موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

6 كانون الأول: عيد القديس مارتين

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أيها القديس مارتين... صلّ لأجلنا

أيها القديس مارتين... صلّ لأجلنا

 

قصة مارتين والمتسوّل

 

يوم من أبرد الأيام من فصل الخريف الجديد. الكل يتسابق بخطىَ حثيثة لإنهاء مهمّته للعودة سريعًا إلى بيته الدافئ وعائلته. لكن على مفرق الطرق، في مدخل مدينة لاتور Le Tour الفرنسيّة، كان الناس يتزاحمون، منهم الدّاخل ومنهم الخارج. ويا للعجب، لا أحد ينتبه للشحّاذ الجالس على حدى قرب المدخل، يرتعش من البرد القارس، مادًّا يده للتسوّل في هذا الصباح. فمنهم من يرمي بيده فلسًا ومنهم لا يكترث له، بل يدير وجهه ويتابع طريقه، ومنهم من يستهزئُ به هازًّا رأسه إذ لا أحد يقدر أن يساعد يوميًا كل المتسوّلين. وهذا شيء يومي يعيشه الناس في المدن الكبرى، وفي الساحات المكتظّة حتى اليوم.

 

وفجأة يتزاحم الناس حول متسوِّلٍ شاب، ملابسه نصف ممزّقة ولا تكاد تخفي عورته، رافعًا يده إلى ضابط على حصانه، شقّ طريقه ووقف أمام هذا الشاب المترهّل، ووقعت أعينهما على بعض. عندها مدَّ الضابط يده في جيبه  ليخرج نقودًا منها يساعده، وإذا بجيبه فارغ ولا نقود فيه. فترجّل عن حصانه وخلع معطفه المُخمل الدّافئ، واستلّ سيفه الحاد وقسم به المعطف إلى قسمين، رمى بقسم منه على أكتاف المتسوِّل المرتعش بردًا، لكن المتسوّل لا يقدر يُصغِّر نفسه حتى يلتفَّ كاملا بنصف معطف. وكذلك الضابط، الذي ارتدى القسم الثاني  ثم امتطى حصانه وتابع طريقه، فقد جعل نفسه مضحكة للذين شاهدوا هذا المقطع الرِّوائي الغريب.

 

كان ذلك في سنة 334 بعدَ المسيح، واسم هذا الضابط الشاب مارتين، ولا نعرف إذا ما قام به شيئًا يُحمد أو يُلام عليه، لكن هذا العمل علق في الأذهان وما نساه التّاريخ حتى اليوم، إذ أصبح مثالاً لكلِّ من يساعد ويعمل خيرًا حيث الضرورة.

 

قصّة حياة مارتين حقيقية ومأخوذة من سلسلة كتب القديسين المُعترف بهم وبحقيقة حياتهم، خاصة وإن حياة مارتين هي من قلم صديق عُمرِه المدعو Sulpicius severus ونستطيع أن نقابلها مع محتويات كتب حياة قديسين آخرين، مذكور فيها أيضًا بعض الأوصاف الثانية لحياة مارتين وغيره من القديسين، الّذين بوسعهم أن يكونوا أمثلة حيّة لنا اليوم.

 

ولد مارتين عام 316 في هنغاريا، التي كانت مستعمرة رومانية. كان والداه يحملان الجنسية الرّومانيّة، وإذ والده كان جنديًا رومانيًّا، فكانت وظيفة ابنه كجندي روماني ثابتة، إذ القانون كان يطلب من أبناء الجنود أن يصبحوا هم أيضًا جنودًا في خدمة المستعمرات الررّومانية. دخل مارتين الخدمة العسكرية في سن الخامسة عشرة، وبعد التدريب المطلوب كان نصيبه مع فرقة الحرس الخاص لحماية القيصر مع فرقة الركوب على الخيل. وبعد فترة تمّ نقله إلى الفرقة المشابهة في مدينة داميان شمال فرنسا. لا نعرف شيئًا عن طفولته إلا أنّه مذكور أنّه في أوّل شبابه قدّم طلبًا لينضمّ إلى فرقة الّذين يستعدون لقبول سرّ العماد، وهي كانت مفتوحة لكل الأعمار. وهذا يعني أن عصر اضطهادات القياصرة في القرون السابقة قد انتهى، إذ مع ارتداد القيصر قسطنطين في عام 313، أعطِيَت الدّيانة المسيحية مساواتها وحقوقها كباقي الدّيانات الوثنية. واعتبارًا من 391 أصبحت ديانة الدّولة الرّومانية ومستعمراتها الكثيرة، التي لوُسعها ما كانت تغيب عليها شمس، مع تحريم كل الديانات الوثنية، التي أبقت رغم كلِّ الحرمان بعض العادات والإحتفالات الشعبية سارية المفعول.

 

بالنسبة لمارتين فقد تمّ نقله من هنغاريا إلى فرنسا، وبالتحديد إلى مدينة داميان، شمالي فرنسا. وفي طريقه إلى هناك حدث معه ما أخبرناه مع المتسوّل على مدخل المدينة. وفي الليلة اللاحقة، رأى مارتين في الحلم المسيح المرتدي نصف، المعطف الذي جصل عليه منه قائلا له: أنا هو يا مارتين، الّذي ساعدته بمعطفك! كان مارتين لا يزال غير مُتعمّد، وكان قد أنهى كل التّحضيرات لقبول هذا السّر. فانتسب حالا إلى لائحة الّذين سيقبلون المعمودية ليلة الفصح من عام 334. كان عمر مارتين 18 عامًا.

 

سنتين بعد عمّاده جاءت نقظة تحوّل في حياته. كانت حدود ألمانيا إلى فرنسا، نقطة مهمّة للرّومان وكادت ستبدأ معركة بين الطّرفين، فاضطرّ الرّومان إلى تجميع قوّة مقاومة عسكرية ضدّ الألمان. فمن قبل أن ينضمّ إليها أهداه القائد يوليان هدية تقديرية. أما مارتين، فكان من تارخ عمّاده في نزاع مع نفسه ويحاول أن يترك الجندية، فوجدها مناسبة أن يعلِن ذلك رسميّا، فبدل من أن ينضم إلى فرقة المقاتلين ويقبل بالهدية، وقف بوجه القائد، مُعارٍضًا للحرب وقال: حتى اليوم خدمتك كجندي، لكن إسمح لي من اليوم أن أُقاتل من أجل ربّي. ليقبل الهدية من يريد أن يُحارب، أمّا أنا، فأنا جندي المسيح، الّذي لا يسمح لي أن أحارب بالسّلاح". فكان هذا رفضًا منه أو عدم الطّاعة لأوامر السلطة، لأسباب مسيحية شُجاعة، فجرّدوه من صلاحياته العسكرية وسرّحوه من الجيش، معتبرين موقفه موقف جبان، لكنّه أجابهم، أنتم تتّهموني بالجبان، وتقولون إن اعتراضي بحجة مسيحيتي، هو فقط عذر كاذب، فأنا أريكم غدًا الحقيقة. وفي اليوم التالي سأذهب إلى جبهة المُقاتلة بلا سلاح، وباسم يسوع المسيح سأضع درعي وحوذتي تحت الصليب وسأسير بين الأعداء بدونهما. لكنَّ ذلك لم يتم، لأن الأعداء الألمان كانوا قد استسلموا في الليل  قبل أن تبدأ المعركة. أما مارتين فقد جرّدوه من منصبه وطردوه من المعسكر.

 

وبما أن مارتين صار حرًّا، فراح إلى الأسقف هيلاريو في مدينة Poitier، غربي فرنسا، وأخبره بحاله، فأقامه المطران مساعدًا له. ونجد في قصة حياته أنه ترك فرنسا وعاد إلى هنغاريا عند أهله وأخبرهم بحاله، محاولاً أن يُقنعهم لاعتناق المسيحية، فنجح بإقناع والدته وقام هو بعمّادها، لكنَّ والده لم يقبل أن يصير نصيبُه نصيب ابنه، فبقى جنديًّا في خدمة القيصر.

 

ونقرأ أيضًا أن مارتين توجّه إلى إيطاليا محاولاً في طريقه على القضاء على مُخلّفات الأدينة الوثنية وتوطيد الديانة المسيحية، فاصطدم مع شيعة الأريانزمس Arianismus والتي تقول، إن يسوع بميلاده قد فقد ألوهيّته ومساواته مع الله الآب، لكن مارتين لم يقبل بهذا التعليم وحاربه علنًا، ممّا سبّب له خلافًا مع أساقفة إيطاليا العليا، ويُقال أنهم أمروا بجلده عريانًا حتى يرتدع ثم نفوه. فاختلى بنفسه على جزيرة قرب نابولي، يتغذّى من الأعشاب والخُضار ويصرف وقته في الصلاة والتأمل، وذلك لأكثر من 20 سنة. هذا وفي سنة 360 عاد الأسقف هيلاريوس إلى بواتييه، من بعد ما أُبعَد هو أيضًا عنها لمدّة بسب خلافات دينية بينه وبين الأساقفة الآخرين، فأوّل ما قام به، أنّه أنهى لمارتين عزلته وأحضره من جديد. لكن عزلة مارتين السابقة كانت قد طبعته بطابع الهدوء، فلم يعد يحب الصخب والمُشاجرات، فاختار طوعًا بقعة هادئة ليس بعيدًا من بواتييه. لكنّ صيته كان قد انتشر لبساطته وحبِّة للاختلاء والصّلاة، فتجمّع حواليه عدد من الشبيبة التي كانت مثله تحبُّ البساطة والصّلاة. وهكذا تألّفت معه أول جمعيّة شبابية، تُمارس سويّة ما كان يُمارسه مارتين من صلوات وتقشّفات وأعمال في الحقول. فصارت هذه الأُخوة أساس أول دير رهبان في أوروبا.

 

 

مارتين الأسقف

 

بعد 10 سنوات، أي في سنة 371 أصبح كرسي الأسقف في تور حيث كان مارتين جنديّا، فارغًا. أمّا اختيار الأسقف في ذلك الزّمان فما كان يصدر من روما، كما هي الحال اليوم، لكن من الشعب بالذات، إذ قالوا صوت الشعب هو صوت الله. فالشعب كان يعرف بمواقف مارتين الدينيّة المُشرّفة، فوقع اختيار الشعب عليه، لكنه لتواضعه حاول رفض الإختيار وخفية راح اختبأ في إسطبل إوز، الّذي راح يُنقنِقُ ويُثرثر بلا هوادة، حتى تركهم هذا الضيف غير المرغوب فيه بينهم، فترك الإسطبل ورجع إلى صومعته، حيث نادى به الشعب أسقفًا لمدينة تور. نرجع الآن إلى حكاية الوز، المعروف بإوز مارتين، وهو من اللحوم المُفضّلة من عيده وإلى آخر السنة. أمّا مارتين، ولو قبل بكل تواضع ان يُصبح أُسقفًا، على الرّغم من معارضة بعض أساقفة المنطقة، بحجة أنه ليس جديرًا وقديرًا للإدارة ولا مثالاً للأُسقفية لكنَّ صوت الشعب غلب. أمّا مارتين، وإن أصبح أُسقفًا، إلاّ أنّه حافظ على بساطة حياته، ومسكنه كان شبه زنزانة إلى جانب الكنيسة، كما ولم يترك شبه الحياة الرّهبانية التي كان يعيشها مع مجموعة الشباب، بل أسس أديرة أُخرى مشابهة، عُرفت باسمه عصورا طويلةً بعده.

 

 

حياة مارتين كأسقف

 

إن حياة مارتين كأسقف ما خلّفت لا أعمالا ولا كتابات خارقة. فمن مواعظه لم يبق شيء مذكور ومن تعاليمه هو لم يكن لا لاهوتيّا ولا مُعلِّما بارزاً. كلّ ما هنالك أنّه كان رجل دين وعمل، فغالبا ما ترك منزله الأسقفي لرحلات تبشيريّة، حتى خارج حدود أبرشيّته، وصلت به إلى سارتر، في الجنوب الغربي من باريس، بل وحتى باريس حظيت بتبشيره. من أهم ما كان في باله، كما ذكرنا أعلاه هو القضاء على آثار الوثنية، فما كان يهاب من تدمير أماكن مثل هذه المعابد، وبناء معابد ديانة مكانها، وأديرة وكنائس. هذا ويذكر لنا زميله Sulpicius severus، الّذي كان أوّل من كتب لنا حياة مارتين، أنّه حدثت على يده بعض العجائب، كهذه: أن أحد الإخوة الرّهبان قد تُوفي بغيابه دون قبوله أسرار الموتى، فبعث مارتين فيه حياة حديدة حتى مُنحت له هذه الأسرار وعاد وفارقته الحياة, كانت الحيوانات تحبّة ولا تبتعد عنه، كما وكان هو يُحب كل الحيوانات، حتى إنّ كثيرا من مراحل حياته في هذا المجال، كانّه صورة عن حياة القديس فرنسيس الأسيزي. كما وكثيرا ما قابله الشيطان بكلِّ عظمة وإجلال كي يُغريه، ولكنّه كان ينتصر عليه بالصّلاة. فمهما يفكِّر عالمنا اليوم بسخافة بعض القصص له، إلا أنّها تُبرهن لنا أنّ مارتين كان يبني حياته وأعماله وعجائبه على ربّه يسوع المسيح، كما ويوعز نجاحه الخاص لمساعدته له. عبّر عنها مؤلّفة بالجملة: وإلا كيف نُصنِّف القديسين عن غير القدّيسين؟

 

 

موت مارتين

 

توفي مارتين يوم الحادي عشر من نوفمبر عام 397 عن عُمر لا يُصدَّق في ذلك الزمان، أي 81 سنة، وكان في رحلة تبشيرية خارج أبرشيّته في مدينة اسمها Candes في الغرب من فرنسا. بنيت في نفس المكان كنيسة صغيرة على اسمه، تحمل إلى اليوم اسم Candes- St martin. أمّا دفنه فكان في أبرشيّته تور بحضور جماهير لا تُحصى. وقد أصبح قبره مزارًا كبيرًا خاصة في القرون الوسطى.

 

الكنيسة تُفرِّق بين القديسين الشهداء، الّذين يموتون دفاعًا عن الدّين في وقت الإضطهادات، والقديسين المُعترفين أي الّذين يعترفون بالإيمان طيلة أيام حياتهم وينشرونه بمثالهم وأعمالهم. فالكنيسة أعلنت القديس مارتين أول قديس مُعترف على لوائحها.

 

إن تقسيم معطفه هو أحسن مثال لكل العصور ولنا نحن، يحثّنا على مقاسمة خيراتنا مع المعوزين والمحتاجين، وهم كثّر اليوم بما فيهم اللاجئين الذين تُغلِق الدّول اليوم حدودها بوجههم. هذا وإن زيارة البابا فرنسيس من 2-4 هذ الشهر إلى قبرص هي بهذا المعنى، أي لحث الدّول على الأنتباه لمئآت الآلاف من المُهجرين من بلادهم ويمدّون يدا كالمتسوّل مع مارتين. فيا ليت من وجود عشرات مارتين اليوم لفقراء عصرنا!

 

فيا قديس مارتين! أعطِ الدّول الغنيّة روحًا من روحك لتشعر بحاجات هؤلاء المهجّرين ويقاسمون معاطفهم معهم.