موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨

هل أنتمي إلى حدث التجسّد؟

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا

استهلتُ موضوع تأمّلي بهذا التساؤل وسأنهيه بالمثل، خاصة ونحن على أعتاب التهيأ لأستقبال ميلاد المسيح له كل المجد. برغمِ ما يواجهنا من تناقضات واقع حياة فيه: الجميل والبشع، الرجاء والأحباط، الشك واليقين. وبما إننا نتأمل في أمور أحتفالية وتقليدية كثيرة متعلقة بالميلاد - وهذه كلها قد تكون مفيدة ونافعة - ولكن نخشى أن يفوتنا في ما هو أسمى وأعظم من كل ذلك .. أنه "التجسّد": الحدث الهام والموضوع الرئيسي للميلاد. فقدسية هذا الحدث وما تظهره لنا عظمة "المبادرة الإلهية"، بأن المولود هو "الله الذي ظهر في الجسد" (1 تيموثاوس 3: 16)؛ هو فعل حب لامتناهي من قبل الله لأجل خلاصنا. فالمستحيل أصبح ممكناً، وأظهر للبشر "إنسانية" الله، لأن الله : "ليس هو إلا محبة". فيسوع "الكلمة" المتجسّد، قد كشف لنا: "حنان الله مخلصنا ومحبته للبشر" (تيطس 3: 4). لأن الكلمة قد أتحد بيسوع منذ البداية، والكلمة تأنسنَ أي صار إنساناً، شاركنا: "في اللحم والدم" (عبرانيين 2: 14). تأنسنْ الكلمة هو "أخلى ذاته Kenosis" كما تحدث عنه نشيد فيلبي (2: 7)، والذي يكمن إذاً بذلك التجرد الإلهي في إن "الله / الأبن" أصبح إنساناً ليكشف "الله / الآب" للإنسان: "الأبن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" ( يوحنا 1 : 18 )، فيسوع قد أتى ليعلن للإنسان من هو الله في سر كينونته وحقيقة جوهره. فالفكرة الفلسفية الموضوعة عن الله هو أنه لا يتغيّر Immutable ولا يتأثّر Impassible. بينما النظرة المسيحية لله هي إن "الله / الكلمة" قد تغيّر وتأثّر من خلال "إنسانيته" بـ "إنسانيتنا": إذ أخذ جسداً بشرياً، تأثر بالفرح والألم وبالعلاقات البشرية .. مات وهو مانح الحياة. وهنا أصبح تاريخ يسوع تاريخ الله نفسه، وبذلك دخل تاريخ البشرية داخل الله. فأصبح الله اللامتغير "متغيراً" بموجب التجسّد واللامتأثر "متأثراً" بالأوضاع البشرية ولا سيما الألم والموت. وهنا قد يتساءل البعض: كيف يظل الله هو "نفسه"، وهو يأخذ جسداً أي "يتغير" ..!؟ إن السر المسيحي هو سر "الهوية Identity / الغيرية Otherness" معاً، بيد إن الله يصبح إنساناً ( الغيرية ) دون أن تتلاشى إنسانيته في ألوهيته ( الهوية ). بما معناه أن سر التجسّد يحافظ على كلتا "الألوهية والإنسانية" دون أي أمتصاص أو تلاشي أو ذوبان: أي أن الله يظل هو نفسه "هويته" عندما يأخذ جسداً عن طريق "الغيرية" أي بالتبادل مع الغير. فمع أهتمامنا اليوم بناسوت المسيح وتشديدنا على حياته الأرضية ( التجسّد )، نؤكد على "نتيجة" التجسّد أي على تقديس الإنسان وتأليهه. لذا فعلى المسيحي أن يتقبّل "المبادرة الألهية"، كما تقبّل الأبن "ذاته" من أبيه عندما أفرغ ( أخلى ) الآب "ذاته" لأبنه الوحيد بفعل "المحبة": التي هي هبة مطلقة وبذل كامل. فالآب يهب ذاته وكيانه ومحبته لأبنه. لذا فإن الآب هو "خروج من ذاته" و "إنفتاح على أبنه". ومن هنا أهمية هذا الإختبار المتجسّد في الذات، الذي يعلمنا أن الإنسان لا يبلغ نضجه وكمال صورته ألا بقدر ما "يخرج من ذاته" و "ينفتح على الآخر"؛ إلى هذا العالم الفسيح ويواجه الأشياء في حقيقتها، وهي في الأغلب حقيقة تعاكس رغباته الذاتية المباشرة. يحاول أن يجسّد الإيمان بالأعمال، بتحقيق "الإلادة الجديدة" وديمومتها، ليصبح كل إنسان أبناً حقيقياً لله بـ "التجسّد". فالخروج من الذات هو عدم التفكير الأناني في الذات وعدم الإنطواء على الذات وعدم الإنكماش على الذات، كما تجسد الله الكلمة. وبالتالي "يتأله الإنسان" كنتيجة للتجسّد، أي ينتقل إلى الحياة الإلهية، إلى حياة الله نفسها، إنطلاقاً من المزمور: "عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحيّ" ( مز 42: 2 ). وهنا تنبثق السعادة السماوية. وفي الختام، يضعنا حدث التجسّد أمام إمتحان لذاوتنا وعلامة لمحبة الله الحاضرة فينا ومقياس حقيقي لإنسانيتنا المدعوة إلى النضوج. فكلما زدنا نضجاً بإنسانيتنا، تركنا بصمات من المحبة والخدمة لا تمحى في تاريخ الأشخاص الذين نتفاعل معهم. فالإنتماء إلى "التجسّد"، هو المقياس الصحيح والنوعي، لمدى إلتزامنا الفاعل سواء في العائلة أو المجتمع أو الكنيسة، ومن ثم في البشرية جمعاء. بالرغم من المغريات الكثيرة والحاجات المتنوّعة والإهتمامات المتزاحمة في عالم اليوم الذي فقد حسّ التضامن والشركة والتعاون؛ بالإضافة إلى ما نواجهه من عنف الأيديولوجيات والضغط الإعلامي والسياسي الموجّه. الميلاد يدفعنا إذاً إلى معرفة حقيقة التجسّد وتفعيلها، ومن ثم العودة لأتخاذ قرار جدّي لخياراتنا إزاء الأزمات التي تمرّ بها إنسانيتنا. وهذا مما يحفزنا على الدوام ليطرح كل واحد منا تساؤل موضوع تأملنا: "هل أنتمي إلى حدث التجسّد".. وعلى أي نوعية وجودة سيكون إنتمائي من وإلى إخوتي البشر..!؟