامة حضور يسوع وقدوة للتلميذ الحقيقي للمسيح. أمَّا عبارة " لِاسمِي " فتشير إلى حب وإكرام ليسوع وتقديرا له استنادا إلى قوله تعالى " كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه " (متى 25: 40). أمَّا عبارة "مَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني " فتشير إلى المساواة بين المُرسِل والمرسَل وهو أمرٌ كان مألوفا في الدين اليهودي. وإذا كان الرسول يساوي مُرسِله، فليس ذلك نظرا لشخصيته، بل بحكم المهمة أو الوظيفة أو الكلام الذي أوكل إليه من قبل مُرسِله.  وباتخاذ الطفل كمثل للتلاميذ شجع يسوع لكل الوالدين والمعلمين والمُربِّين وكل من يُوكل إليهم أمر الصغار والأطفال والمستضعفين والفقراء والمساكين والمهملين والمرضى.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37) 

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37) يمكننا الاستنتاج انه يتمحور حول يسوع الذي يريد منا أن نتخذ موقف الأطفال كي نصبح تلاميذ حقيقيين للمسيح وندخل ملكوته. ومن هنا نتناول موضوع "الأطفال" كعلامة وقدوة للتلميذ الحقيقي للمسيح. من هنا نطرح سؤالين: لماذا إتَّخذ يسوع الأطفال قدوة للتلميذ الحقيقي؟ كيف نعيش كالأطفال كي نكون تلاميذ حقيقيين للمسيح؟

 

 

1- لماذا إتَّخذ يسوع الأطفال قدوة للتلميذ الحقيقي؟

 

اتخذ يسوع الأطفال قدوة للتلميذ الحقيق لتواضعهم وطواعيتهم وضعفهم.

 

ا) التواضع

 

الأطفال علامة التلميذ الحقيقي للمسيح بالتواضع. يؤكد الكتاب المقدس كرامة الطفل، حيث يُعتبر الأطفال علامة البركة الإلهية. يصف سفر الأمثال الأطفال بأنهم "كليل الشيوخ" (17: 6). وأمَّا في سفر المزامير فهم " كغِراسِ الزَّيتون حَولَ مائِدَتِكَ" (مزمور 128: 3). واتخذ يسوع من الأطفال موقفاً لا يختلف عن موقف الكتاب المقدس؛ إذ قد بارك " الأطفال (مرقس 10: 16)، مُظهراً بذلك أن" لأَمثالِ هؤُلاءِ مَلكوتَ السَّمَوات" (متى 19: 14). "ومَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات" (متى 18: 3). فأصبح الأطفال رمزا للتلاميذ الحقيقيين. فالأمر، في الواقع، يتعلق بقبول ملكوت الله في تواضع الطفل كما صرّح يسوع "مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه"(مرقس 10: 15).

 

الطفل هو رمز التواضع، والتواضع هو أولاً الاعتدال، والاعتدال هو المناقض للزهو وحب الظهور.  إن الإنسان المعتدل بعيد عن الادّعاءات الكاذبة والتصنع والتمثيل والغرور كما يقول بولس الرسول "لا تَذهَبوا في الاعتِدادِ بأنفسكم (رومة 12: 3). فتواضع يشتمل عدم الادعاءات الكاذبة بل لاعتراف بان0 المرء لا شيء وقبوله كعطية من الآب والاعتماد على نعمة الله، وأخيرا البذل والخدمة على خطى المسيح.

 

والتواضع يناقض الكبرياء فهو موقف الإنسان الخاطئ أمام الله القدير والقدوس. والمتواضع يعترف بأن ما لديه قد ناله من الله كما يقول بولس الرسول "وأَيُّ شَيءٍ لَكَ لم تَنَلْه؟" (1 قورنتس 4: 7)، والمتواضع ما هو إلاّ عبد ضعيف كما وضَّح يسوع في شفاء عبد قائد المائة (لوقا 7: 10)، وهو بذاته عَدَمٌ (غلاطية 6: 3)، أو خاطئ (لوقا 5: 8). ومثل هذا المتواضع الذي ينفتح لنعمة الله، يُمجِّده الله (1 صموئيل 2: 7).

 

أخيرا لنا مثال تواضع المسيح، الذي خلصنا ببذل ذاته، ودعا تلاميذه لخدمه إخوتهم بدافع المحبة (لوقا 22: 26-27) ليتمجّد الله في الجميع (1 بطرس 4: 10-11). وبهذا التواضع "نعود مثل الأطفال" (متى 18: 3)، ونوافق على الولادة "من جديد" لبلوغ الملكوت السماوي كما أعلن يسوع " ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح."(يوحنا 3: 5).

 

نستنتج مما سبق أنَّ سرّ العظمة الحقيقية هو أن "نصير صغاراً " مثل الأطفال (متى 18: 4). ذلك هو التواضع الحقيقي الذي بدونه لا يمكن أن نصير أبناء الآب السماوي. المتواضع يجعل خضوعه لله صبوراً ووديعاً. فالتلاميذ الحقيقيون هم "أصغر الصغار" الذين شاء الآب أن يكشف لهم، أسراره الخفيّة (متى 11: 25-26). وفي لغة الإنجيل يبدو لفظ " صغير" ولفظ " تلميذ" كلمتين مترادفتين (متى 10: 42، ومرقس 9: 41). فطوبى لمن يقبل واحداً من هؤلاء الصغار "ومَن قَبِلَ طِفْلاً مِثلَه إِكْراماً لاسمي، فقَد قَبِلَني أَنا"(متى 18: 5).

 

ب) الطواعية

 

الطفل ليس علامة للتلميذ الحقيقي في تواضعه فحسب، إنما الطفل في المفهوم المسيحي هو قيمة في حَدِّ ذاته. فقد اتخذ يسوع الطفل قدوة للتلميذ الحقيقي "ِإن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات "(متى 18: 3)، وذلك لمميزتين: للطواعية والضعف.

 

الطفل أسهل انقيادا وأكثر طواعية وأقل مقاومة من الرجل في تجاوبه مع عمل المسيح الخلاصي. إن صاحب المزامير لكي يعبّر عن استسلامه الممتلئ ثقة بالله، لم يجد صورة أفضل من صورة الطفل الصغير نائماً في حضن أمه "مِثْلَ مَفْطوم عِندَ أُمِّه مِثْلَ مَفْطوم هكذا نَفْسي علَيَّ" (مزمور 131: 2).

 

وبالإضافة إلى ذلك، إن الله لم يتردّد في اختيار بعض الأطفال بمثابة أول المستفيدين بوحيه والمرسلين للبشارة بخلاصه. فصموئيل الصغير يقبل كلمة الله ويبلّغها بأمانة (1 صموئيل 13)، وداود أصغر إخوته يُميز أفضل من إخوته الكبار (1 صموئيل 16: 131)، ودانيال الشاب يظهر بتخليصه سوسنّة، انه أكثر حكمة من شيوخ إسرائيل (دانيال 13: 44-50).

 

إن لوقا الإنجيلي يصف يسوع في مرحلة طفولته: كان الصبي مطيعاً لأبويه، وفي الوقت نفسه المُستقلّ عنهما في تبعيته لأبيه السماوي (لوقا 2: 43-51). ليس التواضع أن يشعر الإنسان بانه كبير أو عظيم، بل أن يحاول أن يتصاغر أو يخفي عظمته.

 

ج) الضعف

 

ضعف الطفل. فالطّفل بحاجة إلى حماية أهله ورعايتهم ومحبّتهم، فهو قاصر الإمكانيّات ويحتاج عنايةَ الآخرين من حولِه. وهذا الضعف يجعله شخص له حظوة لدى الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "ما كانَ في العالَمِ مِن ضُعْف فذاكَ ما اختارَه اللهُ " (1 قورنتس 1: 27-28). إن الرب نفسه هو حامي اليتيم، والمنتقم لحقوقه (مزمور 68: 6)، وهو لا يستطيع شيئا بدون النعمة الإلهية كما صرّح يسوع المسيح "ِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يوحنا 15: 5).

 

ومعرفة الإنسان ضعفه أمام نفسه يجعله يعامل نفسه بما تستوجبه هذه المعرفة.  فالطفل يسال ويريد أن يعرف، ولا يخجل من السؤال والإقرار بعدم المعرفة، وهكذا ينمو في المعرفة يوما بعد يوم. ومعرفة الإنسان ضعفه تقوده أيضا إلى عدم المطالبة باستقلاله عن الرب ووالديه.  وكما أن الطفل لا يقدر أن يعيش وحده وينتظر كل شيء من أمه، كذلك حالتنا مع الله.  

 

الطفل بحاجة مستمرة لمساعدة الآخرين كونه غير مكتفي ذاتياً وغير مكتمل، وهو يعتمد ويتكل على غيره، وعلى من يُحبّونه ويهتمّون به، ولا يُفكّر أن يواجه الحياة بنفسه ولأجل نفسه. وما يلفت نظر بولس الرسول، في الطفل، هو حالة عدم الاكتمال المتمثّلة فيه (1 قورنتس 13: 11). ولكيلا يُترَك كريشة في مهبّ الريح (أفسس4: 14)، فهو بحاجة لتربية حازمة وإبقائه تحت الوصاية (غلاطية 4: 1-3). ولذا فهو يدعو بولس الرسول المسيحيين للسعي وراء نموّهم الذاتي، ليبلغوا معاً " القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح" (أفسس 4: 12-16). "لا تَكونوا أَيُّها الإِخوَةُ أَطفالا في الرَّأي، بل تَشَبَّهوا بِالأَطفالِ في الشَّرّ، وكونوا راشِدينَ في الرَّأي" (1 قورنتس 14: 20).  ويُعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ " نعني بالطفولة، تلك التي تأتي من البساطة، لا من العمر إنّ الطفل لا ضغينة لديه، وهو لا يعرف الخداع، ولا يجرؤ أن يضرب"(العظة 58) كما جاء في موضع آخر في إنجيل متى "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات.  فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات" (متى 18: 3).

 

2- كيف نعيش كالأطفال كي نكون تلاميذ حقيقيين للمسيح؟

 

يبارك يسوع الأطفال، ويقدمهم لنا كقدوة (مرقس 10: 15-16). ولذلك من أجل أن نُصبحَ كواحد من هؤلاء الصغار، الذين يكشف لهم الله عن ذاته، والذين هم وحدهم يدخلون الملكوت (متى 11: 25)، لا بد لنا من أن نتخرَّج من مدرسة المسيح "المعلم الوديع والمتواضع القلب" (متى 11: 29). فاذا عشنا تواضع الأطفال نسير على خطى يسوع المعلم.

 

هذا المعلم ليس إنساناً فحسب، بل هو أيضاً الرب الذي جاء ليُخلِّص الخطأة، متخذاً جسداً يُشبه جسدهم (رومة 38). إنه أبعد ما يكون عن البحث عن مجده (يوحنا 8: 5)، حتى بلغ به التواضع إلى حدّ غسل أرجل تلاميذه (يوحنا 13: 14-16)، وهو الذي مع مساواته لله، تجرَّد من ذاته حتى الموت، كما جاء في قول بولس الرسول: "فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبى 2: 6-8).

 

يسوع هو المسيح المتواضع الذي تنبأ عنه زكريا "هُوَذا مَلِكُكِ آتياً إِلَيكِ وَديعاً راكِباً على أَتان وجَحْشٍ ابنِ دابَّة " (متى 21: 5). إنه مسيح المتواضعين، الذي يعلن أنهم سعداء "طوبى لِلوُدَعاء "(متى 5: 4). في شخص يسوع تظهر ليس فقط القدرة الإلهية التي من دونها لما كنا في الوجود، بل والمحبة الإلهية أيضاً، التي من دونها لكنا قد هلكنا جميعاً (لوقا 19: 10). هذا التواضع هو "علامة المسيح" كما يقول القديس أوغسطينوس، هو تواضع ابن الله، تواضع المحبة.

 

ولا بد من إّتباع طرق هذا التواضع "الجديد"، لكي نمارس وصية المحبة الجديدة (أفسس 4: 2) "حيث التواضع هناك المحبة"، يقول أوغسطينوس. إن الذين "يتحلَّوْن بثوب التواضع في علاقاتهم المتبادلة" (1 بطرس 5: 5)، يبحثون عن منفعة الآخرين، ويجلسون في المكان الأخير كما جاء في تعليم بولس الرسول "على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه" (فيلبي 2: 3-4).

 

يضع بولس التواضع في قائمة ثمار الروح، إلى جانب الإيمان (غلاطية 5: 22-23)؛ فهما في الواقع مرتبطتان إحداهما بالأخرى، من حيث إن كليهما يعبّران عن استعداد للانفتاح نحو الله مثل ثقة الطفل نحو والديه. وخضوع كله ثقة لنعمته وكلمته تعالى، لا بدّ أنَّ يتَّخذ الإنسان خطوات حاسمة ليتحلى بالتواضع الذي هو أعظم جانب من الأهمية في أعين الرب (2 قورنتس 12: 7). ولخصت القديسة تريزا الطفل يسوع كيفية العيس الطفولة الروحية بهذه الخاطرة "الكمال يبدو لي سهلاً: يكفي الإنسان أن يَقرّ بعدمه وأن يلقي بنفسه مثل طفل بين ذراعيّ الله".

 

 

الخلاصة

 

يصف النص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37) إعلان يسوع عن آلامه وموته، وعدم تفهم تلاميذه المنهمكين بالمنصب ومن هو الأكبر في الملكوت. حيث علَّمهم يسوع الخدمة التواضع، والرئاسة خدمة، والرؤساء خدام الشعب. ودعم يسوع قوله بالعمل، لكي يثبت مصداقية مفهومه، حينما قام بمبادرة شرحت عمليًا مفهـوم السلطـة لديه، حينما غسـل أرجـل تلاميـذه خـلال عشاءه الفصحـي الأخيـر (يوحنا 4: 12-13)؛ وسبـق وقـال" إن ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28). وطلـب من رسلـه أن يقتـدوا به قائلاً "أَنتُم تَدعونَني ((المُعَلِّمَ والرَّب)) وأَصَبتُم فيما تَقولون، فهكذا أَنا.  فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم" (يوحنا 13: 13-15).

 

وقدّم يسوع لنا الطفل مثال التواضع والخدمة "مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِماً" (مرقس 43:10). "إِذا دُعيتَ إِلى عُرْس، فلا تَجلِسْ في المَقعَدِ الأوّل، فَلرُبَّما دُعِيَ مَن هو أَكرَمُ مِنكَ، فَيَأتي الَّذي دَعاكَ ودَعاه فيقولُ لَكَ: أَخْلِ المَوضِعَ لِهذا. فتَقومُ خَجِلاً وتتَّخِذُ المَوضِعَ الأَخير.  ولكِن إِذا دُعيتَ فامَضِ إِلى المَقعَدِ الأَخير، واجلِسْ فيه، حتَّى إِذا جاءَ الَّذي دَعاكَ، قالَ لكَ: قُمْ إِلى فَوق، يا أَخي. فيَعظُمُ شَأنُكَ في نَظَرِ جَميعِ جُلَسائِكَ على الطَّعام.  فمَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع" (لوقا 8:14).

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع، أن تحفظنا الرب من المطامح ومن روح العالم والكبرياء وان تمنحنا روح الطفولة لكي نفهم معنى درب التواضع والخدمة والتفاني، فنكون أكرم الناس عند المسيح وأقربهم إلى ملكوتك السماوي. يا يسوع الوديع والمتواضع القلب، اجعل قلبنا مثل قلبك.