موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

والخلائق تسبح بحمده "الصومعة"

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
تستطيع أيضًا أن تدخل صومعتي وتقصّ عليّ حكايات البشر

تستطيع أيضًا أن تدخل صومعتي وتقصّ عليّ حكايات البشر

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات  من "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

هنالك مَثَلٌ تركي يقول: "الإنسان يولد في الغرفة ويموت في المرج". والمرج لدى المغول المقاتلين القدماء يعني أن الموت الطبيعي للرجل يحدث في ساحة الوغى، كما يقول الجزّار: أن الموت الطبيعي للثور يحدث داخل المسلخ.

 

يا رب! هل إن معارك الحرب العالمية الأولى والثانية وما أفرزته من جبابرة طغاة وتجّار حروب، هي أقل همجية ووحشية من حكمة الأتراك المغول أو عقلية الجزّارين؟!. كنتُ أتمنى لو نظرتُ إلى غرفتي التي أسكنها بعين أكثر مسيحية!. إن غرفتي هي جزءٌ من حياتي. إذا كان كل ما فيها من كتب أو تحفيات أو ذكريات ذا طابع وثني، فإنها ستكون قاحلـةً مجدبةً كالصحراء!  فيا سيدي، إنكَ خبّأتَ في كل غرفة يسكنها إنسان بعضاً من سرّ وجوده وقَدَره، وأنه يكفي أن يكون المرء  أميناً مخلصاً لغرفته ليجد أن النقص الذي يبحث عنه هو داخل نفسه. فيا رب! أعطني القوة والشجاعة لكي أستطيع أن أخلو إلى غرفتي ساعة الضيق، وألاّ أخرج متسارعاً إلى زفّة العالم طلباً للنجدة والخلاص!

 

غرفتي هي كَوْني الصغير، هي محطتي التي منها أراقب العالم وأحكم على مجرى الأمور وسير الزمان. في غرفتي أكون حقيقةً أنا ذاتي!، بعيداً عن مضايقات البشر وتصنّعهم، بعيداً عن المجاملة والتكلّف، ومتحرراً من قيود الإيتيكيت. غالباً أنسى أن أشكركَ يا سيدي لكونكَ أعطيتَني غرفةً أسكنها، وكم وكم من الفقراء المساكين الذين لا مأوى لهم ولا دار، وكم من المستأجرين الذين يحسبون كل ليلة ألف حساب كيف يدفعون أجور شقّتهم أو غرفتهم في صبيحة اليوم التالي. كم من الذين يعيشون في أكواخ حقيرة، وكم الذين يقطنون في حظائر جماعية!، وأنا أجد أمراً طبيعياً أن تكون لي غرفة مؤثَّثة مفروشة، أو صومعة أستطيع أن أغلق بابها وأستقر مستريحاً من ضجيج العالم. أربعة حيطان سميكة تحميني من سيول المطر، وسقف كونكريتي يقيني من الصواعق وهزيم الرياح، وأنا منكبٌّ بهدوء على مائدة مطالعتي تحت مصباح كهربائي بالقرب من مدفأة، مطمئناً راضياً، معتقداً أن جميع الناس مثلي.

 

إني لم أمرّ قط بالمآسي المؤلمة عندما يُطرَد المستأجر من شقّةٍ أو دارٍ يسكنها مع عائلته وأطفالــه. ولم أعرف لوعة الناس الذين يهجرون مدنهم وبيوتهـم تحت وابل من قصـف الطائرات والصواريخ، أو بسبب الزلازل والفيضانات، وهم يتركون كل شيء متشرّدين في الأزقة والغابات ليناموا على حافات الأرصفة أو في الساحات العامة أو في المخيّمات، بدون وسادة ولا غطاء! كما حصل للنازحين بسبب داعش وكما يحصل اليوم للمهجرين.

 

لتكن صومعتي حافزاً لي على التقوى ومخافة الله، وباعثاً فيّ الشعور بالعطف نحو المشرَّدين في جميع أصقاع الأرض، ونحو التعساء المطرودين والمهجرين، من أوطانهم والذين اكتظّت بهم الملاجئ والثكنات، والذين عليهم أن يتابعوا سيرهم في الأيام التالية بدون توقف أو هدف. مقابل هذا، هنالك بيوت مترفة يتمتع كل طفل من أطفالها بغرفة خاصة منذ ولادته، وهنالك أيضاً غرفة مخصصة للعب وأخرى للجلوس والحديث والسمر، وثالثة لتناول الطعام ورابعة للنوم... وهنالك غرفة يتألم فيها المريض قبل أن تقطف روحَه يد المنون، وغرفة صامتة لا يُسمَع فيها سوى أنين المنازعين، وغرفة للطبابة، وغرفة أخرى للعمليات الجراحية وللتشريح وغرفة خاصة للمصابين بفيروس كورونا!

 

فيا رب! وهنالك أيضاً غرف السجون ذات الجدران العتيقة والأبواب المقفلة حيث ينتظر المحكوم عليهم بالإعدام. وكما كان أتذكر أنَّ هناك صوامع النسّاك في الكهوف وفي أطراف الجبال، وصوامع الرهبان في نهايات الأديرة ذات الممرّات الطويلة. (ومن المؤسف اليوم) مجرد ذكريات.

 

غريبٌ هو عالمنا يا سيدي! فما يعتبره البعض عقوبةً وقيـوداً داخـل السجون، يتخذه آخرون سبيلاً للتحرّر والانعتاق داخل الأديرة!، وهذا ما يفسّر لنا أن سعادتنا أو تعاستنا لا تعتمـد على المكان أو الزمان أو البيئة، بل على ما في داخل نفوسنا من نوازع ومن استعداد للبذل والعطاء!. فالصومعة لا تعني الاحتكار أو الانطواء، بل تعني التدفق والانبساط والخروج عن الذات، والاندماج مع الآخرين ومشاركتهم همومهم وأحاسيسهم وآمالهم. أتمنى ألاّ تكون صومعتي المنعزلة ملجأً أحتمي به، تُبعدني عن الناس وتُنسيني العالم، بل أن تذكّرني بالبشر أمثالي، وبالمعذَّبين الذين يتخبّطون ويكافحون، يجوعون ويعطشون... أخشى يا سيدي أن تصيبني محبتي المفرطة لصومعتي بداء النسيان! أو بخَدَر كسول منبعث عن طول الانعزال!.

 

أنتَ يا سيدي دخلتَ عليّة صهيون والأبواب مغلقة (يو19:20)، تستطيع أيضاً أن تدخل صومعتي وتقصّ عليّ حكايات البشر وما يحدث فوق كوكبنا هذا من غرائب ومصائب، وفي زمن الوباء هذا، من مآسٍ ومن مهازل. وتحدثني عما حصل قبل ألفي سنة عندما رفعتَ صوتكَ في موعظة الجبل بتسع تطويبات (متى3:5) لم يبقَ اليوم منها في عالمنا إلا أصداء فارغة! وحيث سقطت حبّة بشارتكَ "فوق حجارة" (متى 20:13) "صلدة" (لو 6:8)، وقلوب لا تفهمكَ"، وحيث باتَ صليبكَ عاراً ولعنةً في عصرٍ انقلبت فيه القِيَم والمفاهيم رأسًا على عقب! بسبب الكبرياء والعولمة المزيّفة والمصالح والانانيات بين الشعوب، وعفوا ان قلت لم يعد احد يبالي بها الا قلة من كبار الكنيسة القديسين وليس مدراء المعابد والدنيا الزائلون.

 

يا رب! هبني أن أتغلّب على لذّة النسيان لأتذكّر دوماً أن هنالك بشراً يتعذّبون، وأن أذوب خدمةً ومحبةً لهم.

 

يا رب! هبني أن أتسمّع إلى أنين البشر حتى نهايات قواقع آذاني وإن عند البشر محسوبيات لا تعلمها إلا النيات السيئة وكبار السلطة الزائلة، وأن تكون صومعتي الوادعة ملجأً لدموع الحزانى والثكالى وانتحابات الأيتام الطويلة الهادرة في أعماق الليالي، وأن تكون صومعتي مرصدًا يقتنص جميع حركات الناس وخلجات قلوبهم لأمزجها في صمت عزلتي بصلواتي وابتهالي إليكَ، واجعلني افتش عن الذين يسكنون على شواطئ الدنيا واشم رائحة غنمي، وأسأل هل اليوم من صومعة في عالم الوباء هذا؟ وهل أدركتُ ماذا تعني الصومعة أمام العولمة المزيفة؟ وهل سيبقى قلبي مسكنا لكَ يا رب. فارحمني يارب، نعم وامين.