موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٤ يونيو / حزيران ٢٠٢١

إن انقسمت مملكة على بعضها

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد العاشر من السنة الكنسيّة (الإنجيل مر 3: 20-35)

 

إن انقسمت مملكة على بعضها

 

ما أتعس اليوم الّذي يبدأه الإنسان بمشاكسة ونزاع، فهذا يُسمِّم ويُعكِّر الجوّ العائلي طيلة النّهار. يقول المثل العامّي: الغضب يُعمي. فمن يغضب ويكره ويحقد، لا يعود يرى شيئاً صالِحاً في المغضوب عليهم. إنجيل اليوم يتطرّق إلى هذا الموضوع، موضوع الغضب. الغضب ليس فقط على عدوٍّ مزعوم، بل هنا وبشكلٍ مُحدّد، غضب الفريسيّين ورؤساء الشعب على ذاك الّذي "كان النّور الحقيقي، الّذي يُنير كلَّ إنسانٍ في العالم" (يو 9:1).أي على يسوع، الّذي هو نور العالم، الّذي يُضيْ كلَّ شيءٍ فتظهر أعماله وأفكاره الصّالحة والسيّئة على السّواء، وتُدين الغاضب على غضبه الأعمى: "أقول لكم كلُّ منْ غضِبَ على أخيه يكون مُستوجب الحكم" (متّى 22:5).

 

غَضَبُ اليهود على يسوع كان يزداد كلّما شاهدوا أُعجوبةً منه، تجذِب الجماهير فينضمّوا إلى تلاميذه: "فلمّا رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب الّتي صنع غضبوا" (متّى 15:21) "وإذ رأى رؤَساء الكهنة والفريسيّون أنّ هذا الإنسان يصنع آياتٍ كثيرة، قالوا: إن تركناه هكذا يؤمن به الجميع، فيأتي الرّومان ويأخذون موضِعنا وأمَّتنا. فنصحهم بالتّالي قيافا، رئيس كهنتهم قائلا: "ألا تفتكرون أنّه خيرٌ لنا أن يموت إنسانٌ واحد عن الشّعب ولا تهلِك الأُمَّةُ كلُّها؟" (يو11: 47-50). نعم إلى هذا الحدّ وصل غضبُهم حتّى إنّهم أقرّوا التّخلُّص من هذا الشّخص، الّذي يُعكِّرُ عليهم علاقتهم مع شعبهم.

 

الفرّيسيّون عادَوْا يسوع منذ البداية، إذ هو من البداية قد حذّر الشّعب والمستمعين من تعليمهم المُغرض الخاطئ، إذ وجد أنّهم يُعطون لوصاياهم ووصايا ألأقدمين، قيمة وأهمِيَّةً أكبر من وصايا الّله، بل يُبدلونها بوصاياهم.  كانوا يهتمّون بالحرف لا بالرّوح "الحرف يقتل وأما الرّوح فيُحيي" (يو 63:6). "سأله اليهود: لماذا يتعدّى تلاميذك تقليد الشّيوخ. فإنَّهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزاً. فأجاب وقال لهم: وأنتم أيضاً لماذا تتعدّون وصيّة الّله بسبب تقليدِكم؟" (متّى 15: 1-4). أيُّهما أفضل، غسل النعنع والشِّبث والكمُّون قبل أكله، أو تطهير القلب من الحقد والنّميمة؟ أيّهما أفضل تنقِية الكأس من الخارج أو من الدّاخل؟ أنتم بالتّالي تُشبهون قُبوراً مُبيّضة، تَظْهَرُ من خارج جميلة وهي من داخل مملؤَةٌ عظامَ أموات وكلِّ نجاسة. هكذا أنتم أيضاً، من خارج تظهرون للنّاس أبراراً ولكنَّكم من داخل مشحونون رياءً وإثماً" (متّى 23: 13-30). انتقادُ قاسي ولكنَّه حقيقي ولا مراآةَ فيه.

 

نعم هكذا بدأت علاقة يسوع مع علماء الفريسيّين والكتبة. إتهموه بأنّه ضائع الرّشد لأنّه لا يحترم تعليمهم وأفكارهم ويتّهمهم بأنّهم يُهملون وصايا الّله علناً، أو يُعفون أنفسهم من تتميمها، مثلا بدل إكرام الأب والأم ومساعدتهم مادّياً، فمن كان يَعِدُ بإعطاء هذه المُساعدة الماليّة للهيكل فهو مُعفى من واجبه تُجاه والديه. فلا يهمُّ إن دفعوا القيمة للهيكل أم لا. المُهم أنّهم وعدوا وعدا كاذبا بينهم وبين أنفسهم، لا أكثر ولا أقل. فهل نستغرب من قساوة لهجة يسوع معهم إذْ يتّهمهم بالمرائين؟ "هم عميان، قادة عميان" (متّى 14:15).

 

قال المثل: قُل الحقيقة ولو على قطع راسك! والكلُّ يعرف أنَّ قول الحقيقة وجهاً لوجه حتّى للصديق، فكيف إذن للعدو، شيءٌ جارحٌ مُؤلم! فكما نقرأ قد وصل غضب الفرّيسيّين على يسوع، نقطة لا تراجُع ولا إمكانيّة للصّلح والتّهدئة فيها. فلكي يجدوا تصفيقاً عند مؤّيديهم راحوا يدّعون عليه الكذب والإفتراء، حتّى أنّهم اتّهموه بأنّ القوّة الّتي بها يصنع العجائب هي إصبع الشيطان وليس إصبع الّله: "إنّ معه بعلزبول، وإنّه برئيس الشّياطين يُخْرج الشّياطين" (مر 24:3).

 

إنَّ هذا الإتّهام، هو ليس فقط ،قمّة الغضب والإفتراء بل ومُضْحِك. لذا يردُّ عليهم يسوع ببراهين منطقيّة، إذ قال "كلّ مملكة منقسمة على ذاتها  تخرب. وكلّ مدينة أو بيتٌ منقسم على ذاته لا يثبت. فإن كان الشيطان يُخرِج الشّيطان فقد انقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته" (متّى 12: 25-26). ولكن، كما تُشاهدون، إنّ مملكة الشّيطان قويّة، فهو إذنْ غير منقسم على نفسه. فإنْ أنا أتغلغل في ملك إبليس وأطرده من مرضاكم، فهذا يعني أنَّ سلطة الّله أتتْ وحلّتْ بينكم، وأنَّ إصبع الّله أقوى من إصبع إبليس. فهو إذن على جانبي ومن مصلحتكم أن تعترِفوا بذلك. لكنّهم لا اعترفوا ولا آمنوا به بل رفضوه وبقوا في خطيئتهم. لذا يعود إلى ذاكرتنا ما قاله يسوع في موقع آخر عن قلَّة اهتمام اليهود بل ورفضهم لرسالته وعدم الإيمان به، حيث كان واقفاً على جبل الزّيتون وأمامه أجمل منظرٍ لمدينة القدس، الّتي هي صورة عن المدينة السّماوية، والّتي سيتجمّع فيها يوم الدّينونة كلُّ المخلّصين أمام العرش السّماوي. "وفيما هو يقترب، نظر إلى المدينة وبكى عليها: "يا أورشليم! يا أورشليم! يا قاتلةَ الأنبياء وراجمة المُرسلين إليها! كم أردتُّ أنْ أجمع أولادك كما تجمع الدّجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تُريدوا. هوذا بيتُكم يُتْركُ لكم خراباً" (متّى 37:23). "لو عَلمتِ أنتِ أيضاً حتّى في يومكِ هذا ما هو لسلامِكِ. ولكن الآن أُخْفِيَ عن عينيكِ. فإنّه ستأتي أيّامٌ ويحيطكِ أعداؤكِ بمَتْرسةٍ ويحدِّقون بكِ ويُحاصرونكِ من كلِّ جهة. ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر، لأنَّكِ لم تعرفي زمانَ افْتقادكِ" (لو 19: 41-44).

 

نعم أمام موقف اليهود المُتصلِّب من موقفه، وثباتهم على إنكارِهم للحقيقة الّتي لمسوها بأعيننهم، تستسلمُ حتّى محبّة الّله أمامهم "لأنّهم لم يعرففوا زمان افتقادِهم" (لو 44:19). هم يروا بعيونِهم قوّةَ الّله بينهم، وكيف أنَّ يسوع بقوّته يُقلِّص من قِوّة الشّيطان العاملة بينهم، ومع ذلك يقولون عنه "إنّه ضائع الرّشد. إنَّ فيه روحاً نجساً" (مر 30:3).

 

وهنا نقف أمام سرٍّ كبير: سرِّ الخطيئة ضدَّ الرّوح القُدس "إنَّ كلَّ شيءٍ يُغفر لبني البشر، من خطيئةٍ وتجديف، مهما بلغ تجديفُهم. وأمَّا من جدَّفَ على الرّوح القدس، فلا غُفرانَ له أبداً، بل هو مُذنبٌ بخطيئةٍ للأبد" (مر 3:28-29).

 

هذه هي إذنْ خطيئةُ الخطايا. أنْ نكتشف الّله ونسمعه ونعيش أعماله ومحبّته بيننا، لكنّنا نُغلِقُ قلبنا وعقلنا عن الإعتراف به بل ونقول إنّه صنع كلَّ العجائب بالإتّفاق مع رئيس الشّياطين، وننكر سلطة الّله فيه، فهذا كُفْرٌ واضح ولا خطيئة أكبر منها، إذ مُقترفُها يُغلِق قلبه لغفران الّله المجّاني المُقدَّم له.

 

نعم هذه هي خطيئة الفرّيسيّين. فلنسمع توبيخ يسوع لهم بهذا الخُصوص: "لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنّكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. أنتم من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكُم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للنّاس من البدء ولم يَثبُت في الحق لأنّه ليس فيه حقٌّ. متى تكلَّم بالكذْب فإنّما يتكلَّم ممّا له، لأنّه كذّاب وأبو الكذب. وأمّا أنا فلأنّي أقول لكم الحقّ، لستم تؤمنون بي. من منكم يُبكِّتُني على خطيئة. فإنْ كنتُ أقول الحق، فلماذا لا تؤمنون بي؟ الّذي من الّله يسمع كلام الّله. أنتم لستم تسمعون لأنَّكم لستم من الّله" (يو 8: 43-47).

 

نحن نعلم بأنَّ رحمَةَ الّله لا حدود لها، والدّليل على ذلك بأنّه ما وضع حدّا للمغفرة والتّسامح، فلمّا سأله بطرس : "ربّي! كم مرّةً يُخطِئ إليَّ أخي وأغفر له، هل إلى سبع مرّات؟ فأجاب يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرّات بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات" (متّى 18:21-22).العادة كانت أن يغفر الإنسان لأخيه ثلاث مرّات فقط، وها بطرس يتجرّاُ ويضاعِف العدد. وأمّا يسوع فيلغي الأعداد.

 

أسرع لمُصالحة أخيك، قبل أن تُقدِّم ذبيحتك. أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم وصلُّوا لأجل الّذين يُسيئون أليكم ويطردونكم، لتكونوا أبناء أبيكم، الّذي في السّموات، فهو يُشرِق شمسَه على الأشرار والصّالحين ويُمطِر على الأبرار والظّالمين" (متّى 5: 44-45). وأثناء تجواله هو لم يُفرِّق بين الأشرار والصّالحين، بل جلس مع الأشرار والخاطئين على مائدة واحدة، وغفر للزّانية عند حائط المبكى، وللسّامريّة عند بئر يعقوب وللجُباة زكّا ومتّى، فهو كما قال جاء ليُخلِّص الضّائعين" (لو 10:19).

 

أفليست إذن مفاجأة لنا اليوم، أن يسوع يضع حدّاً للمغفرة، حيث يقول "إنَّ كلَّ شيءٍ يُغفر لبني البشر، من خطيئةٍ وتجديف، مهما بلغ تجديفُهم. وأمّا من جدّف على الرّوح القدس، فلا غُفرانَ له، بل هو مُذْنِبٌ بخطيئة للأبد" (مر 3: 28-29). فكأنّه ما عاد ينعرِف. فهل هو يُناقِض نفسه، أم كيف نفهم ذلك؟. هذا الحكم جاء من بعد ما اتّهمه أعداؤُه بأنّه متواطئ مع بعلزبول وهو يصنع العجائب بالإتّفاق مع رئيس الشّياطين. هذا وقد أثبت لهم بأنّ العجائب تتمُّ كلُّها بإصبع الّله العامل بينهم، إذ هم نفسهم قد قالوا "من يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الّله وحده" (مر 2: 5-7). وهذا ما أثبتَه لهم. لكن بما أنّهم لم يتراجعوا عن هذا الإفتراء والإدِّعاء المقصودَين، وهما تشويهٌ سمعته عند أتباعهم، فقد أفهمهم بكلِّ صراحة، ما ستكون العاقبة الوخيمة لتعنُّدِهمٍ إذ قال: تعنُّدُكم هو ضدُّ إلهام الرّوح "الّذي يعلِّمكم كل شيء". وبما أنّكم ترفضون مفعوله فيكم، فعِقابُكم هو عقاب كلِّ مُصرٍّ على رأيه، كما هو مذكورٌ في كلِّ كتاب قانون. فهو يُعيّن قيمة العقاب، لكلِّ جُرْم يرتكبه الإنسان. فما لكم من إمكانيّة غفران خطاياكم، وستموتون فيها. هذا الكلام هو إنذار لهم لا الحكم عليهم. بهذا المعنى يجب أن نفهم، أنَّ وضعَ الحدِّ لمغفرة خطاياهم، لم يأتِ من يسوع نفسه، بل الحكم عليهم هو تفسير لهم ولتصرُّفهم. هو لم يُرِد ذلك، لكنَّ هذا هو نتيجة إغلاق قلوبهم لعمل الرّوح فيهم. وهذا هو عقاب جرمهم هم. إنَّ كلامه لا يعني الحكم القاطع عليهم، بل بإمكانهم أن يحصلوا على الغفران، حتّى في آخر حياتهم، إنْ تابوا عنها كاللّص الّذي صُلب عن يمينه، فقد حصل على الخلاص في آخر لحظة "اليوم ستكون معي في الفردوس"(لو 43:23). أليس هذا الكلام مُوجَّه لنا؟ يسوع فاتحٌ باب قلبه لكلِّ من يطرق عليه تائبًا، مهما كانت حياته، ومهما ارتكب من الجرائم، فهو إن تاب "سيكون معي في الفردوس الأبدي"، هكذا يقول الرّب.