موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

هل أنت ملك؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
عيد يسوع الملك

عيد يسوع الملك

 

الأحد الرابع والثلاثون (الإنجيل يو 18: 33-37)

 

من لم يسمع به، أكبر تمثال ليسوع ملك العالم، القائم على أعلى قمة في البرازيل منذ عام 1822، باسطا يديه يبارك المدينة العاصمة ريو دي جانيرو، ومن خلفها محبة الله للعالم. منظر خلآب، لا ثاني له: "بهذا أُظْهِرَتْ محبّة الله فينا، أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم، لكي نحيا به" (1 يو 9:4).

 

من يراها ولو مرّة واحدة، لا يمكنه أن ينساها، أعني بها صُور أو تماثيل يسوع الملك، التي كانت تعجُّ بها كنائس وكاتدرائيات القرون الوسطى، حيث كان أغلب الشعب، ما عدا الرهبان والإكليروس، أمّيين، لا مدارس كانت موجودة ولا تعليم القراءة والكتابة كان ممكنا. فراحت الكنيسة تنشر ثقافتها الدينية وتبشيرها، عن طريق الرّسم والنّحت. فكان الشعب من خلال ما يُشاهد يتعرّف على الإنجيل وحياة يسوع.

 

هنا برزت في كثير من الكنائس صور يسوع، منها فوق الهيكل أو على الجدران حول الهيكل، وهي صور الطفولة والعجائب. حتى الدّاخلون يفرحون برؤيتها وملاقاتهم للمخلص. وأمّا أثناء الخروج من الكنيسة، فكانوا يشاهدون ُصوراً أُخرى، أي كانت تقع عيونهم، على صور موت يسوع أو قيامته وبالتالي صور الحكم النهائي، كما في كنيسة الفاتيكان الشهيرة السكستين، كنيسة البابا الخاصة، والتي يجتمع فيها الكرادلة لانتخاب البابا. فكلّهم يشاهدون أمامهم منظر الحكم النّهائي، للرسّام المشهور مايكل أنجيلو. عن يمين يسوع الصالحين فريحين، وهم الذين تبعوه طيلة حياتهم وعملوا الصّالحات، وعن يساره الطّالحين، الّذين رفضوه في حياتهم، رغم محبّته لهم فأرسلهم إلى جهنّم النّار، وذلك كي يبقى المصلّون يفتكرون بما ينتظرهم بعد الموت. وهنا برزت ايقونات ورسومات وتماثيل يسوع الملك وصولجان حكمه بيده، ومنهم من أبدل صولجان الحكم بالصليب في يده اليمنى، أما على يده اليسرى فكتاب الإنجيل مفتوحا، كي لا ينسوا أنه بالتالي سيُحاكمهم على حسب كلمته. من هذه الصور التعليمية الإنذاريّة، نستنتج أنَّ يسوع هو ربُّ العالم، منه أتينا، تحت أنظاره نعيش، وإليه نعود ليكافأنا شرّاً أو خيراً على أعمالنا.

 

من خلال هذا نكتشف أن الكنيسة، كانت دائماً تعترِفُ بملوكيّة يسوع. فمنذ ميلاده سأل المُجوس في أورشليم: أين المولود ملك اليهود؟ وفي آخر حياته، قد صُلِب ومات كملك، إذ كان الجنود يستهزؤون به، بركعون أمامه قائلين: سلام يا ملك اليهود! وإهانة لليهود فقد علّق بيلاطس فوق رأسه لقب استهزاء ساخر باليهود، أنه قتل لهم ملكهم: يسوع النّاصري ملك اليهود.

 

الكنيسة لم تُعلِن هذا العيد رسميّاً عالميّاً إلاّ عام 1925 بقرار من البابا بيوس الحادي عشر، إذ، بعد الحرب الأولى ومظالمِها، باشر الإيمان يُلاقي مُقاومة بسبب ثورة الإلحاد والتّخلي عن مُمارسته في بداية الثورة السياسية والصّناعية، حيث أصبح المال والسّلطة والشهرة هي ملوك قلوبنا. فأرادت الكنيسة أن تقول للبشر من هو ملكهم؟ هو يسوع ابن الله، الّذي بموته جدّد العالم، وينتظر من هذا العالم أن يكتمل قبل عودته النهائية إليه. أما الآن فهو، كما نصلّي كلَّ أحد في قانون إيماننا: جالس عن يمين الآب، وسيأتي بمجدٍ عظيم، ليدين الأحياء والأموات، إذ لا فناء لملكه. فالمرور أو الخروج من تحت هذه الصور، تبعث على الحذر لانتظار مجيئه، الّذي كان موضوع الأحد الماضي

 

من قال ملك اليوم، يفتكر في القصور الفاخرة، الّتي هي من أفخر مباني العالم، وقد سكنها ملوك مشاهير، حكموا شعوبا وبلادا بالحروب ، التي قادوها لتوسيع ممالكهم. وأمّا عندما تُعطي الكنيسة مؤسِّسها لقب ملك، فهي لا تفتكر بأن تُعطي يسوع سلطة أرضيّة: إن مملكتي ليست من هذا العالم. فهو نفسه أبعد هذه الشبهة عن نفسه، حينما سأله بيلاطس: أأنت ملك؟ فأجاب: إنَّ مملكتي ليست من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خدّامي يُجاهدون لكي لا أُسلم إلى اليهود (يو 18:36). الكنيسة تُلقِّبه بلقب أرضي، إذ لا يوجد كلمة أُخرى، عرفها النّاس، لرفع مقام شخص، إلاّ هذا اللّقب، ولو كانت مُهمَّتُه تختلف. سلطة الملوك الأرضية، محدودة على أرضٍ وشعبٍ مُعيّن، وأما سلطة ملوكيّة يسوع فهي روحية، لذا فهي عامة وأعلى من أي ملوكيّة أُخرى.

 

قبل عهد المسيح، كان العالم الوثني يُحب إعطاء الحكّام، لقب القيصر الإلهي. فهذا مثلا الكسندر الكبير، الّذي أنهى الحكم الفارسي بانتصارته الواسعة، بعد أكثر من 200 سنة في مصر عام 332 قبل المسيح، استقبله المصريّون كإبن اله الآلهة اليونان زويس Zeus. فسُرَّ الكسندر بهذا اللقب ورأى نفسه كملك العالم. كذلك كان اللقب مُحبّباً عند القياصرة الرّومان. فهذا القيصر أغسطس، أُعطِي في آخر حياته لقب الإله أغسطس، وبعد اغتياله، قرّر مجلس الشّيوخ إعطاء خلفه القيصر أغسطس لقب الإله. نجد صورته على على العملة المتداولة، مع الكتابة: إكراما لأغسطس قيصر إبن الإله. كما وخلفه دوميسيان، الّذي الذي أعطى نفسه لقب الكيريوس (الرّب). أما القيصر تيبيريوس فقد هيأ لنفسه تمثالا ضخما يبيّنه عريانا، وأمر بوضعه قبل مدخل الهيكل وأمر كل داخل إلى الهيكل أن يمرّ قدام تمثاله يحني له الرأس والرّكبة قبل أن يدخل الهيكل ويحني رأسه أمام يهوى، الذي كان قد قال لشعبه: أنا هو الرّب إلهُك فلا يكن لك إله غيري. بل ووصلت غطرسة هؤلاء القياصرة أنهم  صاروا يُحبرون المسيحيين أن يحنو ركبهم أمام تماثيلهم وأن يُقدِّموا لهم ذبائح ومُحرقات، لا ليهوى. كل هؤلاء حصلوا على ألقاب قياصرة وأولاد آلهة، بحروبهم وجيوشهم، التي كانوا يفتخرون بها، إلاّ ابنَ الله الحقيقي، يسوع المسيح، الّذي ما أتى ليَملُك بالقوّة بل ليَخدم. وما  نشر لا الخوف ولا الموت بين البشر، بل السّلام والمحبّة، لكلِّ من يؤمن ويعترف به.

 

إنَّ عصر الشّيوعية ما كان احسن أو أهون على المسيحيين من زمان القياصرة الرومان. ففي سنة الثورة الشّيوعية عام 1917 قد أُعْلِنَ الإلحاد الإجباري، إذ قالوا: الله مات. وباشروا بتدمير ما لا يقلُّ عن 160 ألف كنيسة، لحقها قتل ما لا يقل عن 120 ألف كاهن، وحُرِّمَ عليهم استعمال كلمة يسوع، كما فعلت بوكو حرام مع مسيحيي نيحيريا، قبل سنوات، حيث منعوهم من استعمال كلمة الله، فهي حِكْرٌ على الإسلام. فبقدر ما هي الديانة المسيحية مسالمة وعلى رأسها ملك مسالم، بقدر ما هي ضحيّة العنف والإضطهاد، والرّفض لمعاملة مؤسِّسها السّلمية. اليهود رفضوه لأنه لم يستعمل القوّة ولم يُساندهم على طرد المستعمر من البلاد. إن أكبر غلطة التّاريخ هي مقارنة مُلْك يسوع بالملك الأرضي، وبرفض يسوع لأنه ما كان سياسيّا، ولا اهتمّ بتغيير الأنظمة السّياسية لا في زمانة، ولا في أيِّ زمان آخر.:هوذا ملككم!.. فصاحوا: ليس لنا مَلِك إلا قيصر" (يو 14:19). هم الذين ما كانوا راضين ولا قابلين بالقيصر وباستعماره، لكنهم أعلنوا ولائهم للقيصر بشرط أن يُزيل لهم شبح الّذي يدّعي أنه ابنُ الله. وإذ سأله بيلاطس: هل أنت ملك؟ قال له يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم.

 

ولكي يُبرّر موقفه أمام قيصره في روما وإهانةً للمُستَعْمَر، الّذي أصرّ على بيلاطس أن يُخلِّصهم من المُشاغب يسوع ويقتله، كتب علّةَ قتله على لوحةٍ فوق الصليب: يسوع النّاصري ملك اليهود. فاحتجوا من جديد وقالوا: لا تكتب: ملك اليهود، بل هو ادّعى ذلك! أما بيلاطس فقد استهزأ بهم وقال: ما كتبتُ فقد كتبت!

 

جاء يسوع ليؤسّس ملكوت سلام هنا على الأرض. وهذا ما بشّر به الملائكة عند ولادته: المجد لله في العُلى وعلى الأرض السّلام. هذا ونفهم من كلِّ حياته، أنّ ملكوته لا يمتدّ ولا يتوسّع إلا بطريقة سلميّة وبواسطتنا: نحن انتمينا إلى هذا الملكوت بالعماد، وبعد سر التثبيت صرنا المبشرين الرّسميين: ليأت ملكوتك، بنا وبواسطتنا، فهل نشعر بهذه المسؤوليّة؟ ملكوته أبَدي، بينما ممالك العالم فزائلة، لأنها تقوم على السلطة والحروب، لذا فهي تهفي بعضها بعضًا. بالمناسبة ما تغيّرت ممالك بملوكها وحكامها بطريقة هائلة، كما في القرنين العشرين والحادي والعشرين، في ذلك الوقت ومن عام، 1925 أعطت الكنيسة ليسوع لقب ملك، لأنَّ ملكوته وحده دائم، إذ هذا الملكوت لا يقوم على استعمال السلطة السياسية لكن الأدبية الروحية، هو ملكوت رحمة ومحبّة وعدل وسلام، كما نصلّي في مقدّمة هذا العيد.

 

إنه لمنطقي أن تنتهي السنة الليتورجية بعيد اليوم، عيد يسوع الملك. إذ من هو أحقُّ من يسوع، الذي خلق العالم وخلَّصه، أن يحمل لقب ملك؟ أناجيل الآحاد، التي نسمعها، أحدًا بعد أحد، طيلة السنة، كانت تخبرنا عن تفاصيل حياة هذا المدعو يسوع المسيح ابن الله، الذي ولد قبل أكثر من ألفي سنة على أرضنا، حيث كرز وعلّم وصنع عجائب لا توصف، وبالتالي مات أشنع ميتة عرفها التّاريخ، مات وقبر، لكنه قام من الموت، لذا لم ينسه التاريخ حتى هذا اليوم، ولن ينساه. وها الكنيسة تبجِّله بلقب ملك العالم اليوم، وتعني به أنّه خالق العالم ومُخلِّصه، بل خالق كلَّ واحد منا ومخلِّصه.

 

هو كما تسميه ليلة عيد الفصح: الألف والياء، البدابة والنّهاية، أي ملك الملوك. فلقد ابتدأ الزمان المسيحي بولادته، وسيكون تتميمه تحت سلطته. وهذا ما يؤكِّده لنا نصّ القراءة الأولى، التي سمعناها، وهي مأخوذة من كتاب النبي دانيال. فلنسمعها من جديد: "رأيت فإذا بمثل ابن البشر، آتيًا على سحاب السّماء، فبلغ القديمُ الأيام وقُرَّب إلى أمامه، وأُتِي سلطانًا ومجدًا ومُلكًا. فجميع الشّعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانه سلطان أبدي لا يزول وملكُه لا ينقرض" (دانيال 7: 13 و14).

 

يسوع هو ملك بسبب محبّته الشاملة للبشر، ملك إذ اشترانا بدمه الثمين، وثانيًا ملك بقيامته، التي سيمنحُنا إياها. لكن من يسمع هذه الحقائق يقول: هذا لاهوت عالٍ وليس لكل إنسان بسيط. إذ تحت كلمة ملك هم لا يفهمون إلاّ رجلا يرتدي ملابس الأرجوان الفاخرة وعلى رأسه تاج ذهبيّ ويسكن قصرًا فاخرًا، حوله حرس وحرّاس تخدمه، وجيوش مدجّجة بالسّلاح لحمايته وحماية وطنه. فإن افتكرنا أن يسوع كان ملكًا بهذه المعايير والمقاييس، فنحن على خطأ. إذ من كلِّ هذا، لا نجد في يسوع إلاّ كلمة ملك مطابقة، ولكن كخادم، لا كمتسلّط: ليكن كبيرُكم خادِمَكم. حتى لم يقبل من بطرس أن يستل السيف ويدافع عنه: أُردد سيفك إلى غمده! لأنّ من بالسّيف يَأخُذ، بالسيف يُؤخَذ (متى 52:26).

 

فيا ملك السلام، أعطنا السلام الحقيقي أُملك على قلوبنا وعالمنا بحبّك. آمين