موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٣

أعياد وظواهر

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

د. ميشال عبس :

 

لعيدي الميلاد ورأس السنة في الشرق الأوسط طابع خاص على مستوى المجتمع ككل، ولكن للبنان خصوصيّة في هذا المجال، لا بدّ من الوقوف أمامها لما تحمله من معانٍ وعبر.

 

الخصوصيّة تتمثّل في ظاهرتين تميّزان هذين العيدين وتستحقان التأمّل والتحليل.

 

الظاهرة الأولى هي زينة الميلاد ورأس السنة واحتفالاتهما، أمّا الظاهرة الثانية فهم العرّافون والبرّاجون وظهورهم العلني ونفاقهم وتلاعبهم بمشاعر الناس وربما بمصيرهم.

 

زينة الميلاد أصبحت ظاهرة لبنانيّة مشتركة بشكل واسع وعند كل شرائح المجتمع اللبناني على اختلاف انتماءاتها. هي كانت كذلك في الماضي ولكن بشكل خفر إلى حدّ ما، أمّا اليوم فقد "اجتاحت" كلّ المناطق، ونخصّ بالذكر المناطق ذات الغالبيّة السكانيّة غير المسيحيّة، وهذا ما يستحق التأكيد عليه والثناء.

 

راجت على مواقع التواصل الإجتماعي في لبنان، خلال فترة الميلاد، أشرطة فيديو تظهر كيف يحتفل المسلمون في لبنان بعيد الميلاد وكيف يتحلّقون حول شجرة ميلاد مزيّنة، في هذه الساحة أو تلك، مع تعليقات بشكل مزاح لطيف ومحبّب تظهر من خلال الأسماء أنّ جميع المحتفلين هم من المسلمين. الأمر نفسه ينطبق على المحال التجاريّة أو صالونات التزيين أو الحلاقة. المهم أنّ هذه التعليقات، على شكل مداعبة، تحمل لطفًا وودًّا يظهران إلى أيّ حدّ يمكننا الكلام عن ثقافة لبنانية قائمة على التناضج بين اللبنانيين وكيف أنّهم متفاعلون ومتجانسون على صعيد الحياة اليوميّة والمناسبات.

 

هذه الظاهرة، التي خرجت إلى العلن بشكل واسع اليوم، ليست غريبة عن اللبنانيين، إذ عمدت أعداد كبيرة من العائلات المسلمة إلى تزيين شجرة الميلاد داخل بيوتها وحتى إلى إعداد مغارة الميلاد ولكن من دون التماثيل الصغيرة التي تجسّد السيّد المسيح ومريم ويوسف، عملًا بالمعتقد الإسلامي أن لا تجسيد للأنبياء، لا بالصور ولا بالتماثيل.

 

في نفس السياق، وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر، لا بدّ لنا أن نطلع القارئ أنّ الأطفال ذوي الحاجات الخاصة الذين كانوا يتدرّبون في مركزنا المتخصّص في الهرمل، "دار البهيج"، كانوا يشتركون في تصنيع مجسّمات لمغارة الميلاد وكانت تباع هذه المجسّمات من أهالي الهرمل الذين هم في الغالبيّة العظمى من أهلنا المسلمين الشيعة. كان ذلك في خضّم الحرب اللبنانيّة، حيث كان البلد منقسمًا طائفيًّا وعندما كانت المناطق معزولة عن بعضها البعض.

 

في نفس السياق أيضًا، وجدنا في بعض الكنائس المتواجدة في المناطق المختلطة دينيًّا، أنّ نسبة كبيرة من الأطفال الذين يحتفلون بالشعانين هم من أسَرٍ مسلمة، أحب أهلهم احتفال الشعانين فجعلوا أولادهم يشاركون مع أصدقائهم في زياح أحد الشعانين.

 

من جهة مقابلة، ولا بدّ لنا من ذكر هذا الأمر من أجل اكتمال المشهد الإجتماعي النفسي الثقافي اللبناني، لقد تحوّلت الإفطارات الرمضانيّة مناسبات لقاء إجتماعي توحيدي بين اللبنانيين وأضحت العائلات والمؤسّسات المسيحيّة تقيم الإفطارات وتدعو أصدقائها المسلمين إليها وبوتيرة ونسبة عاليتين.

 

كلّ هذه الظواهر تحدث في بلد يوحي بالظاهر أنّه منقسم على بعضه وأنّ النزاعات فيه هي على وشك النشوب، ولكن الواقع الذي لا يمكن نكرانه هو أنّ بقعة زيت فئات الشعب المتجانسة هي على توسّع وأنّ الناس موحدة خارج إطار التجاذبات السياسيّة، حيث لا تحدّيات لا في السلطة ولا في المال.

 

أمّا بالنسبة إلى العرّافين، العالمين بقضايا الغيب والغد والماوراء، فتراهم يحطّون رحالهم على شاشات محطات تلفزة دخلت في سباق مع بعضها في تسخيف الناس وتضليلهم.

 

تمهّد هذه المحطات لظهور هؤلاء " الأنبياء" بالترويج "لإنجازاتهم" النبويّة في السنوات السابقة، وجميعهم من المنافقين المتصّنعين الوقار والمعرفة.

 

يحضر هؤلاء "المتنبئون"، الممسكون بالغيب، ويبدأون بسرد المستقبل مع تأكيدات لا تدنو منها الشكوك وبشكل جريء يصل إلى حدّ الوقاحة، فيقرّرون مصائر قيادات وشعوب وظواهر، ويحاولون التعميم قدر المستطاع تفاديًا لمساءلتهم مستقبلًا عن فشل ما تفوّهوا به. "نبوءاتهم" يغلب عليها طابع الإيحاء وتمعين الكلام، تحسبًا لضرورة التراجع عما قالوه أو لاتهامهم المستمعين بسوء الفهم.

 

المشكلة أنّ هؤلاء المنافقون يفعلون فعلهم في مجتمع يعيش حالة من الريبة والضياع مع خوف شديد مما يخبئه له المستقبل، فيؤذون الناس، السذّج منهم خصوصًا، فرديًا وجماعيًا إذ تجد العامّة تتداول بما قالوه، خلال عدّة أيام أو أسابيع، وكأنّه حقيقة واقعة.

 

ولا يقلّ نفاقًا عن العرّافين اختصاصيي الأبراج، رغم أنهم يتسلّحون بعلم الفلك، الذي هو علم معترف به، ولكنّهم يعتمدون عليه من أجل "تقرير مصير" مواليد هذا أو ذلك البرج.

 

أمّا الطامة الكبرى فتكمن في أنّ كلّ هؤلاء "المتنبئين"، بالمخيّلة أو بالأبراج، قد افتتحوا مكاتب استشاريّة، يزدحم الناس في ارتيادها، وجداول مواعيدهم محجوزة لعدة أشهر إلى الأمام. عندما ارادت إحدى طالباتي دراسة هذه الظاهرة لإعداد رسالة ماجيستر في علم الإجتماع، رفضت إحدى "النبيّات" إعطائها موعد مقابلة وأوعزت إليها أن تأخذ موعدًا مثل كلّ الناس وأن تدفع لها قيمة المقابلة وكأنّها من زبائنها. لقد بلغت غطرستهم شأوًا متقدمًا.

 

مسكين هذا الشعب الضائع بين مجموعات المنافقين من شتّى المجالات، السياسيّة منها والإقتصاديّة، ولم يكن ينقصه سوى هذه الحفنة من الأنبياء الكذبة.

 

لو كلّفوا أنفسهم هؤلاء الضائعون، الباحثون عن أجوبة وراحة نفسيّة، قراءة كلام السيّد المتجسّد، حامل آلام الإنسانيّة، لوفروا على أنفسهم الكثير من المشقّات والمعاناة، ولعرفوا أين تكمن الراحة وأين تكمن الحقيقة.

 

لا بدّ لنا في ختام هذه المقالة أن نورد ما جاء في الكتاب المقدّس حول هذه الظواهر:

 

إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيّة في السماويات. من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير، وبعد أن تتمّموا كلّ شيء أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، ولابسين درع البِرّ، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام. حاملين فوق الكلّ ترس الإيمان، الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة.  (افسس 6: 12 -16)

 

وكذلك " لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبخوها."(أفسس 5: 11)

 

كما ورد أيضًا أنّه " سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصّة يجمعون لهم معلّمين منحرفة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحقّ، وينحرفون إلى الخرافات." (تيموثاوس 4 :3 -4)