موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

والخلائق تسبح بحمده "عرق الجبين"

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
والخلائق تسبح بحمده "عرق الجبين"

والخلائق تسبح بحمده "عرق الجبين"

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

لم يكتشف البشر حتى الآن حجر الفلاسفة الذي يحوّل الوحل إلى ذهب، ولكنهم نجحوا بصورة غريبة في اختلاق جميع أنواع الافتراءات والأكاذيب ضد بعضهم بعضاً، ومع ذلك فإن لسانهم لم يكن أبداً أطول من لسان الضفدع! وأبدعوا فيما أبدعوا حتى اليوم من اكتشافات بواسطة الصهر أو التقطير في استخلاص نوع من العقار السامّ يدعى "الكبرياء"، وذلك باستخدام جميع الأشياء على اختلاف أنواعها سواءً أكانت صادقة أم كاذبة.

 

فهذا شاب يشمخ بأنفه فخوراً بشاربيه. وآخر يترنّح وسط الشارع جذلاً مغروراً بلحيته الطويلة. وآخر معجَب بكلبه أو بساعــة جيبه. ورُبَّ لصٍّ افتخر حتى بسرقاته وأسلابه. وما رأيكَ عن فتاة مغترّة بلون شعر رأسها أو زرقـة عينها؟، أو تتباهى بصغر سنّها أو بشعرها المستعار أو بجدائلها... ورُبَّ عجـوزٍ طاعنة بالسنّ تفتخر بطاقم أسنانها المصنوع من الذهب الخالص، أو بأثاثهــا، أو بأنواع الزهور في حديقتها.وما رايك بكبير الزمن المعجب بكرسيه ونوعية خشبه وطلائه. ولا يقتصر الأمر على الأفراد فقط، فهناك الدول التي تعتبر نفسها أرفع من بقية السلالات والأجناس البشرية، وتفخر بِعِرْقِها، وتدّعي أن دمها أنقى الدماء، وحضارتها أرقى الحضارات، لا بل خمورها أجود الأنواع وسكائرها أيضاً... وهنالك رجال مزهوّون لأنهم يعتبرون أنفسهم من المفضلين والمختارين من المقربين والمحسوبين، معتبرين أنفسهم آلهة الزمن، ورجال بيض يتغطرسون ضد السود ولا يحبون غير بياض افكارهم ، والفرسان ضد المشاة، والنبلاء يتكبّرون على الرعاع.

 

جلستُ اليوم يا سيدي أبحث عن مرشد يهديني إلى طريق البساطة والاتّضاع بدون الاستعانة بالكتب أو النظريات، فوجدتُ أن التعرّق فقط هو الذي يعلّمني سرّ التواضع والبساطة. إني أعرف أناساً كثيرين يتعرّقون، وأسباب التعرّق كثيرة والتعرّق واحد. فهناك أناس يكدحون ويتعبون ويتعرّقون لكسب لقمة العيش. وهنالك الذين يعانون من المرض، ويصارعون الأوجاع، ويتصبّبون عرقاً ويتألمون. وأعرف أيضاً يا سيدي أنكَ افتديتَ الجنس البشري بثمن "تعرّقكَ دماً في بستان الزيتون" (لوقا 44:22)، وقدتني الى خادمك البابا فرنسيس صديق المنبوذين والمرذولين.

 

أعلم أن هنالك أناساً يتعرّقون من شدّة الحرّ، أو من شدّة الجهد العضلي، وربما من الخوف أو فرط الخجل، ومَن يدري، لربما يتعرّق البعض من وخز الضمير. والمحكوم عليه بالإعدام يتعرّق. وأتذكر أن عقوبة آدم على معصيته الأولى هي أن "يعمل ويعرق" (تك 1). وأعلم أن الذين يعملون صيفاً وراء مكاتبهم أيضاً يتعرّقون، وبين فترة وأخرى يُخرجون منديلاً نظيفاً من جيبهم ليمسحوا العرق المتصبّب على جبينهم، واليوم من المؤكد بمناديل ورقية. وهنالك الميكانيكيون وعمّال البناء الذين يتعرّقون ويمسحون عرق جبينهم بأكمام أرديتهم، لأنهم لا يملكون مناديل نظيفة في جيوبهم. وأعلم أيضاً أن الناس الذين يكدّون ويعملون ويتعرّقون هم أشرف الناس جميعاً، وإن عرق جبينهم هو ما يميّزهم عن الكسالى والعاطلين وجميع الذين يعيشون عالةً على المجتمع ومتطفّلين. لقد عرفتَ كل هذا وخبرتَه يا سيدي عندما كنتَ "نجّاراً بسيطاً" (متى 55:3) تعمل في الجليل، ولم تحتقر أبداً الناس الذين كنتَ تراهم أمامكَ يتعرّقون، ولم تسخر من تلاميذكَ عندما كانوا "يسحبون شِباك الصيد ويتعرّقون" (يو 8:21).

 

إن التعرّق يؤدي إلى فضيلة التواضع التي هي مفتاح الفضائل كلها. ربما المفكرون العظام الذين عملهم هو البحث في الأفكار المجرَّدة، وربما المناطقة أيضاً. وفلاسفة الأونطولوجيا الذين يعالجون أصل الوجود والكينونة والجوهر ولا يعرفون القيمة الحقيقية لعرق الفلاح الذي يزرع الحبوب، أو الحمّال الذي يرفع الأثقال، أو الميكانيكي الذي يقوم بتصليح عجلة، وكأنما عرق الجبين أدنى مرتبة أو لا يساوي شيئاً أمام الأفكار المجردة.وهذا ديدن الزمان. لكن الإنجيل لم يأتِ من أجل أفكارٍ مجرَّدة، ولا من أجل الذين يتفلسفون لربح مسار مصالحهم، بل من أجل الذين يكدّون ويكدحون ويتعرّقون. فالتعرّق هو واقع الإنسانية التي كُتب عليها أن تعمل لكي تعيش، وتمجّد الله بعملها.

 

هنالك كثير من الناس لم يوفَّقوا في دراستهم. وكثير من الأُميّين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. وكثيرون أيضاً مَنْ لم يُعْطَ لهم الجلوس تحت الظلال الثخينة من أجل أن يقرئوا المحاورات الأفلاطونية، وأجبرتهم ظروف الحياة على الكدّ والتعب من أجل لقمة العيش. إنما وسط هذه الجماهير الغفيرة المتعرّقة والتَعِبة يطيب لي أن أمتزج لكي أجدكَ يا سيدي... أمام جميع الحشود العمالية في المصانع الكبيرة، أو أمام صغار العمال في ورشة الغسل والتشحيم. أمام جميع الوجوه الفتيّة المنكبّة على الخِراطة والحِدادة والغارقة في عرقها.امام جميع الابرياء الذين استغلتهم افكار القرابة والمصلحة والانانية. أمام جميع مناكب الشيوخ المنحنية فوق فوّهة المنفاخ أو شعلة اللحام الأوكسي ــ استيلينية. أمام العمال الذين يدفعون عربات الأجر أو يحملون أكياس السمنت على ظهورهم، الذين فوق جلودهم السوداء أو البيضاء يتدفّق العرق بأسمى معاني الشرف والنُبل. أمام كل هؤلاء يا سيدي أتذكر وجهكَ المتعرّق والمكلَّل بالشوك وحب صديقهم فرنسيس، المطبوع على منديل "فيرونيكا" إلى الأبد (لو28:23)، والذي قدّمه لنا بيلاطس قائلاً: "هوذا الرجل" (يو5:19)، إنه وجهك يا سيدي (لو 17:15). نعم وامين