موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

يسوع هو المسيح المنتظر

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الرابع والعشرون للسنة: يسوع هو المسيح المنتظر (مرقس 8: 27-35)

الأحد الرابع والعشرون للسنة: يسوع هو المسيح المنتظر (مرقس 8: 27-35)

 

النص الإنجيلي (مرقس 8: 27-35)

 

27 وذَهبَ يسوعُ وتَلاميذُه إِلى قُرى قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس، فسألَ في الطَّريقِ تَلاميذَه: ((مَن أَنا في قَولِ النَّاس ؟)) 28 فأَجابوه: ((يوحَنَّا المَعمَدان. وبَعضُهم يقول: إِيلِيَّا، وبَعضُهمُ الآخَرُ: أَحَدُ الأَنبِياء)). 29 فسأَلَهم: ((ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟)) فأَجابَ بُطرس: ((أَنتَ المسيح)). 30 فنَهاهُم أَن يُخبِروا أَحَداً بِأَمرِه. 31 وبَدأَ يُعَلِّمُهم أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام. 32 وكانَ يقولُ هذا الكلامَ صَراحةً. فانفَرَدَ بِهِ بُطرُس وجَعَلَ يُعاتِبُه. 33 فالتَفَتَ فَرأَى تَلاميذَه فزَجَرَ بُطرسَ قال: ((إِنسَحِبْ ! وَرائي! يا شَيطان، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر)).

 

 

المقدمة

 

يُبيِّن نص مرقس الإنجيلي (8: 27-35) كيف أن يسوع طرح على تلاميذه في مسيرته التعليميّة لإيمانهم السؤال الأساسي في قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس حول هويته ورسالته ومصيره أثناء صعوده نحو أورشليم في رحلته الأخيرة التي ستقوده إلى بذلِ حياته من أجل أحبّائه (مرقس 8: 27-35). فعبَّر بطرس باسم التلاميذ عن إيمانهم بجواب وافٍ كاشفا أن يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ. وكان هذا الاعتراف مرحلة انتقالية أساسية في حياة يسوع حيث بدأت رحلة آلامه إلى المدينة المقدسة، اورشليم. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 8: 27-35)

 

27 وذَهبَ يسوعُ وتَلاميذُه إلى قُرى قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس، فسألَ في الطَّريقِ تَلاميذَه: مَن أَنا في قَولِ النَّاس؟

 

تشير عبارة "ذَهبَ يسوعُ وتَلاميذُه إلى قُرى قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس" إلى خروج يسوع من الجليل بسبب مقاومة الفريسيين فذهب إلى شمالي فلسطين. أمَّا عبارة "قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس" إلى مدينة بُنيت قرب ينابيع نهر الأردن في شمال فلسطين عند سفح جبل الشيخ على بعد 32 كم شمالي بحيرة طبرية. وكان اسمها قديما بعل جاد (أي إله الحظ) ثم صار عند اليونان "بانيون" نسبة إلى اسم إله من آلهتهم يدعونه "بان"، إله الرعاة، ومنه انبثق الاسم الحالي بانياس. وقد أعطى الإمبراطور أوغسطس هذه المدينة إلى هيرودس الكبير سنة 20 ق.م. فبنى فيها معبدا من الرخام الأبيض على اسم الإمبراطور قيصر وكان يُدعى أوغسطس في هذا المكان ابن الاله. فقد أكمل ابنه هيرودس فيلبس بناءها وحسنها وجعلها عاصمة له وغيّر اسم المدينة من قيصرية إلى قيصرية فليبس لتمييزها عن قيصرية البحرية. ثم حسنها هيرودس أغريباس الثاني ودعاها (نيرونياس) إكراما للقيصر نيرون. وكانت قيصرية آخر المدن التي زارها المسيح في جهة الشمال في فلسطين (مرقس 8: 27). أمَّا عبارة " فسألَ" في الأصل اليوناني ἐπηρώτα  (معناها ألح َّ) فتشير إلى تكرار السؤال للتدقيق. وكان المسيح رأى انه حان زمن امتحان تلاميذه؛ أما عبارة " فسألَ في الطَّريقِ تَلاميذَه: " فتشير إلى سؤال يسوع الأول الذي يدل على استنارة إيمانية، وذلك كي يختبر إيمان تلاميذه فيدركوا شخصه، فينعموا به، ويروه بعيون الإيمان. يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لقد قادهم يسوع إلى مشاعر أسمى وأفكار أعلى بخصوص شخصه حتى لا يكونوا كبقية الجموع". أمَّا عبارة " مَن أَنا في قَولِ النَّاس؟ " فتشير إلى سؤال يسوع لتلاميذه في المكان المناسب ليزيل من أذهانهم أن قيصر هو ابن الله ويكشف لهم عن حقيقة ذاته ورسالته انه هو المسيح ابن الله كما صرّح بطرس بقوله "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 15).  وفي الواقع، لم يُعلن يسوع عن شخصيته صراحة بل ترك للناس أن يُدركوا ذلك من أعماله (يوحنا 10: 24 -25). والآن أراد أن يعرف ماذا استنتجه الناس من أعماله ومن المعجزات التي صنعها. وهذه هي المرة الأولى التي يتحدَّى بها يسوع تلاميذه ليُعبِّروا عن عواطفهم نحوه ويتخذوا موقفا تجاه. ولا زلنا نعيش في زمان، يريد كل واحد منّا أن يعرف، ما هي أفكار النّاس عنه.

 

28 فأَجابوه: يوحَنَّا المَعمَدان. وبَعضُهم يقول: إِيلِيَّا، وبَعضُهمُ الآخَرُ: أَحَدُ الأَنبِياء

 

تشير عبارة "يوحنا المعمدان" إلى بعض اليهود الذين اعتقدوا أن إيليا عاد في شخص يوحنا المعمدان (مرقس 6: 16)؛ يوحنا هي صيغة عربية للاسم Ἰωάννην في أسفار العهد الجديد. يوحنا المعمدان هو مهيئ طريق المسيح، فيتقدم أمامه متمماً النبوة التي كان يتوق إليها كل يهودي بأن إيليا يأتي قدام المسيح، ويهيئ للرب شعباً مستعداً (متى 11: 14 و17: 1 -13). ولد يوحنا سنة 5 ق.م. قبل المسيح بستة أشهر (لوقا 1: 26) من زكريا الشيخ وزوجته اليصابات، الوالدين طاعنين في السن (لوقا 1: 5 -25). وكان أبواه يسكنان اليهودية، وربما في يطا بقرب حبرون (الخليل)، مدينة الكهنة. وتقول التقاليد أنه ولد في قرية عين كارم المتصلة بأورشليم من الجنوب (لوقا 1: 39). وعاش رجولته ناسكاً زاهداً، ساعياً لإخضاع نفسه والسيطرة عليها بالصوم والتذلل، حاذياً حذو إيليا النبي في ارتداء عباءة من وبر الإبل، شاداً على حقويه منطقة من جلد، ومغتذياً بطعام من جراد وعسل بري، مبكتاً الناس على خطاياهم، وداعياً إياهم للتوبة، لأن المسيح قادم. ولم يظن يوحنا عن نفسه انه شيء وقال عن نفسه انه: "(صوت صارخ في البرية" (يوحنا 1: 13). وكرس حياته للإصلاح الديني والاجتماعي. وبدا كرازته في سنة 26 ب. م. في غور الأردن. وقد شهد في كرازته أن يسوع هو المسيح (يوحنا 1: 15)، وأنه حمل الله (يوحنا 1: 29). وكان يعمد التائبين بعد أن يعترفوا بخطاياهم في نهر الأردن. (لوقا 3: 2 -14). وقد طلب يسوع أن يعمده يوحنا، لا لأنه كان محتاجاً إلى التوبة، بل من اجل تقديم دليل على اندماجه في الجنس البشري وصيرورته أخا للجميع. وحوالي نهاية سنة 27 أو مطلع سنة 28 م. أمر هيرودس انتيباس رئيس الربع بزجه في السجن الكائن في قلعة مكاور المطلة على مياه البحر الميت لأنه وبخه على فجوره (لوقا 3: 19 -20). وبعد أن قطع هيرودس رأسه جاء تلاميذه حالاً ورفعوه ودفنوه. يقول جيروم أنهم حملوه إلى سبسطية عاصمة السامرة ودفنوه هناك بجانب ضريح اليشاع وعوبديا. وحسب يوحنا الإنجيلي أن المسيح شهد فيه أعظم شهادة إذ قال " لحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان (متى 11: 11). أمَّا عبارة "وبَعضُهم يقول: إِيلِيَّا، " فتشير إلى اعتقاد بعض الناس أن يسوع هو إيليا، لان إيليا النبي الذي رُفع إلى السماء (2ملوك 2: 11-13) سيعود في الأزمنة الأخيرة (ملاخي 3: 23)؛ لكن المسيح ليس كإيليا حيث أنه لم يُختطف إليها بل جاء منها. لذا يسوع هو أكبر الأنبياء، وهو الذي يسبق نهاية الأزمنة. لقد اعتبر إيليا النبي الشخص الذي كان سيُمهِّد الطريق للمسيح تماماً مثل يوحنا المعمدان. إن مقارنة يسوع مع هاتين الشخصيتين تُظهر جلياً الرغبة في إبقائه في قائمة السابقين المنبئين بالمسيح. وأمَّا عبارة " أَحَدُ الأَنبِياء " فتشير إلى اعتقاد البعض أن يسوع هو أحد الأنبياء. كان الأنبياء حلقات وصل يسير بها الله بالتاريخ إلى كماله. ولكن المسيح هو الذي به نصل إلى الكمال. ولم يكن يسوع " أَحَدُ الأَنبِياء" الذين بوساطتهم صنع الرب التاريخ وأنجزه فحسب، بل هو المسيح الممسوح الذي أعلنه الأنبياء. وبكلمة اعتبر الناس يسوع انه من عظماء الأنبياء: يوحنا المعمدان، إيليا، أرميا.  وعندما جعلوا يسوع من عداد الأنبياء، كان يعتبرون أن رسالته إلهية. وهذا ما يقوله اليوم أيضا أناس كثيرون: أن يسوع هو رجل نادر، لا مثيل له.

 

29 فسأَلَهم: ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟ فأَجابَ بُطرس: أَنتَ المسيح

 

تشير عبارة "فسأَلَهم: ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟" إلى سؤال يسوع الثاني الذي يدل على تحدِّيه لتلاميذه، أصدقاؤه وأحبّاءه، وهم الذين رافقوه منذ البداية فأعطاهم سر الملكوت (لوقا 9: 10)، وهم أقدر الناس على فهم شخصية يسوع وهويّته.  ويريد منهم الآن أن يتَّخذوا موقفا مُحدَّداً. لم يكتفِ يسوع بأقوال عامة الناس، بل أراد أن يعرف من تلاميذه مباشرة، ما هي أفكارهم عنه.  واليوم، نشعر أن سؤال يسوع هو موجّه إلى كلّ واحد منّا: "مَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟  أمَّا عبارة "فأَجابَ بُطرس" فتشير إلى جواب بطرس باسم جميع الرسل.  وبطرس أي "الصخر" هو الاسم الجديد الذي أطلق يسوع عليه بدل اسمه "سمعانَ" للدلالة على إيمانه الذي هو " كالصخر" لأن الإيمان الذي أظهره بطرس في جوابه ليسوع هو "الصخر" الذي لا يتزعزع والذي يريد يسوع أن يبني عليه كنيسته. والكنيسة تستمرّ بالمضي قدمًا دومًا مرتكزة على إيمان بطرس، على ذاك الإيمان الذي رآه يسوع في بطرس، فجعله رأسَ الكنيسة. أمَّا عبارة "أَنتَ المسيح" في الأصل اليوناني Σὺ εἶ  Χριστός فتشير إلى "المشيح" הַמָּשִׁיחַ (معنها المُكرّس بالمسحة) المخلص الذي تحدث عنه الأنبياء ومهّدوا له السبيل، ومنهم يوحنا المعمدان وإيليا. ليس يسوع واحداً من السابقين بل هو المسيح نفسه. وقد تكرر هذا اللقب 14 مرة في إنجيل مرقس واغلب المرات ذكر هذا اللقب في علاقة مع السر الفصحى" لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (متى 10: 45). وقد أعلن لقب المسيح على لسان الملائكة (لوقا 1: 32) وسمعان الشيخ (لوقا 2: 26) والشياطين (لوقا 4: 41) لكن بطرس هو التلميذ الذي أطلق على يسوع هذا اللقب تعبيرا عن مجده تعالى، ويعلق القديس ايرونيموس " طوبى لذاك الذي يُمدَح لإدراكه وفهمه الذي فوق الرؤيا بالعيون البشريّة، فلا يتطلّع إلى ما هو من الجسد واللحم، إنّما ينظر إلى ابن الله خلال الإعلان له من الآب السماوي. لقد صار مستحقًا أن يكون أول من اعترف بلاهوت المسيح".  وقد صدّر مرقس بهذا اللقب إنجيله (مرقس 1: 1)، الذي يُعبِّر عن إيمان الكنيسة بيسوع.  ويُعلق القديس أمبروسيوس" في هذا الاسم "المسيح" يتجلى اللاهوت ويُعلن التجسد وأيضًا الآلام". إنّ هذا الاعتراف هو النقطة الحاسمة في تعليم يسوع وفي بشرى الإنجيل، الذي هو ثمرة الحرّيّة التي أنعم الله بها على بطرس والتلاميذ، وهي نعمة الروح القدس الساكن في قلوبهم. وفي إنجيل مرقس ورد مرة واحدة أنَّ إنسانا اعترف بأن يسوع هو المسيح، وذلك الأنسان هو بطرس. ولهذا اللقب صفة دينية قومية وسياسية، ولهذا ما استعمله يسوع إلاّ أثناء محاكمته (مرقس 14: 61-62)؛ لأنه اعتبره خطراً لفهم رسالته. فيسوع هو ليس فقط المسيح المنتظر بل أيضا المسيح المتألم الذي سفك دمه لخلاص النفوس. يُعتبر نص اعتراف بطرس بالمسيح هنا نقطة تحوّل. من هذا المكان يبدأ يسوع مسيرته نحو القدس لعيش آلامه.  فلا يكفي أن نعرف ما يقوله الآخرون عن يسوع، بل علينا نحن أن نعرف ونفهم ونقبل شخصيّاً أنّه المسيح.

 

30 فنَهاهُم أَن يُخبِروا أَحَداً بِأَمرِه

 

تشير عبارة "فنَهاهُم أَن يُخبِروا أَحَداً بِأَمرِه" إلى تحذير يسوع تلاميذه كي لا يفشوا لقبه قبل أوانه بسبب التباسات هذا اللقب في الأوساط اليهودية؛ فما زال الجميع، آنذاك، متوقعين مجيء المسيح ملكاً فاتحا منتصراً. لذلك لا يتضمن رد فعل يسوع أي استنكار للقب "المسيح". فإن هذا اللقب هو سابق لأوانه ولا يُدرك تماما قبل انتهاء رسالة يسوع بالموت والقيامة (مرقس 4: 22). ومن هذا المنطلق، عندما اعترف التلاميذ بان يسوع هو المسيح، لم يكونوا على علمٍ بعد كل ما يعنيه ذلك. فسرُّ المسيح لن يُكشف إلاّ بالآلام والقيامة، لذا منع يسوع تلاميذه إفشاء سره لكي يتم المكتوب عنه ويتحقق صلبه، "ولَو عَرَفوها لَما صَلَبوا رَبَّ المَجْد" (1قورنتس 2: 8). فلا بدَّ أن يمرَّ يسوع بالموت لتُكشف هويته. لذا اجتهد مرقس الإنجيلي في إعادة قراءة حياة يسوع الأرضية في ضوء وحي الفصح (مرقس 14: 61-62). ويُعلق القديس أمبروسيوس" منع التلاميذ من الكرازة به كابن الله ليُبشروا به بعد ذلك مصلوبًا. هذه هي روعة الإيمان أن نفهم حقيقة صليب المسيح...! فصليب المسيح وحده نافع لي كما قال بولس الرسول " وأَصبَحتُ أَنا مَصْلوبًا عِندَ العالَم" (غلاطية 6: 14). كان هذا الحديث مقدمة لإعلان صليبه.

 

31 وبَدأَ يُعَلِّمُهم أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام

 

تشير عبارة "بَدأَ" إلى بداية جديدة، فيها يتحدث يسوع عن الطريقة التي بها يُتمِّم رسالته: الألم والموت، ثم المجد والقيامة بطريقة واضحة صريحة.  بعد مرحلة التعليم بالأمثال والآيات اخذ يسوع يُعدَّ تلاميذه لما سيحدث له.  دخل في منطق جديد مبني على بذل الذات، حيث لا يستطيع الرسل إدراك أن يسوع هو الرب مانح الحياة، إلاَّ من خلال بذل حياته في سبيل إخوته من خلال هذا التعليم الجديد. وهذا التحدي يتطلب مسيرة. أمَّا عبارة "يُعَلِّمُهم " فتشير إلى تعليم يسوع لتلاميذه ومقدار الجهد الذي يحتاجونه للإيمان بآلامه وقيامته، لذلك استحسن أن يقوم بنفسه بتأكيد آلامه وقيامته لهم، ليصبح ذلك بداية وسببًا لميلاد الإيمان فيهم. أمَّا عبارة "ابنَ الإِنسانِ" فتشير إلى يسوع الذي سيكون المسيح على طريقة "ابن الإنسان". ويكاد يرتبط هذا اللقب دائماً بالسر الفصحى تحت شعار " ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45).  ابن الإنسان هو لقب قديم ليسوع استُعمل في البداية حين كان المسيحيُّون من أصل يهودي.  وقد ورد هذا اللقب 84 مرة في الأناجيل.  ويدل اللقب على "العبد المتألم" الذي جاء ليُخلص شعبه (حزقيال 2: 1-3)، وهو ليس المسيح الوطني المنتصر الذي ينتظره اليهود ليُخلصهم من الاحتلال الروماني، بل يستبق يسوع بهذا اللقب الدينونة بسلطانه مخلصاً الخاطئين (متى 9: 6) وفاتحا الزمن المسيحاني (متى 12: 8).  وهذا اللقب، بارتباطه بالوصف النبوي لعبد الله المتألم (أشعيا 53) يوحِّد بين الصليب والمجد.   ولمّا جاء آباء الكنيسة فهموا لقب ابن الإنسان كممثل الإنسانية. أمَّا عبارة "يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة" فتشير إلى إنباء يسوع بآلامه وطاعته إلى التدبير الإلهي، حيث أن الأمر ليس مصيرا محتوما ولا حدثا طارئا بل تمَّ بإرادة يسوع وعلمه. في هذه المرحلة تحديداً ولأول مرة يتحدث يسوع عما ينتظره في المدينة المقدسة، اورشليم.  أمَّا عبارة " الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة " فتشير إلى المجلس الأعلى لدى اليهود الذي كان يحكم الشعب اليهودي. وكان هذا المجلس مؤلفا من (71) عضواً يمثلون الأرستقراطية العلمانية (الشيوخ) ومن كبار الأسر الكهنوتية (عظماء الكهنة) الذين كانوا يختارون منها عظيم الكهنة، ومن الكتبة أو مفسّري الشريعة. وكان المجلس يرأسه عظيم الكهنة. وفي هذه الآية ينبئ يسوع أول مرة بآلامه وموته وقيامته. ويتبعها إنباءان آخران "بآلام المسيح وموته وقيامته (مرقس 9: 31؛ 10: 33). أمَّا عبارة " أَن يُقتَل، " فتشير إلى الابن الله الذي اختاره الآب كي يُقدّم حياته عن الجميع، ويُعلق القديس أمبروسيوس" لم يبلغ أحد إلى العظمة التي تؤهله لرفع خطايا العالم كله، لا أخنوخ ولا إبراهيم ولا إسحق الذي قدَّم نفسه للموت قادر أن يغفر الخطايا، إنما اختار الآب الابن، ابن الله الذي هو فوق الجميع، أن يُقدِّم نفسه عن الجميع، إذ هو أقوى من الموت، وقادر أن يخلص الآخرين. أمَّا عبارة " يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام " فتشير إلى فترة تمتد من مساء الجمعة إلى صباح الأحد (1 قورنتس 15: 4)، وهي دعوة يسوع إلى الإيمان بأنّ الله آباه لن يترك قدّوسه يرى الفساد (مزمور16: 10) وأنّه سيغلب الموت ويُقيمه حيًّا في اليوم الثالث (هوشع 6: 2).  لم يُعطِ سر الآلام والقيامة كوحي عن رسالة يسوع فقط، بل ليدل التلاميذ على الطريق الواجب إتباعه، وهو الطريق الذي يمر عبر الآلام ليصل إلى القيامة. تتفق آلام يسوع مع نبوءات دنيال، أنَّ المسيح يجب أن يقتل (دانيال 9: 26) ثم يأتي وقت الضيق (دانيال 9: 27) وسياتي الملك في مجد (دانيال 7: 13-14) وسيتحمل التلاميذ نفس الآلام كملكهم. ولم يتردد لطّوباويّ البابا بولس السادس أن يُعلق "عليّ واجبُ إعلان اسمه: إنّ الرّب يسوع هو "المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متىّ16: 16). هو سيّد البشريّة ومُخلّصها، فقد وُلد ومات وقام من أجلنا".

 

32 وكانَ يقولُ هذا الكلامَ صَراحة. فانفَرَدَ بِهِ بُطرُس وجَعَلَ يُعاتِبُه

 

تشير عبارة "وكانَ يقولُ هذا الكلامَ صَراحة" إلى وعي يسوع برسالته كمسيح ومعرفته بالآلام التي تنطوي عليها وبالصليب (يوحنا 2: 19)، ولذا لم يُؤخذ يسوع على حين غرَّة بل أن سير الحوادث كان معلوما سابقا، وانه كان جزءا من تدبير الله (أعمال الرسل 4: 28). أمَّا عبارة "يُعاتِبُه" في الأصل اليوناني ἐπιτιμᾶν (معناها انتهر) فتشير إلى رد فعل بطرس السلبي الذي يدل انه ما زال ينظر إلى يسوع كالمسيح الممجَّد، دون أن ينظر إلى الوجه الثاني للمسيح المتألم الذي عليه أن يمرّ بالألم والموت. وهو أمر لم يتقبله الرسل. فأبدوا مقاومتهم لمنطق الحب الذي ملأ قلب المسيح والذي يعني تقدمة حياته فداء عن البشر. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " نظر بطرس إلى آلام الرّب يسوع المسيح وموته من وجهة نظر طبيعيّة وبشريّة تمامًا، وبدت له هذه الميتة غير لائقة بالله وتنتقص من مجده " (العظة رقم 54 حول إنجيل القدّيس متى). لم يرَ بطرس إلاَّ جانبا واحد من صورة المسيح. كان يريد أن يصبح يسوع ملكا فقط دون أن يصير أولا "العبد المتألم" الذي تبنا عنه النبي أشعيا (الفصل 53).  أدرك بطرس أن يسوع هو المسيح، لكنه الآن يتحول عن وجهة نظر الله، ويقيِّم الموقف من وجهة نظر بشرية. لم يدرك بطرس سر المسيح في عمقه بالرغم انه أطلق على يسوع انه المسيح.  فهو ما زال ينظر إلى يسوع مسيحا مجيدا، في حين كان يسوع يُنبئ " بمسيح مـتألم".  إن كان بطرس الرسول استطاع بإعلان إلهي أن يتعرف على "يسوع" أنه المسيح، لكنه مع هذا لم يكن ممكنًا لبطرس أن يتفهم المسيح كمخلص يُصلب عن البشرية ويقوم ليقيمها معه، إذ كان الفكر اليهودي يرفض هذا تمامًا، لهذا أسرع السيد المسيح يُصحِّح المفهوم. لم يكن بطرس، في تلك اللحظة، يهتمّ بمقاصد الربّ، بل برغباته ومشاعره البشريّة الطبيعيّة. كان يريد أن يُصبح يسوع ملكاً، وليس العبد المتألّم الّذي تنبّأ عنه أشعيا في الفصل 53. أنه لأمر خطير أن تلميذا حسن القصد لكنه غير روحي قد يصير آلة في يد الشيطان.

 

33 فالتَفَتَ فَرأَى تَلاميذَه فزَجَرَ بُطرسَ قال: انسحب! وَرائي! يا شَيطان، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر

 

تشير عبارة "زَجَرَ" في الأصل اليوناني ἐπιτιμᾶν (معناها انتهر) إلى معاتبة يسوع لبطرس الذي اظهر صعوبة التوفيق بين لقب المسيح المنتصر وفكرة الآلام والموت؛ فكان بطرس حَجَر عَثْرَة ليسوع في تتميم رسالته وعائقا في الطريق إلى اورشليم (متى 16: 23). أمَّا عبارة "انسحب! وَرائي! " في الأصل اليوناني Υπαγε ὀπίσω μου (معناها اذهب ورائي) فتشير إلى السير خلف يسوع وإتباعه، فالتلميذ يكون خلف معلمه، لا أمامه، ويقتفي آثار معلمه ولا يُحدِّد له الطريق. عمل التلميذ لا إن يُرشد الرب ويحميه، بل أن يتبعه. لم يكن عمل بطرس أن يرشد يسوع المسيح، بل أن يتبعه. أمَّا لدى تجربة الشيطان ليسوع فاكتفى يسوع بالقول "اِذهَبْ (Υπαγε) يا شَيطان!" (متى 4: 10). إن بطرس بمعارضته آلام يسوع، يقوم مقام الشيطان الذي يحاول أن يردَّ يسوع عن طاعة الله (مرقس 1: 7)، وقد جرَّب الشيطان يسوع لكي يفعل نفس الأمر (متى 4) لذا اعتبر يسوع كلام بطرس تجربة شيطانية. وهكذا كان بطرس عائقا ليسوع في تتميم رسالته.  لم يُدرك بطرس حقيقة لقب " المسيح" فكان ينتظر مسيحا مجيدا مظفرا، في حين كان يسوع يُنبئ "بمسيح متألم " قبل أن يكون مسيحا مجيدا. من اجل ذلك، حاول بطرس أن يمنع يسوع من الذهاب إلى الصليب. أمَّا عبارة " لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" فتشير إلى مصدر معارضة الناس لتعليمه. فالبشر لا يعملون بإرادة الله التي تحدِّد عمل المسيح، لأنهم ينتظرونه مسيحا بشريا قوميا سياسيا وليس مسيحا متألما مخلصاً للبشر، لان اليهود يرفضون فكرة مسيح متألم.  وقد أطلق القدّيس بولس صرخة الإعجاب تجاه أفكار الله "ما أَبْعدَ غَورَ غِنى اللهِ وحِكمَتِه وعِلمِه! وما أَعسَرَ إِدراكَ أَحكامِه وتَبيُّنَ طُرُقِه!" (رومة11: 33). من هنا يبدأ الرب طريقه إلى القدس، مصطحباً معه تلاميذه، داعيا إيَّاهم إلى أن يتقبلوا ليس "يسوع حسب أفكارهم" بل يسوع المصلوب.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " الرّب يسوع يجيب بطرس وكأني به يقول له: "لكن لا، ليس الألم والموت غير لائقَين بي. فالأفكار الأرضيّة تشوّش تفكيرك وتضلّلك. انزع كلّ فكرة بشريّة من ذهنك وأصغِ إلى كلامي من منظار المشروع الذي أعدّه أبي، عندها ستفهم أنّ هذا الموت هو الأمر الوحيد الذي يتناسب مع مجدي. أتعتقد أنّه من المعيب لي أن أتألّم؟ اعلم أنّ مشيئة إبليس هي ألاّ أتمّم هذا المشروع الخلاصي"(العظة رقم 54 حول إنجيل القدّيس متى).

 

34 ودَعا الجمع وتَلاميذَه وقالَ لهم: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني

 

تشير عبارة "دعا الجَمعَ" إلى دعوة يسوع ليس بطرس والتلاميذ فقط بل الجميع للتجرد من ذواتهم من أجله ومن اجل بشارة الإنجيل. لا توجد طبقتان بين المسيحيين، فالمسيح يوجّه كلامه إلى الجميع، ولا يستثني أحدا، وشروطه مُعلنة على الملأ. أمَّا عبارة " يَتبَعَني" فتشير إلى ملازمة شخص يسوع والسير وراء يسوع لا كسامع فقط، بل كمعاون وشاهد لملكوت الله وعامل في حصاده (متى 10: 1-27). ومن خلال اتباع يسوع وتسليم الحياة في يديه يستطيع التلميذ أن يعرف يسوع. وفي الواقع يسوع في بادئ الأمر لم يقل لتلاميذه:" اعرفوني!"  بل قال: “اتبعوني!”  وحين نتبع يسوع، نعرف يسوع، نتبع يسوع بفضائلنا وبخطايانا، ولكن نتبعه دومًا. لن نعرف المسيح إلا إذا اتبعناه في الزهد في أنفسنا وبذل حياتنا لذاته وحياته. أمَّا عبارة "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني" فتشير إلى الانتماء إلى يسوع الذي يتطلب ثلاثة أمور وهي: أن يُزهد الإنسان بنفسه، وان يحمل صليبه، وان يتبع المسيح". ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "صليب المسيح هو مصدر كلّ خير، فمن خلاله نعيش ونتجدّد ونخلُص. فلنحملْ إذًا الصليب كإكليل مجد" (العظة رقم 54 حول إنجيل القدّيس متى). أمَّا عبارة "فَلْيَزْهَدْ" في الأصل اليوناني ἀπαρνησάσθω (معناها ينكر) فتشير إلى إنكار الذات والتجرد من الذات، ومعنى ذلك تنحية الذات تنحية كاملة بحيث لا يتعاطف الإنسان مع ذاته، ويكون غير مترفٍ في ملذات جسده فيحيا حياة الخطيئة بل يقوم بتسليم زمام الذات والحياة للمسيح لكي يصبح المسيح مركز حياته. ويُعلق القديس أوغسطينوس "لينسحب الإنسان من ذاته لا لأمور زمنية، وإنما لكي يلتصق بالله"؛ لا تقاس علاقتنا بيسوع بكمّية المعلومات التي نعرفها عنه، إنما في طرح هذه الأسئلة على أنفسنا: هل نقبل أن نموت مع يسوع لنحيا معه ومنه؟ فالحياة اختيار وقرار. أمَّا عبارة "يَحمِلْ صَليبَه" فتشير إلى أسلوب معروف عند الرومان بان السجين المحكوم عليه بالإعدام عليه أن يحمل صليبه إلى مكان تنفيذ الحكم تعبيرا عن الخضوع لسلطة روما. وقد استخدم يسوع تشبيه حمل الصليب ليصوّر غاية الخضوع والجهد البطولي المطلوب من اتباعه لحظة بعد لحظة لعمل مشيئة الله، وذلك بتسليم الذات الكامل، والإقدام على المصائب والمتاعب الجسدية -حتى الموت -تطوُّعاً لا إرغاماً، دون أي رجوع أو نكوص تجاه الضيقات والأتعاب. ويوضِّح القديس فرنسيس معنى حمل الصليب بقوله "ليس عذاب جسده مَن سوف يحوّله ليتشبّه بالمسيح مصلوبًا، إنّما المحبّة التي تلهب قلبه هي التّي سوف تقوم بذلك" (القدّيس بونافَنتورا ، حياة القديس فرنسيس ) . ويقول البابا بندكتس "إن الصليب هو الإعلان المؤكد والمحتم للمحبة والرحمة الإلهية، حتى بالنسبة لنا رجال ونساء هذه الحقبة من التاريخ، الذين غالباً ما يلهوا بالاهتمامات والأمور المادية والعابرة" (المقابلة القامّة بتاريخ 21/02/2007). وهنا يتنبأ يسوع عن صليب تلاميذه، لان الصليب هو طريق المجد الوحيد وهو طريقه أيضا. ما علّمه يسوع عمله أولا. وما طلبه عاشه أولا.  فيسوع نفسه حمل صليبه حتى الموت المشين وهناك مسيحيون فعلوا مثله كبطرس واندراوس؛ لان الصليب هو طريق المجد ليسوع وتلاميذه في المُخطط الإلهي. ويُعلق القديس كيرلس أسقف اورشليم "لا نشعرنّ بالخجل من صليب المسيح؛ بل على العكس، فلنفتخر به. الصليب عارٌ عند اليهود، وحماقةٌ عند الوثنييّن (1قورنتس 23-24)؛ أمّا بالنسبة إلينا، فهو رمز الخلاص" (التعليم المسيحي العمادي 13). فقد وهب بطرس ذاته وكيانه ليسوع، ويسوع يعهد بين يديه بمصير كنيسته. والحبّ لا يعرف حدود، لا في المكان ولا في الزمان، فهو هنا والآن، ويشمل كلّ العالم وكلّ الأزمنة. أمَّا عبارة "يَتبعْني" فتشير إلى السير في خطوات يسوع بالتدقيق، دون كلل أو فتور، ودون تردُّد أو ارتدادا. ويتخذ يسوع أسلوب الإقناع بحيث من يريد أن يصير تلميذا ليسوع عليه أن يخضع لإرادته، وان يعرف الذي يجب أن يقتدي به، ويبرهن عن انه يستطيع ذلك. وبعبارة أخرى، المطلوب الزهد بالذات وهو الوجه الداخلي، وحمل الصليب هو الوجه الخارجي. وكلا الوجهان يعودان إلى قرار واحد. يطلب يسوع تعلقا بشخصه، لا بتعليمه فقط، فهو لا يحمل كلمة الله بل هو الكلمة أيضا. علينا أن نتحوَّل من الفضول إلى التسليم زمام حياتنا ليسوع، ومن الإعجاب به إلى التعبد له.  فمن طلب الانتماء إلى يسوع، لا بدَّ له من أمور ثلاثة: أن يزهد بنفسه، وان يحمل صليبه، وان يتبع المسيح.

 

35 لِأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها":

 

عبارة "يُخَلِّصَ حَياتَه" في الأصل اليوناني τὴν ψυχὴν αὐτοῦ σῶσαι (معناها يخلص نفسه) تشير إلى الإنسان الذي يُخلص حياة الجسد بالبحث عن راحة البال ذات الطابع الأناني، بالمقابل يخسر يسوع والحياة الأبدية كما جاء في مثل الغني الغبي "يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي.  فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟" (لوقا 12: 19-20). ويضيف لوقا الإنجيلي قول يسوع المأثور "فماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه، وفَقَدَ نَفْسَه أَو خَسِرَها؟" (لوقا 9: 25). هنا يسأل المسيح سامعيه: هل قيمة العالم بأسره تساوي قيمة نفس واحدة؟ والجواب: هذا غير ممكن، طالما العالم وكل ما فيه من الخيرات والأمجاد يزول، بينما النفس خالدة تبقى إلى الأبد.  فذاك الإنسان الغبي يستحي منه ابن الإنسان في يوم مجده العظيم (مرقس 8: 5) ويحسبه كمن هو غير معروف لديه، ويُعلق القديس ايرونيموس "الله لا يعرف الشرير، إنما يعرف البار". أمَّا عبارة "البِشارَة" في الآصل اليوناني εὐαγγέλιον (معناها خبر طيب) إلى الأناجيل وتشمل هذا المعنى أيضاً كتاب رسولي يختص بحياة المسيح على الأرض. ولخص يوحنا الإنجيلي "البشارة" في أنها تكمن في إرسال الله ابنه الوحيد لخلاص المؤمنين (يوحنا 3: 16). ويوضح بولس الرسول مضمون الإنجيل بقوله "أن المسيح مات لأجل خطايانا، وأنه قام من بين الأموات (1 قورنتس 15: 1-4). ويُدعى في العهد الجديد بتسميات مختلفة منها: "بِشارةَ الله " (رومة 1: 1)، و " بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ" (مرقس 1: 1) و " بِشارةِ نِعمَةِ الله" (أعمال الرسل 20: 24)، " بِشارةِ السَّلام " (أفسس 6: 15)، و" بِشارةَ خَلاصِكم" (أفسس 1: 13)، و "بِشارةِ مَجْدِ المسيح" (2 قورنتس 4: 4)، " بِشارَةَ المَلَكوت،" (متى 4: 23).  وقد بشَّر يسوع المسيح نفسه بهذا الإنجيل (مرقس 1: 14) وبشَّر به الرسل (أعمال الرسل 16: 10) والمبشِّرون (أعمال الرسل 8: 25). أمَّا عبارة "يَفقِدُ حَياتَه" ἀπολέσει τὴν ψυχὴν αὐτοῦ (معناها يهلك نفسه) فتشير إلى مطلب يسوع من الذي يختار اتباعه أن يحيا بالزهد ويحمل الصليب بدل أن يحيا حياة الخطيئة وإرضاء الذات. لا وجود لحياة مسيحية دون الزهد في النفس. ويعلق الكردينال جوزف راتزنغر " إنّ أسرار الكنيسة هي، مثل الكنيسة نفسها، ثمرة حبّة الحنطة التي ماتت (يوحنا 12: 24) "(تأملات لأسبوع الآلام). وهذا كان الوضع في بداية الكنيسة، فمن كان يريد أن يترشح إلى العماد كي يصبح مسيحيا في روما في القرون الثلاثة الأولى، كان معرضا لنيل إكليل الاستشهاد؛ فالمسألة حياة أو موت. وفي أيامنا في بعض الأماكن يحصد منجل الموت العنيف أرواح المسيحيين وتُسلَب ممتلكاتهم لا لشيء إلاّ لأنهم مسيحيون يعترفون "بيسوع مسيحًا وربًّا ومخلصا" (مرقس 8: 27-35). ومن هذا المبدأ يقتضي على المسيحي أن يختار: تجاه ممالك الدنيا، هناك ملكوت السماوات، وتجاه مجد هذا العالم، هناك المجد الآتي من الله. وبكلمة مطلوب لاتباع يسوع أن نضحي بحياتنا في سبيل ولائنا ليسوع وخلاص حياتنا. ويتحدث البابا فرنسيس التضحية اليومية التي لا تتضمن الموت ولكنها أيضا "فقدان الحياة" من أجل المسيح، من خلال إتمام الواجب الخاص بمحبة، حسب منطق يسوع، منطق العطاء والتضحية، " كم من الآباء والأمهات يعيشون إيمانهم يوميًا مقدمين حياتهم بشكل ملموس من أجل خير العائلة! كم من الكهنة، الرهبان والراهبات يؤدون بسخاء خدمتهم من أجل ملكوت الله! كم من الشباب يتخلّون عن اهتماماتهم الخاصة للاهتمام بالأطفال، ذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين".  أما عبارة " يُخَلِّصُها" فتشير إلى تناقض صريح " من يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها" ومن "َيفقِدُ حَياتَه ...يُخَلِّصُها". هذا هو الصليب الذي ينتظره يسوع حقا. ويُعلق إسحَق السريانيّ الراهب "طريق الله هي صليبٌ يوميّ. لم يصعد أحدٌ يومًا إلى السماء براحة" (مقالات نسكيّة، السلسلة الأولى، الرقم 4). لذا من يريد أن يَخلص، عليه أن يُضحي بحياته في سبيل ولائه وإخلاصه ليسوع والإنجيل. فجاءت صلاة الحركة الفرنسيسكانية "أن الذي ينسى ذاته يجدها، والذي يموت، يحيا حياة ابديه". أمَّا عبارة "في سبيلي وسبيلِ البِشارَة" فتشير إلى عدم وجود هدف للتضحية المسيحية بحد ذاتها، بل تصبح التضحية والزهد شيئا سلبيا، إن لم يكن الزهد في سبيل الحياة مع المسيح. ويُعلق القدّيس فرنسيس كسفاريوس " بالرغم من أنّ المعنى العام لكلمة ربنا هي سهلة الفهم عندما نبدأ بفهم هذه الحالة وننوي أن نخسر الحياة من أجل الله بهدف أن نجدها فيه، عندئذٍ نبدأ بتخايل الصعاب... كلّ شيء يصبح غير واضح، وحتّى نص الكتاب المقدّس، الّذي هو واضحٌ بحد ذاته، يكتسيه الغموض. يبدو لي في هذه الحالة أنّ وحده من يفهم هو من يترك لله مجال إفهامه بطريقة استثنائية من خلال رحمته. من هنا نرى أن ّ جسدنا ضعيف وعاجز" (رسالة بتاريخ 10 أيار 1456).

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 8: 27-35)

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 8: 27-35) نستنتج انه يتمحور حول موضوع المسيح. ومن هنا نسأل ما هو مفهوم لقب "المسيح" في العهد القديم؟ وما هو موقف معاصري زمن يسوع من المسيح؟ وما هو موقف يسوع من هذا اللقب؟ وما هو موقف الكنيسة؟

 

1) ما هو موقف العهد القديم من لقب "المسيح"؟

 

كلمة المسيح مشتقة من لفظة הַמָּשִׁיחַ في العبرية والآرامية، وأمَّا اللفظة اليونانية فهي "خريستس" Χριστός والمسيح تعني الممسوح. ويشير الاسم إلى ربط شخص المسيح برجاء أبناء الشعب العبري في العهد القديم والعهد الجديد.

 

كانت لفظة "المسيح" في العهد القديم تنسب إلى الملك والنبي والكاهن. كانت المسحة الإلهية تُكرّس الملوك من أجل رسالة مرتبطة بقصد الله نحو شعبه. بفضل المَسح بالزيت الذي يرمز إلى تقليد السلطة من قبل روح الله (1 صموئيل 9: 16، 13)، كان الملك يُكرَّس لوظيفة تجعل منه نائب الله في إسرائيل. كما هو الحال في شان شاول الملك (1 صموئيل 9: 10) وداود الملك (2 صموئيل 2: 4، 5: 3) وسليمان الملك (1 ملوك 1: 39) ومن ارتقوا من ذريته إلى السلطة الملكية (2 ملوك 11: 12). وبهذه المسحة يُصبح الملك "مسيح الله" (2 صموئيل 19: 22)، أعني شخصاً مكرساً يجب على كلّ مؤمن أن يقدم له إكراماً دينياً (1 صموئيل 24: 7).

 

أمَّا مسح الأنبياء فلم يكونوا عادة مكرّسين لوظيفتهم بمسح الزيت، إلا بطريقة عارضة. ومثال على ذلك الله أمر إيليا بأن "يمسح أليشاع نبياً بدلاً منه" (1 ملوك 19: 16). وفي الواقع، فإن مسح الروح هذا الذي يحصل عليه النبي هو ما يتحدث عنه أشعيا (61: 1)، عندما كرّسه هذا المسح ليعلن البشرى السارة للفقراء. وقد أطلق مرة واحدة لفظ "مسحاء" على أعضاء شعب الله بصفتهم "أنبياء الرب " (مزمور 105: 15).

 

أمَّا مسح الكهنة فيعود تاريخه إلى بَعد السبي؛ فكان يُمنح المسح عظيم الأحبار (خروج 29: 7). ومنذ ذلك العصر يُصبح عظيم الأحبار الممسوح (الأحبار 4: 3) "المسيح" في زمانه. ويشمل المسح أيضا جميع الكهنة (خروج 28: 41). ويعطي إذن الفكر اليهودي عن الأزمنة الأخيرة مكاناً هاماً لانتظار المسيح: مسيح ملك ينتظره الجميع، ومسيح كاهن في رأي بعض الأوساط اليهودية. ولكن مواعيد الكتب المقدّسة لا تنحصر في هذه المسيحانية بأحلام نهضة سياسية، بل تعلن أيضاً تأسيس ملكوت الله على يد يسوع المسيح.

 

2) وما هو موقف العهد الجديد من لقب "المسيح"؟

 

ما هو موقف معاصري زمن يسوع من المسيح؟  دهش الناس بقداسة يسوع وسلطته وقدرته، وأخذوا يتساءلون قائلين: "أَتُراهُ المَسيح؟" (يوحنا 4: 29) وألحوا عليه أن يُعلن هو بصراحة عن نفسه "إِن كُنتَ المَسيح، فقُلْه لَنا صَراحَةً" (يوحنا 10: 24).

 

وانقسم الناس إلى قسمين تجاه يسوع بكونه المسيح. "فوقَعَ بَينَ الجمَعِ خِلافٌ في شأنِه" (يوحنا 7: 43). فمن جهة، اتفقت السلطات اليهودية على أن تطرد من المجمع كل من يعترف بأن يسوع هو المسيح (يوحنا 9: 22). ومن جهة أخرى، اعترف الكثيرون صراحة بأن يسوع هو المسيح، أوّلهم تلاميذه، (يوحنا 1: 41)، ثم مرثا في الوقت الذي أعلن أنه القيامة والحياة (يوحنا 11: 27). ويضفي جواب بطرس "أنت المسيح" (مرقس 8: 29) طابعاً رسمياً خاصاً. إلا أن هذا الجواب، لا يزالُ ناقصاً، لأن هذا اللقب "المسيح" معرّض أن يُفهم في إطار تطلع إلى ملك زمني سياسي كما حدث بعد معجزة الخبز والسمكتين كما جاء في إنجيل يوحنا "عَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل" (يوحنا 6: 15).

 

3)  ما هو موقف يسوع من لقب "المسيح"؟

 

لم يقرْ يسوع يوماً لنفسه بلقب "المسيح"، ما عدا مرة واحدة، وذلك في حديثه مع المرأة السامرية: "إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء". قالَ لَها يسوع: "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4: 25-26). وكان يسوع يحظر على الشياطين أن يُعلنوا أنه هو المسيح (لوقا 41:4). ولكنه، بعد اعتراف بطرس، أوصي الاثني عشر، ألا يُخبروا أحداً بأنه المسيح (متى 16: 20).

 

واخذ يسوع في تنقية مفهوم فكرة "المسيح". ولم ينكر يسوع هذا اللقب في محاكمته الدينية واستحلاف عظيم الأحبار له بل أعطاه معنى متسامياً وهو ابن الإنسان المُزمع أن يجلس عن يمين الله (متى 26: 63-64). وبدأ هذا الاعتراف مع بدء آلامه. وكان هذا الاعتراف سبب الحكم عليه كما أكده عَظيمُ الكَهَنَة: "أَستَحلِفُكَ بِاللهِ الحَيّ لَتَقولَنَّ لَنا هل أَنتَ المسيحُ ابنُ الله"، فقالَ له يسوع: "هو ما تقول" (متى26: 65-66).

 

بعد قيامة يسوع لم يعد لقب المسيح في مجال لمجد زمني، إنما في المجال الروحي. ولذلك فانه بعد قيامته فقط، استطاع التلاميذ أن يفهموا حقيقة ما ينطوي عليه هذا اللقب: "أمَّا كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟" (لوقا 24: 26)؛ لأنه كما ورد في الكتب المقدّسة، "كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 46 -47).

 

4) ما هو موقف الكنيسة من لقب "المسيح"؟

 

لم تتردد الكنيسة على ضوء قيامة يسوع في الإعلانأن يسوع هو "المسيح" " Χριστός. ويظهر يسوع هكذا باعتباره ابن داود الحقيقي كما ورد في نسبه "نَسَبُ يَسوعَ المسيح اِبنِ داودَ ابنِ إِبْراهيم (متى 1: 1)، حُبل به بقوة الروح القدس كما بشّر الملاك مريم العذراء "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 1: 35) ليرث عرش داود أبيه (لوقا 1: 32) ويقود إلى غايته هذا الملُك، بتأسيسه ملكوت "الله على الأرض" وذلك عن طريق قيامته من بين الأموات "قد جعله الله رباً ومسيحاً" كما ورد في عظة بطرس الرسول الأولى (أعمال الرسل 2: 36).

 

أصبح هذا اللقب "المسيح" في زمن الرسل اسم علم ليسوع. ولم تتردّد الكنيسة الأولى في الاعتراف ليسوع بأرفع الألقاب، ألا وهو لقب الرب (أعمال 2: 36)، و"المسيح الرب" (لوقا 2: 11)، و"ربنا يسوع المسيح"(أعمال 15: 26)، وهو ابن الله بالمعنى الحصري (رومة 1: 4)، وهو الإله الحق (رومة 9: 5).

 

ولم يعد أيضا لقب المسيح بالنسبة إلى بولس الرسول لقباً من الألقاب، بل أصبح اسم علم خاص بدون "أل التعريف" كما جاء في رسائل بولس الرسول "فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب" (1 قورنتس 1: 23)؛ ولذا تقوم بشارة بولس بمثابة إعلان أيضاً عن المسيح المصلوب الذي مات من أجل قوم كافرين (رومة 5: 6-8). وأخيرا يجمع لقب المسيح في ذاته كلّ الألقاب الأخرى، ويحمل كلّ الذين خلّصهم المسيح، بحق، اسم "المسيحيين" (أعمال 11: 26). نستنتج مما سبق أن الاعتراف بيسوع هو نعمة من الآب. أن نقول بأن يسوع هو ابن الله الحيّ، وأنه المخلّص، هي نعمة علينا أن نطلبها: "أبتي، أعطني نعمة الاعتراف بيسوع؟ انه المسيح ابن الله الحي.

 

 

الخلاصة

 

يمكن أن نلخِّص نص إنجيل مرقس (8: 27-35) بان يسوع سأل تلاميذه سؤالين؛ أولها عام وهو "مَن أَنا في قَولِ النَّاس؟" (مرقس 8: 27). واظهر جوابه قول الناس بان يسوع شخصية بارزة لا أكثر. أمَّا السؤال الثاني فكان تحديا للرسل أنفسهم وهو "ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟" (مرقس 8: 29) فأجاب بطرس وهو المتكلم باسم الرسل جميعا، معلنا بأن يسوع هو المسيح المنتظر الذي تنبأ عنه الأنبياء. فهذا الاعتراف هو النقطة الحاسمة في تعليم يسوع في الإنجيل.

 

كان يسوع واعيا برسالته كمسيح منذ بدء خدمته التبشيرية كما جاء في قوله لوالديه "أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟" (لوقا 2: 49) وكان يعلم انه المسيح الذي عليه أن يتألم على الصليب كما صرّح لليهود “كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان (يوحنا 2:3: 14). ومنذ هذه اللحظة بيَّن إنجيل مرقس أن يسوع كان عالما بمصيره الذي هو جزء من مخطط الله في خلاص النفوس إذ "تحالَفَ حَقًّا في هذهِ المَدينةِ هِيرودُس وبُنْطيوس بيلاطُس والوَثَنِيُّونَ وشُعوبُ إِسرائيلَ على عَبدِكَ القُدُّوسِ يسوعَ الَّذي مَسَحتَه، فأَجرَوا ما خَطَّتهُ يَدُكَ من ذي قَبلُ وقَضَت مَشيئَتُكَ بِحُدوثِه"(أعمال الرسل 4: 27-28).

 

عرف التلاميذ هذه الحقيقة لكنهم أخطأوا في فهمها. إذ تنبأ العهد القديم عن المسيح بطريقتين: انه المسيح الظافر كما تنبأ أشعيا "يَقْضي لِلضُّعَفاءِ بِالبِر ويَحكُمُ لِبائِسي الأَرض بالاستقامة" (أشعيا 11: 4) وفي الوقت نفسه تنبا أشعيا انه المسيح المتألم "مُزدَرًى ومَتْروكٌ مِنَ النَّاس رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم ومِثلُ مَن يُستَرُ الوَجهُ عنه مُزدَرًى فلَم نَعبَأْ بِه" (أشعيا 53 :3).

 

وكان اليهود ينتظرون المسيح الظافر ويتجاهلون المسيح المتألم. والتلاميذ قبل القيامة شاركوهم هذا الراي الذي كان سائدا عند الجميع. لذلك ابتدأ يسوع يُعلمهم أن المسيح هو ابن الإنسان الذي ينبغي أن يتألم "إنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة، ...وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام" (مرقس 8: 31). وعندئذ اخذ بطرس يسوع جانبا وانفرد بِهِ بُطرُس وجَعَلَ يُعاتِبُه (مرقس 8: 32). وهذا امر خطير، لان بطرس، تلميذ يسوع، أصبح بحسن نية، آلة في يد الشيطان. فعلمه يسوع أن التلمذة الحقة تقوم بالتمثل بمشيئة الله كما أعلنت في يسوع "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني" (مرقس 8: 33) ويستخدم بولس تعبيرا مماثلا "ارغَبوا في الأُمورِ الَّتي في العُلى، لا في الأُمورِ الَّتي في الأَرض (قولسي 3: 2). لا يكفي أن نعرف ما يقوله الآخرون عن يسوع، بل علينا أن نعرف ونفهم ونقبل شخصيا أنه المسيح المُخلص كما يؤكد بولس الرسول "فإذا شَهِدتَ بِفَمِكَ أَنَّ يسوعَ رَبّ، وآمَنتَ بِقَلبِكَ أَنَّ اللّهَ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات، نِلتَ الخَلاص" (رومة 10: 9).

 

 

دعاء

أيها الآب السماوي، أسألك باسم يسوع ابنك، أن تمنحنا نعمة الإيمان لكي نثق بيسوع ونؤمن بكلامه ونشهد بان يسوع هو المسيح، ابن الله الحي فنزهد في نفوسنا ونَحمِلْ صَليبَه ونتبعه في سبيله وسبيل بشارة الإنجيل الطاهر. آمين.   

 

 

لغة الصليب

إن منطق الصليب لا يقبله الإنسان بسهولة لأنه يمشي عكس التيار، يقلب الواقع:
أنت تريد راحتك، مع الصليب تعمل لراحة غيرك.
أنت تسعى لسعادتك، مع الصليب تُسعد غيرك.
أنت تفكر في نفسك وتُحبها، مع الصليب تُفكر بالآخرين وتُنكر نفسك.
أنت تعيش على حساب غيرك، مع الصليب الغير يعيش على حسابك.
أنت تحيا ولو مات الجميع، مع الصليب تموت أنت ليحيا الجميع.
أنت تَكفر بالآخرين، مع الصليب تكفر بنفسك.
أنت تركز نجاحك لذاتك، لذلك تخسر كل شيء، مع الصليب تركّز على نجاح غيرك وفرحه ونموه، فتربح كل شيء.

ربما تكره الصليب لأنك أناني، وتعتبره كفر لأنه يُجبرك على الكفر بنفسك.
"إِنَّ لُغَةَ الصَّليبِ حَماقةٌ عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الهَلاك، وأَمَّا عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الخَلاص، أَي عِندَنا، فهي قُدرَةُ اللّهُ" (1 قورنتس 1: 18).