موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

وَيُكالُ لَكُم بِمَا تَكيلون

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
وَيُكالُ لَكُم بِمَا تَكيلون

وَيُكالُ لَكُم بِمَا تَكيلون

 

عظة الأحد الثّلاثون-ج

 

﴿الْمُغتَابُ لِقَريبِه في الخَفاءِ أُسْكِتُه. وَمُتَشامِخُ العَينِ، مُنتَفِخُ القَلْبِ لا أُطيقُه﴾. هَكَذا يُحدِّثُنا الْمَزمورُ الواحِدُ بَعدَ الْمئة. هَذا الفِرّيسيّ، لَم يَسْقُط فَقَط في فَخِّ الكِبريَاءِ وَاحتِقَارِ غَيرِه، إنّما أَيْضًا جَعَلَ نَفْسَهُ في مَرتَبَةِ إِلَه! بِحُكمِهِ عَلَى سَائرِ النَّاس، وَعَلى العَشَّارِ الّذي كَانَ يُصَلّي خَلْفَهُ، مُدَّعِيًا مَعرِفَتَهُ خبَايَاهم، فَهُم جَميعًا سَيِّئون، وَهوَ وَحدَهُ الصّالحُ بَيْنَهُم! وَكَأنّه غَدَا مِثْلَ الله: ﴿يَفحَصُ القُلوبِ وَيَمتَحِنُ الكُلى﴾ (إرميا 10:17).

 

ثُمَّ أَنَّهُ "يُصَلَّي" مُنْتَصِبًا، وَهِيَ صُورَةٌ تَوحي بِمَشَاعِرِ الغُرورِ والتَّعالي! في الوَقتِ الّذي يَجِبُ عَلى الإنسانِ، وهوَ في حَضرَةِ اللهِ عَلَى الأقَل، أَنْ يُقرَّ بِضعفِه وَيَعتَرِفَ بِحَقيقَتِه كَمَا هي، طَالِبًا الرّحمَةَ، مُصَلِّيًا بِتَواضُعٍ! لِذلِكَ مَا قامَ بِهِ الفِرّيسيّ، لا يَنْدَرِجُ ضِمنَ إِطارِ الصّلاة، إنّما هي حَديثٌ أُحَادِيُّ الجانِب، مَقطوعُ التّواصُل، بِغَرَضِ الإدانَةِ والاتِّهام!

 

هَذِهِ مُشكِلَةُ كَثيرين، يَعتِقدونَ أنّهم أَفضَلُ مِن غَيرِهم، إلى دَرَجَةِ احتِقَارِهم! يَأتونَ إلى الكْنيسةِ بِثوبِ الجَلّاد، يُدينونَ الآخرينَ وَيُصدِرونَ الأحكام! يَظَنُّونَ أَنَّهُم أَبَرارٌ أَطْهَار، بِلا خَطَايا وَبِلا أَسرَار. يُمارِسونَ دَورًا قضائيًّا بحقِّ غيرهِم، فَيُجَرِّمونَ وَيُأثِّمون، وَكَأنّهم مُعْصومونَ مُنَزَّهونَ عَنِ الخَطَأ! وَلا نَنْسَى تِلكَ الفئاتِ الّتي تُمارِسُ دَورَ الْمُدَّعي العَام، يَتَصرّفونَ وكأنّهم مُمثِّلُو اللهِ عَلَى الأرض، فَيُكفّرونَ مَنْ خَالَفَهم، وَيُنزّهونَ مَن شَاكَلَهُم! وَمِنَ الفِئَاتِ أَيَضًا مَن يَرونَ أَنْفُسَهم رُوّادَ الخيرِ العَام، يُطبّقونَ الشّرائِعَ والأحكام، ولا أَحَدَ يُجاريهم في تَقْوَاهُم وَسيرَتِهم، وحُسنِ عِبَادَتِهم! هَذا هوَ التَّديُّنُ الزَّائِف! وَبِالفْعِل، لا يوجَدُ أَفسَد وأَكْذَبْ مِن الْمُتَديّنِ الَّذي يَحكُم وَيَدين وَيُؤثِّم وَيَظلم، وَيعتَقِدُ أَنّهُ رَبُّ النّاسِ الأعلَى، الْمُنَزَّهُ عَن كُلِّ خَطيئةٍ وَمَعْصيَةٍ، فَاعبُدوني!

 

يَقولُ الرّبُّ في إنجيلِ لُوقا: ﴿أَيُّها الْمرائِيّ، أَخرِجْ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أوَّلًا، وَعِندئذٍ تُبصِرُ فَتُخرِجُ القَذَى الّذي في عَينِ أخيك﴾ (لوقا 42:6). التَّكوينُ الفِيزيولوجيّ لِجسمِ الإنسان، يجعَلُ عينَيهِ مُوجَّهَتينِ دَومًا لِلْنَّظرِ إلى الأمورِ والأشخاصِ مِن حَولِه! لِذلِك، حَتّى جِسمانِيًّا يَسْهُلُ عَلى كُلِّ إنْسَان أَنْ يَنظُرَ إلى غَيرِه، وَينْسَى أَنْ يَنظُرَ إلى ذَاتِه! لَو أنَّ الإنسانَ يتعلَّمُ أنْ يَنْظرَ إلى نَفسِهِ أوَّلًا قَبلَ نَظَرِهِ إلى غَيرَه، وَبَدَأَ بإصلاحِ وَتقويمِ عُيوبِه، قَبلَ البَحثِ عَن عُيوبِ غَيرِه، لَكَانَ حَالُنَا أَمثَل، وَعَالَمُنا أَفْضَل. وَلَكِنّنَا لا نُتقِنُ سِوَى فَنِّ إِطلاقِ الأحكَامِ وَالإدَانَات!

 

فالحَمدُ للهِ أَنّهُ الدَّيَانُ الْمُطلَق، والحمدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الْمَوتِ وَالفَنَاء، والجَزاءِ الّذي يَنْتَظِرُ كُلَّ آدَميٍّ، كَما يَستَحِق. فَالنّاسُ لا يَعدِلونَ في الْمِيزان، وميزانُ النَّاسِ قائِمٌ عَلَى مُحابَاةٍ وَتَمييز وَظُلمٍ وَنِفَاق! فالحَمدُ للهِ، عَلى أَنَّ مَيزانَ العَدلِ بِيَدِهِ وَحدَهُ فَقط دُونَ سِوَاه، وَبِه: ﴿يَجزي الإنسانَ بِحَسَبِ طُرُقِهِ، وَثَمَرِ أعمالِه﴾ (إرميا 10:17).

 

يَقولُ صاحِبُ الْمزامير: ﴿أَبَحتُكَ خَطيئَتي وَمَا كَتَمتُ إِثْمي، قُلتُ: "أَعتَرِفُ للرّبِّ بِمَعاصيَّ"﴾ (مزمور 5:32). إنَّ خَطيئةَ آدمَ وَحوّاء، لَم تَقتَصِر على مُخَالَفَتَهِمَا الوصيّةَ الّتي أَوْصَاهُما الرّبُّ بِها، بَل أيضًا محاوَلةِ إخفاءِ مَا صَنَعا، وإلقاءِ الّلومِ عَلَى آَخَر، وَرَفضِ الاعترافِ بِأنَّهُما قَد خَطِئَا! وَهذا شَكلٌ مِن أَشكالِ الكبرياء! لاحِظوا أنَّ عِندَ ارتِكابِ مُخالِفة، فَإنَّ الأغلبيّةَ تُبادِرُ مُباشَرَةً إلى تَبريرِ الذّاتِ وَخَلقِ الأعذَار. وَقِلَّةٌ مَنْ تملِكُ الجُرْأَةَ والتّواضُعَ لِلإقرَارِ بِالخَطَأِ وتَقديمِ الاعتِذار!

 

هَذا العشّارُ يَا أحبّة كَانَ شُجَاعًا قبلَ أَنْ يَكونَ مُتواضِعًا. لإنَّ التّواضُعَ يَتَطَلَّبُ شجاعَةً، وَالْمُتَواضِعُ إنسانٌ قَويٌّ وشُجاع، يَعلَمُ أنَّ تواضُعَهُ لا يَنتقِصُ منِهُ شيئًا، بَل يَزيدُهُ رِفعَةً وإنسانيّة. أَمّا الفِرّيسيّ، فَبِالإضَافَةِ إلى كَونِهِ إِنسانًا مُتَكبِّرًا، هوَ أَيضًا إنسانٌ عِدَائي بَادرَ إلى مُهاجَمَةِ غَيرِه! وَهذهِ صِفةٌ في الْمُتَكَبّر: مُهَاجَمةُ غَيرِه وَسُلوكُ نَمَطٍ عُدْوَاني!

 

قُلتُ مُسبَقًا بِأنَّ أغلَبيّةَ النَّاس عِندَ ارتِكابِ خَطَئ، تُبادِرُ مُباشَرَةً إلى تَبريرِ الذّاتِ وَخَلقِ الأعذَار. وهي غريزَةٌ دِفَاعيّة! وَلَكِن إنْ خَطِئَ الغَير، تُبادِرُ الأغلبيّةُ إلى إدَانَتِهِ والحُكمِ عَلَيهِ والشَّمَاتَةِ بِه، كَمَا فَعَلَ الفِرّيسيُّ بِحقِّ العشّار! سَهلٌ جِدًّا أنْ تهاجِمَ غيرَك وتُدينَه، وصَعبٌ لِلغَايةِ أنْ تُقرَّ بِذَنْبِكَ مُعْتَرِفًا بإثمِك! سَهلٌ جِدًّا أن تنعتَ الآخرين بِأقبحِ الصّفاتِ عِندَما يَصدرُ عَنْهُم فِعلٌ خَاطِئ، وَصَعبٌ للغَايةِ أَنْ تَدينَ نَفسَكَ بِنَفسِ الطَّريقَة، عندَما يصدُرُ عنكَ ذاتُ الخَطَأِ وَأَقبَح، مُوجِدًا لِنَفسِكَ عَشَراتِ الْمُبَرّراتِ والْمخارِجِ والأعذَار!

 

سَهلٌ عَلَى السَّارقِ أَن يَرى غَيرَهُ سَارِقًا، وَعَلى الْمُحتَالِ أن يَرى غيرَهُ مُحتالًا، وَعَلَى الطَّمَاعِ أن يَرى غيرَهُ طَمَّاعًا، وَعلى الرّذيلِ أَن يَرى غيرَهُ فَاسِقًا. فَعِندَما يكونُ الأمرُ مُتَعَلِّقًا بي، فإنّي لا أَرَى نَفسي سِوى بارًّا صِدِّيقًا، أَمِينًا نَزيهًا، شَريفًا عفيفًا، خَيِّرًا مِعطاءً، قَنوعًا مُكْتَفيًا! فَأَنا عِندَ نَفسي أَعْمَى لا أُبصِر، وَإنْ أَبْصَرتُ لا أَرى سِوَى وَرقةً بَيضَاء. أمّا عَنِدَ غيري، فَأُمسي مُبْصِرًا بَصيرًا، أُشَيطِنُ مَن أَشاء، كَأَنَّهُم أَورَاقٌ سَوداء!

 

عَلى كُل حال، إنْ لَم تُرِدْ أَنْ تُخرِجَ الخَشَبةَ العَريضَةَ من عَينِكَ فَأبْقِها. ولَكِن سَيأتي يَومٌ تُؤدّي فيه الحسابَ الوَافي، حيثُ لا مُوارَبَةٌ ولا مُداهَنَةٌ ولا كَذِبٌ ولا رِيَاء، ولا أَعذارٌ وَلا أَكَاذيبٌ وَلا مخارجٌ وَلا مُبرِّرات، بَلْ: ﴿كَما تَدينونَ تُدَانون، وَيُكالُ لَكُم بِمَا تَكيلون﴾ (متّى 1:7-2)