موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

هيّا افرحوا فاليوم عيد

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هيّا افرحوا فاليوم عيد

هيّا افرحوا فاليوم عيد

 

عظة عيد الميلاد المجيد

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. وُلِدَ المسيحُ فَمَجّدوه. الإنسانُ صندوقُ مشاعر! منها ما هو حلوٌ جميل، ومنها ما هو مرٌّ وقاسٍ. وعندَ كلِّ موقفٍ، يُخرجُ الإنسانُ من صندوقِه، شُعورًا يُناسبُ الموقِفَ ويُعبّرُ عنه. فمواقِفُ الفرح يَلزمُها مشاعرُ فرحٍ وغِبطة، ومواقِف الحُزن يَلزمُها مشاعرُ حُزنٍ وَغَصّة. هكذا هو الإنسان، بحرٌ من المَشَاعرِ الجيّاشة، بينَ مدٍّ وجَزر، ونهرٌ من العواطِف المتَدفّقة، بينَ عُلوٍّ وانخفاض، يُبحرُ فيها ضِمنَ ظروفِه وواقعِ حياته.

 

رسالةُ الميلاد دومًا هي رسالةُ فرح، حتّى وسطِ أقسى الظّروفِ وأكثرِها قهرًا. القدّيس بولس في رسالتِه إلى أهل فيلبّي يدعونا إلى أن: "إِفرحوا في الرّبّ دائِمًا، أُكرّرُ القول: اِفرحوا" (4:4). الملائِكةُ ليلةَ الميلاد حَمَلَت بُشرى الفرحِ إلى الرّعاة، والنّجمُ الهادي قادَ المجوسَ حيثُ حلَّ فرحُ الله بينَ البشر، في مَولِدِ يسوعَ المسيح.

 

فرحُ الميلادِ أيّها الأحبّة هو فرحٌ مُعدٍ، ليس طبعًا كهذا الفيروس الّلعين، ولكنّ عَدوَتَه حميدَة مُحبَّبة إلى القلوب، تَبعثُ في النّفوس سكينةً وسلامًا، وبَهجةً وغِبطَة. العَذراءُ مريم بعدَ البشارة، انطلَقت مُسرعة ومضتَ تَقصدُ بيتَ قَريبتِها أليصابات، لِتُشارِكَها فَرحَتها وتُشرِكَها في فرحَتِها، فنظَمت أجملَ نشيدِ فرحٍ، شَداهُ المخلوُق إلى خالقِه: "تُعظّم الرّب نفسي، وتبتهِجُ روحي بالله مُخلّصي" (لوقا 46:1)

 

يكتب البطريرك بيير باتيستا في رسالتِه الميلادية هذا العام: ((إذا قررنا الاحتفال بعيد الميلاد هذه السنة أيضًا، فذلك لأننا نؤمن أنه وُلِدَ وهو موجود. علينا أن نصبح علامةَ فرح عظيم، وأن نُصبِحَ شهودًا لهذا الفرح "فِي أُورَشَلِيم، فِي كُلِّ اليَهُودِيَةِ وَالسَّامِرَةِ وَإلَى أقَاصِي الأرضِ" (أعمال 1: 8).))

 

أيّها الإخوةُ والأخوات، ربّما تكونُ دعوتُنا إلى الفرحِ مَعقولةً أكثر، لَو كانت الظّروف المحيطة مُريحة أكثر. ولكنّ ظروفَنا هذا العام مُرهِقة للغاية، وربّما الوصف الأدق، خانِقة حتّى الأعناق! وحالُنا كحالِ سائر البشر، فالجميعِ يئنُّ تحت وطأةِ هذهِ الجائِحةِ الثّقيلة، الّتي رَمتَ بِأَوزارِها، ليسَ فقط على الوضع الصّحي، بل أيضًا على مُختلف جوانبِ الحياة، اقتصاديًا وأكاديميًّا واجتماعيًّا وأُسريًّا ونفسيًّا، وقِس على ذلك الكثير.

 

كَم هو معقّدٌ أن نفرحَ هذا العام؟! كَم هو صعبٌ أن نَذوقَ وَنَستطعِمَ حلاوةَ الميلادِ ونحنُ قابِعون في قَعرِ قِدرِ حَساءٍ مُرّ عَلقم؟! كَم هو غَريب أن نَتَنَسّم عبيرَ الفرحَ العَليل، وقلوبُنا قد سُدّت وأُغلِقت برائحةِ الوضعِ الكَريه؟! ربّما أُتّهمُ بأنّي أكثرُ تَشاؤميّة في ليلةِ الفرحِ هذه، ولكنّي أُخاطبُ قلوبَ وعقولَ كثيرين، قَد لا يُفصِحون عمّا في صناديقهم، من مشاعرَ مُرّة كالحنظلِ الأُجاج، بالرّغم من أنّهم قد جاؤوا يرتدون بهيّ الثّياب.

 

أومن بأنّ معجزةَ الميلادِ الكُبرى هذا العام بالذّات تكمنُ الآنَ وهُنا! معجزةُ الميلادِ الكُبرى تكمن في أن نشعرَ بالفرحِ والمسرّة، والغبطة والبهجةِ، والابتهاجِ والسّعادة والبشاشة، والسّرور والحُبور، والانشراحِ والارتياحِ، والتّهلّل والجذول، وكلّ المرادفات والمفردات الّتي يحمِلُها ميلادُ المسيح، وسطَ جوٍّ عارم من الحزن والكآبة والتّعبِ والإرهاق! شعورٌ صعبٌ جدًّا، لأنّ الواقع مرٌّ جدًّا، لِذلك أنا أَدعوها مُعجِزة!

 

الرّياحُ هذا العام جَاءَت مُخالِفةً لِرَغباتِنا وَأَمَانِينا. جاءَت مُعاكسةٍ لأحلامِنا وطموحاتِنا، وربّما أطاحَت بكثير من مشاريعِنا ومُخطّطاتِنا. رياحُ الشّد العكسي استنزَفت الكثيرَ مِن طاقتِنا نَفسًا وجسدًا، وَرَحى حربُ الاستنزاف هذه، ستبقى تدور عامًا آخر على الأقل.

 

الجميلُ في الأمر، وما يبعثُ على التّفاؤلِ لَدينا كمؤمنين، أنّ حالَنا هذا العام وفي هذا العيد، جاءَ مُشابِهًا لحالِ ميلادِ المسيح. فَمن الّذي قال أنَّ ميلادَ المسيح كانَ على فراش وثير؟! أو في بَيتٍ دافئ، أو ضمن أوضاع رخوةٍ وناعِمة؟! كلّا، بل على النّقيض من كلّ ذلك، فالمسيح قَد وُلِدَ وسط أقسى الظّروف وأحلكِ المواقِف! ولِدَ بلا مأوى وبِلا بيت، وُلِدَ فقيرًا ليسَ له شيء، مُضجَعًا في مذودٍ، إذ لَم يكن لأبويه محلٌّ في المضافة. والمذود لِمن لا يعلم، هو الموضِع الّذي فيه توضع أعلافُ الدّواب والماشية! وبعدَ ولادِته بفترة، صَارَ طريدًا مُلاحقًا في مَهدِه من قِبَلِ هيرودس الطّاغوتِ الأرعَن! المسيحُ اختبرَ التّهجير، اختبرَ العراء والعناء، اختبرَ كلَّ مرارة بني البشر، حتّى الرّمقِ الأخير، ساعة آلامِه وصلبه!

 

هذا الميلاد، ضمن هذا الواقع الّذي نحياه منذ شهور، والّذي سيتمرُّ شهورًا أُخرى، ربّما يكون أقربَ صورة لميلادِ المسيح! اعتدنا في كلّ ميلاد على مظاهر الفرح المحسوسة والمادّية: بازارات وأُمسيات وحفلات وولائم وهدايا وموسيقى... أمّا هذا العام، فقد جُرّدنا وعُرّينا من كلِّ تلك المظاهر، كرهًا لا مُشتهىً. ولَم يبقى لَدينا سوى مجموعة المشاعر الرّوحية الصّادقة والنّبيلة. هذا العيد في هذا العام، عَمِلَ فينا عمل المصفاة، إذ أزال كلّ الشّوائب، وأبقى المعدنَ الأصيل. فهو أكثر الأعياد صدقًا، لأنّ جوهر إيمانِ المؤمنين يظهر الآن وهُنا، في خضمّ هذه الظّروف. فَقَدنا كلّ فرح محسوس ومادّي، ولكنّنا لم نفقد صاحبَ العيد، لم نفقد مولود بيت لحم، لم نفقد الله فهو مَعنا وسكن بينَنا. فهل نحن قادرون على أن نفرَح ونبتهِج، إذ وُلِد لنا المسيح؟!

 

كَتبَ البطريرك يوحّنا العاشر يازجي، رسالة ميلاديّة مليئة بمعاني العزاءِ والرّجاء، أقتبِسُ وإيّاكم بعضًا مِمّا جاءَ فيها: ((في لَيلِ الزّمن الحاضر، يطلّ علينا طفلُ المغارة، بَصيصَ نورٍ ليسَ للظلمةِ أن تُخمدَه. يوافينا في أيامٍ تئِنُّ فيها البشريةُ تحت نيْرِ الوباء، وتنظرُ بالرّجاء إلى سيّد الرجاء كي يرفعَ بـ"نيره الهيّن" كلّ ما يُثقِلُ كاهِلَها.

 

في عشية هذا العيد الحاضر، نتوجه كلُّنا بالقلب والذهن إلى مغارة بيت لحم... وَنَسألُ رحماتِ الطّفل الإلهي للعالم بأسره. نسألُه أن يعضدَ ويواسي القلوبَ الكسيرة، وأن يرفعَ هذه الغمامة عن عالَمِه. نسأله، وهو المضيءُ عَتَمَ المغارة، أن يُرسِلَ نورَه وعزاءَه، لِكلّ المكتَنَفين بالضّيقَات.

 

صلاتُنا إلى طفل المغارة أن يَلمسَ بقلبه هذا العالم الجريح، صلاتنا إليه ونحن على فاتحة عام جديد، أن يَهبَ السّلام لِعَالمه، وأن يُسكِتَ بجبروتِ صَمتِهِ ضَوضاءَ الحروب وتهويلَها))

 

هيّا افرحوا فاليوم عيد، هللويا... إذ وُلِدَ الطّفلُ المجيد، هلّلويا، هلّلويا