موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

يسوع والعشرة بُرص

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
يسوع والعشرة بُرص

يسوع والعشرة بُرص

 

الأحد الثامن والعشرون 2022.10.09 (الإنجيل لو 17: 11-19)

 

الصحة عطية من الله لا تُثمَّن، وسعيد الحظ من لا تُصيبه أمراض أو عوارض صحيّة في حياته، وهذا نادر، ويجب أن يكون أكبر الشاكرين لله على هذا الحظ. من ضمن رسالته، كان شفاء المرضى على لائحة أعماله اليومية، خاصّة وأنّه لم يكن مِن أطبّاء في ذلك الزمان، فبعد كلِّ أُعجوبة شفاء كان يسوع ينعرف بالأكثر، فكان المرضى يتهافتون عليه من كلّ حدبٍ وصوب، طالبين أن يلمسهم أو أن يلمسوا هم ولو طرف ثوبة، إذ كانت قوّة منه تسري منه، ومن آمن فقد شُفي. كم وكم كان يسوع يقول لهؤلاء: إيمانك أبرأك، اذهب بسلام. أو قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك!

 

لقد كان البَرَص من أخطر وأكثر الأمراض المنتشرة والمتفشيّة في ذلك الزّمان. وبما أنَّه مَرَضٌ مُعدٍ، فكان رؤوسا الكهنة قد تَوَلَّوا الأمر ومنعوا، ليس فقط عدم ملامسة من أصيب بهذا المرض، بل وبعزله عن الأصحّاء، كما الحال اليوم مع الكورونا. ففرضوا عزل المصابين عن الأصحاء (كما الحال في حالة الكورونا، التي تجتاح العالم بكامله). كانوا يلبسونهم ألبسة ممزّقة، ويربطون بأعناقهم حبلاُ طويلاً ويقودونهم إلى الخلاء، إلى أبعد ما يمكن من المدن والقرى، تحاشيا لملامستهم للأصحّاء، ولربما ليكونوا بأسرع ما يمكن فريسة للوحوش المفترسة. وأهم شيء كانوا يعلّقون في أعناق كلِّ مريضٍ جرساً صغير لقرعِه، حين يسمع خُطىً تقترب منه، فيصرخ إلى ثلاث مرّات: نجس! نجس! نجس! لا تقترب!! نقدر أن نقول: كان هؤلاء أمواتا، ولو كانوا أحياء. فكما سمعنا قبل قليل، كان الكهنة قد أبعدوا عشرة مرضى مصابين بالبرص عن ذويهم في العراء. مرّ يسوع من هناك، ويذكر الإنجيل أنه كان يصنع خيرا أينما مرّ. هذه المرّة كانت جموع كثيرة ترافقه، فسمع البُرُص عن مروره بقربهم، فأسرعوا ووقفوا على حافّة الطّريق، وراحوا يصرخون من بعيد، إذ ما كان لهم من أملٍ أن يسمعهم إلا بالصّراخ: يا يسوع، إرحمنا! فانتبه يسوع لصراخهم وما أن رآهم بحالهم، حتى شفق عليهم، فشفاهم وأرسلهم مُشافين مُعافين، إلى الكهنة الّذين كانوا أبعدوهم عن ذويهم، وذلك ليشهدوا لهم علنا، أنّهم برِؤا الآن، ويحقُّ لهم مُخالطة ذويهم وغيرِهم، كأنَّ شيئا ما كان! فمَن لا يمتلئ قلبه بالشكر والعرفان، إذا ما حصل على نعمة الشفاء، التي حصل عليها هؤلاء، مثلا إن شفى مريض من مرضه اليوم، فيعلن عن الشفاء بالشكر لطبيبه والّذين اعتنوا به في المستشفى في الجرائد). لكن للأسف، يقول الإنجيل، إنَّ واحداً فقط من العشرة، أدرك ما حدث له، ففطِنَ أن يشكر، مَنْ وهبه الحياة من جديد، وهذا قليل! بعد شفائه لاحظ، من خلال ما حدث له، أنَّ هناك شخصاً، شعرمعه. هذا الشخص، وليس أحد عائلته أو أصدقائه، هو الّذي أعاد إليه، وعلى غير استحقاق، الحق على الحياة، لذا قال في نفسه: يجب أن أشكُرَه، فعاد وشكر بصدق. وهذا ما نفتقده عند التسعةُ الباقين، علماً بأنّهم العشرة قد شُفوا. إنَّ تنهُّدَ يسوع: أمَا العشرة شُفوا، فأين التسعةً الباقون؟ يدلُّ على أنًّ الإنسان، كما يقول المثل، كثيرا ما يكون ناكراَ للجميل: إذ عدم الشكر (الجحود) هو المكافأة". إن الشكر هو غذاء النفس. فمن لا يُحبُّ سماع كلمة شكر على عمل صالح يقوم به؟. لكن هناك أٌناس يستثقلون إخراج كلمة الشكر من فمهم، بينما بهذه الكلمة، يريد الإنسان التعبير عن تقديره لمحسنه وصانع المعروف له. فهؤلاء التّسعة اعتبروا أن شفاءَهم هو حقٌّ لهم، ولم يفطنوا لفضل الله عليهم ليشكروه. رجعوا رأساً إلى أهلهم وبيوتهم ونسوا كلمات يسوع: من أحبَّ أباً أو أُمّاً أكثر مني فلن يستحقّني! فيجب أن تكون أولويات في حياتنا، لكن يجب أيضا أن نمنح الأولويّة لله الخالق ومانح الحياة والشفاء. والباقي كله يُزاد لنا.

 

ألا تصف هذه القصّة واقعنا اليوم. نحن نعتقد أنَّ كلَّ ما نملك، وما نحن، هو شيء طبيعي، وكأنَّ لنا الحقَّ عليه. نعم نفتكر أنه لنا الحق أن نبقى أصحّاء، أن يكون لنا وظيفة، تدرُّ علينا لبناً وعسلا، وأنَّ تكون الكنيسة في خدمتِنا، حتّى وإن كنا لا نفطن لها إلا في المناسبات، كالسائق الّذي لا يزور محطّة البنزين، إلا حينما يفرغ خزّان سيّارته. فهل نحن لا نحتاج الله إلا حبنما نقع في مأزق؟ لماذا قال: هاأنذا معكم كلَّ الأيّام وإلى منتى الدّهر؟ هو معنا كل الوقت ونعيش تحت رعايته واهتمامه الدائم، ولكن ما الحال معنا؟ نحن نقول: إنّنا نحتاجه فقط حينما تُظلِمُ الدّنيا من حولنا؟ ومن قال، إنَّ ذلك أمراً طبيعيّاً ولنا الحق عليه، وننسى أنَّ كلَّ ذلك هو هديّة من الله، وكما يقول بولس، علينا أن نكون شكورين في كلَّ حين. لكن الشكر لا يأتي من تِلقاءِ نفسه، بل يجب تعلُّمه منذ الصّغر حتى يرافقَنا كلَّ حياتِنا. إليكم هذه الحادثة البسيطة: "ولد صغير أراد أن يشتري شيئا بسعر 6 دنانير. هو صغير لا يستطيع أن يعمل ويستصعب الطلب البسيط بكلمة: من فضلكَ! لذا فلكي يحصل على هذا المبلغ، كتب هذه الورقة إلى والدته: الاعتناء بأختي الصغيرة في غيابك 2 دينار. الذهاب لشراء حاجيّات البيت 2 د. تنظيف مائدة الطعام ومسح الصحون 2 د. المجموع 6. دنانير. ثم وضع الورقة تحت صحن والدته، الّتي اكتشفت هذه الورقة بعد الغداء، فلم تقل شيئا، لكنها اختلت في غرفتها وكتبت: يا ابني! بدل تحضير الأكل والشرب لك: صفر. بدل غسيل وكوي ملابسك صفر. بدل الاعتناء بك كل مرّة تمرض صفر. بدل مساعدتك في واجباتك المدرسية صفر. بدل محبتي الكبيرة لك صفر. ثم وضعت هذه الورقة مع ال 6 دنانير التي يحتاجها تحت مخدّته، فاكتشفها مساء، فقام ومشى على رأس أنامله إلى المطبخ ووضع ال.6 دنانير على الطاولة خجلا واختفى. فهل نُعلِّم أطفالَنا أن يشكروا على كلِّ عمل نقدِّمه لهم؟

 

 الشكر هو علامة إيمان وعرفانُ جميلٍ، لخير حدث لنا، كما للشاب، الّذي نال الشفاء، فرجع ليشكر يسوع على إنعامه عليه. إيمانك أبرأَك!

 

في كثير من كنائس العالم يحتفل المؤمنون في الأحد الأول من أكتوبر بعيد الشكر الكبير، على الثمار والخيرات، التي اقتطفوها هذه السنة من حقولهم. هم يشكرون الله على خيرات الآرض، التي دخلت مخازنهم وسيعيشون منها هذه السنة. هم يعرفون أنّ الأرض لا تُثمر إلاّ بعونه تعالى ونعمته، ولذا فهم يحتفلون بعيد الشكر لله، إذ يُحضرون إلى الكنيسة رموزا من هذه الثمار ليباركها الكاهن ويشكر الله عليها باسمهم، إذ هناك صلاة تقول: كلّ شيء متوقِّف على بركة الله. فالشكر هو علامة فرح وتقدير، لما يَحصَل عليه الإنسان من شخصٍ آخر ولفائدته، إذ الحصول على خيرات الأرض والمواد الغذائية، الّتي نعيش منها، هو ليس سهلاً أو أمراَ طبيعيّاً. فعندما تقع هذه المواد بين أيدينا، علينا أن نشكر تلك القوّة الإلهية، التي جعلت الأرض تُثمر لتغذينا. من هنا ضرورة الشكر سواء قبل الأكل أو بعده.

 

هذا ولنعد الآن إلى إنجيل اليوم، وها نحن نلتقي بواحدٍ من عشرة بُرُص شفاهم يسوع. فمن المفروض منهم، حينما شعروا بالشفاء وحصلوا على موافقة الكهنة أنّهم فعلا أصحّاء، ويحقُّ لهم الآن الإختلاط بأهلهم وبمن حولهم دون الخوف من عدواهم، أن يرجعوا إلى من أنعم عليهم بالصحة قبل أن يذهبوا إلى أيِّ مكانٍ آخر، وهذا حقّاً هو الصواب. فهم اعرف النّاس، بأن ما كان الحظَّ حالفهم، وكأنّهم وُلِدوا تحت نجمٍ مشؤوم، فذاقوا الأمرَّين حتى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم، أي بصحّة كاملة، لا أثر فيها للمرض الّذي كاد يؤدّي بحياتهم لولا الساعة الرّحمانية، الّتي جلبت لهم مانح الحياة بالّذات، فمنحهم حياةً جديدة. من العشرة لم يُقدِّر منهم نعمة الشفاء إلا هذا الإنسان البسيط، وكان سامريّاً، أي من مسقط رأس أولئك الّذين رفضوا أن يستقبلوا يسوع بينهم، بعد حديثه مع المرأة اسّامرية، الّتي ارتدّت عن حياتها وصارت من أًولى تلاميذه النّساء. فكما أعاد يسوع لها صحّتها الرّوحية، أعاد لابن قريتها الصحّة البدنيّة أيضاً. هذا الشاب فَهِمَ ما حدث معه، من بعد ما كان ميؤوساً من وضعه الصّحي، فقد رأى في هذا الحدث إشارة، أي أن هناك إنساناً فَطِن لي في حظي التّعيس ورحمني أكثر من أهلي ومجموعة الكهنة، ألّذين أبعدوني عنهم ورموني في الصحراء، عرضة لكلِّ المخاطر الممكنة، ومن ضمنها احتمالُ إفتراسي من الحيوانات الضّارية، فما بوسعي إلا التشكّرَ منه على إنعامه هذا، وشفائي من موتٍ مُحتّم. هو (أي يشوع) صديق ليس كباقي الأصدقاء، بل هو يتصرّف باسم الله، وهو الله الذي أنعم عليّ بالحياة من جديد. فمَنْ مِثْلُ الله.

 

إيمانه ما أبرأ فقط بَشْرتَه من البرص بل وقلبَه. لذا عاد ليشكر فرِحاً لما حصل له: إرتمى على قدميه ومجّد الله بصوت عالٍ. فاستغرب يسوع وقال: أما برِئوا جميعا، فأين التسعة الباقون؟ هؤلاء بَرِئَت بشرتُهُم فقط لا قلوبُهم، لذا نسوا أن يعودوا ويشكروا.

 

يا رب! قوِّ إيماننا، فنبقى شكورين لك ولجميع من يقف إلى جانبنا من البشر طيلة أيام ضيقنا في حياتنا. لقد أعطيتني يا رب كلِّ شيء، لكن إسمح لي أن أطلب هذا: أعطني قلبا شكورا. آمين.